سعود قبيلات ▣
يُحلِّلُ قسمٌ كبيرٌ من اليسار الأردنيّ طبيعةَ النِّظام القائم في البلاد وتحوُّلاته الاقتصاديَّة والسِّياسيَّة تحليلاً «طبقيَّاً» اقتصادويَّاً، يُغلِّب العاملَ الاقتصاديَّ على العاملِ السِّياسيِّ مِنْ دون أخذِ خصوصيَّةِ النِّظامِ في الأردن بعين الاعتبار. وترتبط بهذا التَّحليل القاصر مقولاتٌ غيرُ دقيقةٍ؛ مِنْ مثل: مقولة «التَّحالف الطَّبقيّ الحاكم» ومقولة «الحكومات المتعاقبة».. الخ.
هذا التَّحليلُ تبسيطيٌّ ميكانيكيٌّ وليس طبقيّاً ولا ديالكتيكيّاً؛ وعموماً، التَّحليلُ الطَّبقيُّ الحقيقيُّ هو حتماً تحليلٌ ديالكتيكيٌّ؛ أي أنَّه يرى الواقعَ كما هو فعلاً، وفي حركته، ليبني مقولاته بالاستناد إلى ذلك وليس بالاستناد إلى تصوّراتٍ مسبقةٍ أو مقولاتٍ جاهزةٍ يسعى أصحابُها إلى تكييف الواقع لكي يتطابق معها.
وهذا التَّحليلُ، مبنيٌّ على جهلٍ (أو تجاهلٍ) لحقيقةَ أنَّ النِّظامَ القائمَ في الأردن لم ينبثق مِنْ تفاعلاتٍ طبقيَّةٍ وسياسيَّةٍ محلِّيَّة؛ بل جاء به الانتداب البريطانيّ وركَّبه على البلاد وجيَّر جميعَ الوقائعِ الاقتصاديَّة والسِّياسيَّة قسراً لتخدم استمرارَ وجودِه في سدَّة السُّلطة كنظامٍ وظيفيّ.. وظيفته هي القيام بكلّ الإجراءات السِّياسيَّة والاقتصاديَّة الضَّروريَّة لتسهيل خطوات تنفيذ وعد بلفور. ولذلك، فالسِّياسات الأساسيَّة لهذا النِّظام (أو، بالأحرى، السِّياسات الَّتي ينفِّذها)، سواء أكانت سياسيَّة أم اقتصاديَّة، هي سياساتٍ مرتبطةً بمتطلَّبات وظيفته – كما تقرِّرها المراكز الإمبرياليَّة – أكثر ممَّا هي حصيلة لعوامل داخليَّة. مِنْ هنا، لا يمكن فهم هذه السِّياسات فهماً صحيحاً عن طريق إعادتها إلى عوامل محلِّيَّة بحتة.
قبل استقدام هذا النِّظام، كانت الحياة السِّياسيَّة في الأردن تتفاعل في اتِّجاهٍ آخر مناقضٍ تماماً لكلّ ما جرى بعد استقدامه؛ فهي آنذاك كانت منبثقةً من تفاعلات الواقع المحلِّيّ (الأردنيّ) والواقع السُّوريّ (واقع سوريا الطَّبيعيَّة) عموماً. تؤكِّد هذه الحقيقةَ مضامينُ قرارات المؤتمرات الوطنيَّة الَّتي عُقِدَتْ في العام 1920.. «مؤتمر قَم» و«مؤتمر أُمّ قيس» و«مؤتمر السَّلط»، ثمّ «المؤتمر الوطنيّ الأوَّل» الَّذي عُقِدَ في العام 1928 ردَّاً على «المعاهدة الأردنيَّة البريطانيَّة».
ولكي نرى مدى الفرق بين التَّفاعلات السِّياسيّة الطَّبيعيَّة، الَّتي كانت تجري في البلاد، وبين المسار الَّذي فرضه الانجليزُ وأتباعُهم لاحقاً، أستعيرُ، هنا، مقارنةً مهمّةً أجراها الدّكتور عصام السَّعديّ بين مقرَّرات معاهدة أُمّ قيس وبين ما اتَّفق عليه عبد الله الأوَّل مع ونستون تشرتشل (وزير المستعمرات البريطانيَّة آنذاك). وتالياً، ملخَّص تلك المقارنة:
1. «بينما لم يَرِدْ اعترافٌ بسقوط الدَّولة العربيّة السُّوريَّة في اتِّفاق أم قيس، استند اتِّفاق عبد الله/ تشرشل إلى ذلك وكرَّسه»؛
2. «بينما أقرَّتْ معاهدةُ أمّ قيس مبدأ السِّيادة الوطنيّة، وعدم تسليم "المجرمين السِّياسيين"، بمعنى آخر أعطت "شرق الأردن" حقَّه القانونيّ في ممارسة وتشجيع المقاومة الوطنيّة المسلَّحة ضدَّ الاحتلال الفرنسيّ، فإنَّ اتِّفاق القدس تضمَّن بنداً ينهي حالة العداء مع الاحتلال الفرنسيّ، ويضمن سلامة الحدود مع سورية وفلسطين»؛
3. «في حين أكَّدت اتِّفاقيَّة أمّ قيس على إنشاء جيشٍ "محلِّيّ" وطنيّ، أشارت اتِّفاقيّةُ القدس إلى "إقامة قوَّةٍ لحفظ الأمن"، ليس إلّا»؛
4. «في الوقت الَّذي رفضت فيه معاهدةُ أمّ قيس إعطاءَ السُّلطات البريطانيّة حقَّ الوجود العسكريّ في "شرقي الأردن"، أجازت اتِّفاقيّةُ القدس ذلك»؛
5. «في وقتٍ تضمَّنت فيه اتِّفاقيّةُ أمّ قيس بنوداً واضحةً تتعلَّق بمنع الهجرةِ اليهوديّةِ إلى "شرقي الأردن" وشراءِ اليهود لأرضٍ فيه، وتأكيدِ حرِّيَّة التَّبادل التِّجاريّ مع الأقطار المجاورة، والحقِّ في إقامة علاقاتٍ دبلوماسيّةٍ دوليّة، وتأكيدِ عدم علاقةِ "شرقي الأردن" بحكومة الانتداب البريطانيّ في فلسطين... الخ، فإنَّ اتِّفاقَ عبد الله/ تشرشل لم يتضمَّن شيئاً مِنْ هذا». [«الحركة الوطنيَّة الأردنيَّة 1921 – 1946» - الدّكتور عصام السَّعديّ. ص 105].
آنذاك، كانت طموحاتُ الشَّعب الأردنيّ وأحلامُه متأجِّجةً ومحلِّقة، وقد عبَّرتْ عنها مطالبُ انتفاضةِ البلقاء الَّتي اندلعت في 16 أيلول من العام 1923. ويلخِّص الدّكتور عصام السَّعديّ تلك المطالب بما يلي:
«1. إقامة حكم وطنيّ؛
2. تأسيس مجلس نيابيّ تكون الحكومة مسؤولة أمامه؛
3. إقالة حكومة مظهر رسلان والعمل على إنجاز استقلال البلاد؛
4. إشراك أبناء البلاد في مسؤوليَّة الحكم، وإيجاد فرص عمل للمثقَّفين العاطلين عن العمل؛
5. الحدّ مِنْ سلطات الأمير؛
6. إطلاق الحُرِّيَّات العامَّة؛
7. إلغاء الضَّرائب والدّيون المستحقَّة على الفلَّاحين لسنة 1923». [المرجع السَّابق – ص 166].
وهذه المطالب والطّموحات والأحلام المشروعة، تمّتَ عرقلتُها – مبكِّراً وباستمرار – لصالح وظيفة النِّظام. وطوال المئة سنة الماضية، حَرِصَ النِّظام أشدَّ الحرص على أن يكون أداؤه لمهامّ وظيفته تلك هو أولويَّته الأولى، مضحِّياً بطموحات الشَّعب الأردنيّ الوطنيَّة ومصالحه المشروعة وحقوقه العادلة على مذبح تلك الوظيفة.
وانسجاماً مع مهامِّه الوظيفيَّة، عطَّل النِّظامُ باستمرار عجلةَ التَّنمية الوطنيَّة، ورَهَنَ البلاد للمعونات الخارجيَّة وأثقل كاهلها بالقروض الباهظة، ولم يبنِ مؤسَّساتٍ حقيقيَّةً.. بل أنشأ هياكلَ إداريَّةً وسياسيَّةً صوريَّة لتلهية النَّاس بها وإشغالِهم عن رؤية واقعهم على حقيقته؛ كما أنَّه فرض نفسَه كحكمٍ فرديٍّ مطلق.. حيث الأوتوقراطيَّة هي نمطُ الحكم الوحيد الملائم للدَّور الوظيفيّ المزمن (والمرفوض شعبيَّاً) الَّذي يضطلع به النِّظام.
بالطَّبع، جرت، خلال المئة سنة الماضية، تغيُّراتٌ اقتصاديَّةٌ عديدة، وصعدت طبقاتٌ وشرائحُ طبقيَّة، كما هبطت طبقاتٌ وشرائحُ طبقيَّة أخرى.. بعدما كانت في الواجهة لفترةٍ من الزَّمن (طالت أم قَصُرتْ)؛ لكنَّ هذه التَّحوُّلات والتَّغيُّرات لم تجرِ نتيجة تفاعلٍ طبقيٍّ داخليٍّ تلقائيّ، بل أُجرِيَتْ بقرارٍ سياسيٍّ ولخدمةِ تحوُّلاتِ وتطوُّراتِ وظيفة النِّظام في المراحل المختلفة. وأنا، هنا، لا أنوي أن أسرد تاريخَ تلاعب النَّظام بالبُنية الطَّبقيَّة (والاقتصاديَّة، عموماً) في البلاد وغاياته؛ فهذا يحتاج إلى بحثٍ طويلٍ متخصِّصٍ ومدعَّمٍ بالأرقام والوقائع، مع بيانِ الظّروفِ السِّياسيَّةِ لكلِّ واقعةٍ مِنْ وقائعه.
في البداية، جرى شُغلٌ منهجيٌّ كبيرٌ لتدمير نمط الإنتاج الزِّراعيّ والحرفيّ البدائيّ؛ حيث سُهِّل دخولُ منتجاتٍ زراعيَّةٍ منافسةٍ بأسعارٍ رخيصةٍ (الطَّحين الاستراليّ والكنديّ والأميركيّ، على سبيل المثال). وفي النِّهاية، أصبح الإنتاجُ المحلِّيُّ غيرَ مجدٍ اقتصاديّاً، فسُدَّت أبوابُ العيشِ الكريمِ المستقلِّ أمام الفلَّاحِ الأردنيّ.. بعدما كان، قبل ذلك، يرى نفسَه سيِّداً محترماً في أرضه وعزيزاً بإنتاجها. وفي تلك الفترة نفسِها، فُتِحَتْ أبوابُ الوظيفةِ الحكوميَّةِ أمام الفلَّاحين وأبنائهم.. لتكون وحدَها هي ملجؤهم لتدبيرِ أمورِ معيشتِهم. وكانت الغايةُ مِنْ ذلك كلِّه هي كَسْرُ استقلاليَّةِ الفلَّاحِ الأردنيِّ وتدميرُ اعتدادِه بنفسِه، وخَلْقُ قاعدةٍ اجتماعيَّةٍ للنِّظام.
وفي ستينيَّات القرن الماضي، وجد النِّظامُ نفسَه في منافسةٍ حادَّةٍ لا ترحمُ مع النَّجاحات الكُبرى لنموذج رأسماليَّة الدَّولة الوطنيَّة في سوريا ومصر والعراق والجزائر ودولٍ أخرى؛ فاتَّجه إلى استعارة بعض الملامح الاقتصاديّة والإداريّة لنمط رأسماليَّة الدَّولة، لكن مع تفريغها مِنْ محتواها الوطنيّ؛ فكان نموذجه النِّهائيّ هو نموذج رأسماليَّة الدَّولة التَّابعة في مقابل نموذج رأسماليَّة الدَّولة الوطنيَّة..
توسَّع القطاعُ الحكوميُّ، في تلك الفترة، وأُنشئت المؤسَّسةُ التَّعاونيَّةُ، وبدأت بالظّهور أنويةُ التَّأمينات الاجتماعيَّة، كما تحقَّق العديد من المكاسب العمّاليّة والاجتماعيَّة، وانتشر التَّعليم المجانيّ، وبدأ استغلالُ العديد من الثَّروات الوطنيَّة بإدارة حكوميَّة.. الخ. وهذا بمجملِه أدَّى إلى كسبِ أوساطٍ اجتماعيَّةٍ إضافيَّة ضمن القاعدة الاجتماعيَّة للنِّظام.
وبعد ذلك، تصدَّر القاعدةَ الاجتماعيَّةَ المستجدَّةَ للنِّظامِ جناحان.. هما جناحُ البورجوازيَّةِ البيروقراطيَّةِ وجناحُ البورجوازيَّةِ الكمبرادوريَّة.
ومع الزَّمن، أصبح من الصَّعب تمييز البورجوازيَّة البيروقراطيَّة من البورجوازيَّة الكمبرادوريَّة؛ ولا يعود ذلك إلى كونهما كلتيهما شريحتين من البورجوازيَّة الطُّفيليَّة، بل إلى ما هو أبعد مِنْ ذلك؛ فكبارُ البيروقراط راحوا ينتقلون إلى العمل في البزنس، وخصوصاً في مجال وكالات الشّركات الأجنبيّة متعدّدة الجنسيَّة، وهم بهذا كانوا ينتقلون إلى شريحة الكمبرادور مع احتفاظهم بشيءٍ مِنْ ميراثِهم الثَّقافيّ والوجدانيّ كبيروقراط؛ كما أنَّ العديد مِنْ رموز الكمبرادور راحوا يتولّون المناصبَ الحكوميَّةَ العُليا، فكانوا بهذا ينتقلون جزئيّاً إلى شريحة البيروقراط مع احتفاظهم بسماتهم (ومصالحهم) الكمبرادوريَّة.. الخ.
وهنا، توهَّم قسمٌ من اليسار أنَّ هذا الوضع يمثِّل تحالفاً طبقيّاً ممسكاً بدفَّة السُّلطة؛ لكن الوقائع والأحداث أثبتت دائماً أنَّ السُّلطة الحقيقيَّة في يد الملك وحدِه، وأنَّه تبعاً لتطوّرات وظيفة النِّظام في المراحل التَّاريخيَّة المختلفة كان الملكُ يرفع شريحةً طبقيَّةً إلى الواجهة السِّياسيَّة والاقتصاديَّة ويخفض شريحةً طبقيَّةً أخرى مِنْ سدَّة السُّلطة (أو النُّفوذ الاقتصادي) إلى الحضيض وربَّما يدفعها إلى التَّلاشي والاندثار. وإذا راجعنا ذاكرتنا، سنجد الكثيرَ مِنْ وقائع التَّصعيد والخفض هذه.. سواء أكانت فرديَّة أم على مستوى الشَّرائح الطَّبقيَّة المختلفة.
وهكذا، يمكن القولُ إنَّ هذه الشَّرائحَ الطَّبقيَّة المتصدِّرة إنَّما هي قاعدة اجتماعيَّة للنِّظام، وليست «تحالفاً طبقيّاً حاكماً».. كما دأب بعض اليسار على القول.
وبناء على ما سبق كلِّه، فإنَّنا نرى أنَّ العاملَ السِّياسيَّ هو العاملُ الأساسيُّ والحاسمُ في التَّحوُّلاتِ السِّياسيَّةِ والاقتصاديَّةِ للنِّظامِ في الأردن.. منذ نشوئه وحتَّى الآن. أمَّا العاملُ الطَّبقيُّ الاقتصاديُّ فهو عاملٌ متغيِّرٌ وتابعٌ للعاملِ السِّياسيِّ الثَّابت.. لأنَّ وظيفةَ النِّظامِ، الَّتي هي ذاتُ أهمِّيَّةٍ وجوديَّةٍ بالنِّسبة له، إنَّما هي وظيفةٌ سياسيَّةٌ وليست اقتصاديَّةً.
ولهذا، رغم عمره الطَّويل نسبيَّاً، لم يُنشئ النِّظام واقعاً اقتصاديَّاً يمكن الاعتماد عليه. وكان تعامله مع الاقتصاد دائماً في حدود عمليَّة إدارة الأزمة، ولم يقترب مِنْ حدود التَّنمية إلا خلال فترة محدودة في ستينيَّات القرن الماضي.. عندما اضطرّ للاستجابة لتحدِّيات نموذج رأسماليَّة الدَّولة الوطنيَّة، كما سبق أن أشرنا. وبعد انهيار نموذج رأسماليَّة الدَّولة الوطنيَّة، انقضَّ النِّظامُ على جميع المشاريع الاقتصاديَّة المهمّة الَّتي نشأتْ في تلك الفترة.. فباعها بأبخس الأثمان، كما أنَّه تراجع عن الكثير من المكاسب الَّتي حصل عليها النَّاس سابقاً.
كما سبق أن أشرنا، نظامُ الحُكمِ القائم في الأردن نظامُ حُكمٍ فرديٍّ مطلق؛ لأنَّ هذا هو أسلوب الحكم الوحيد الَّذي يمكن أن يضمن لأمدٍ طويل أداءَ وظيفةٍ مرفوضةٍ شعبيّاً؛ ومِنْ دونه – وخصوصاً في حال أُعطيت السُّلطة للشَّعب (كما ينصّ الدّستور) – لا يمكن ضمان الاستمرار في أداء مهامّ هذه الوظيفة. وقد ازداد تشديد الطَّبيعة الأوتوقراطيَّة للنِّظام في السَّنوات الأخيرة، انسجاماً مع نصوص معاهدة التَّعاون الأميركيَّة الأردنيَّة المذلَّة، ومع انتشار القواعد العسكريَّة الأميركيَّة على الأرض الأردنيَّة.
وهنا، نأتي إلى مقولة «الحكومات المتعاقبة»! فنتساءل: ما هي القيمة النَّظريَّة والسِّياسيّة الَّتي يمكن أن تُضيفها هذه المقولة إذا كانت الحكومات تأتي وتذهب بقرارٍ فرديٍّ مطلقٍ تحكمه متطلَّبات وظيفة النِّظام؟ الحكومات، هنا، مجرَّد متغيِّر شكليّ ثانويّ؛ أمَّا الثَّابت والجوهريّ، فهو وظيفة النِّظام.
وهذا الحال المائل أصبح أشدَّ وطأةً في العقود الأخيرة؛ ففي السَّابق، كانت تفاصيل الحياة اليوميَّة متروكةً على الأغلب للحكومات؛ أمَّا الآن، فيوجد في الدِّيوان الملكيّ حوالي 4000 موظَّف هم في الواقع الحكومة الحقيقيَّة والدَّائمة.. بغضِّ النَّظرِ عن «تعاقب الحكومات». وهؤلاء الموظَّفون لا يظهرون أمام النَّاس ولا يُساءلون عن قراراتِهم، بل يتركون الظّهور للواجهات.. أي الحكومات؛ لتتحمَّل مسؤوليَّةَ قراراتِهم بدلاً منهم.
وفي الخلاصة، عندما نكون إزاء هذه الحقيقة المُرَّة، فنغضُّ أبصارَنا عنها ونتكلَّمُ عن «الحكومات المتعاقبة» ونحمِّلها مسؤوليَّة السِّياسات الجائرة، فإنَّنا نكون قد اخترنا أن نلعب في الملعب الَّذي حدَّده لنا النِّظام، وأن نفكِّر ونتكلَّم كما يريد لنا أن نفكِّر ونتكلَّم، لنجد أنفسنا – بالنَّتيجة – مشاركين في التَّستُّرِ على جوهره الأوتوقراطيّ القروسطيّ ودوره الوظيفيّ المرفوض.
وهذه هي الطَّامَّة الكُبرى.. كما ينصّ القول المأثور.