سعود قبيلات ▣
رأيتُ،
بالمصادفة، أمس، أنّ ابني «ورد»
قد كتبَ على صفحته في الفيسبوك، قائلاً إنَّ: «الطيران
موقف».
«ورد»
يدرس الطيران المدنيّ في إسبانيا؛ تحديداً في مدينة «ملقا»
الأندلسيّة الاسبانيّة (مالقة، كما كان يسمّيها العرب الأندلسيّون).
«ورد»
كان الطيران هو حلمه الكبير منذ طفولته، وقد حاول الدراسة في أكاديميّة الطيران الأردنيّة
في ماركا (لا أذكر اسمها الرسميّ بالضبط)؛ ولكن، مع أنّه كان يدرس على حسابه الخاصّ،
ومع أنّه –
بخلافي –
لم يعمل في السياسة، إلا أنّه طُلِبَ إلى المخابرات وتمّ التحقيق معه، أكثر مِنْ
مرّة.. لا لشيء سوى أنّه ابني، وباعتبار أنّه «لا
تزر وازرة وزر أخرى»!
وبالمناسبة،
بسببي أيضاً، لا أحد مِنْ أشقّائي وشقيقاتي حصل على وظيفة حكوميّة، ومثلهم ابنتي
وابني. وتقريباً، للسبب نفسه، كلّ واحد ينتهي اسمه بلقب «قبيلات»،
طُلِبَ للتحقيق عند تعيينه في وظيفة حكوميّة.
ما
علينا! على حدّ تعبير الراحل إميل حبيبيّ..
سرعان
ما رأى «ورد»،
بالتجربة، أنّه لا فرصة له للعمل كطيّار مدنيّ في بلاده إذا ما تخرّج مِنْ الأكاديميّة الموجودة في ماركا، وما دام لا توجد له واسطة
في نطاق العصابة المهيمنة على البلد، وما دام والده متّهماً أبديّاً مِنْ أرباب السلطة
الذين قدموا إلى البلاد منذ حوالي مئة سنة فقط وأصبحوا –
مع ذلك –
يتحكّمون بنا ويقرّرون مصائرنا مِنْ دون أنْ يأخذوا رأينا بعين الاعتبار، كما أنّه
لا فرصة له أيضاً للعمل في أيّ بلد آخر بشهادة الأكاديميّة الأردنيّة؛ فما دامت
الدولة التي توجد فيها هذه الأكاديميّة لا تشغِّل خرّيجيها، فلماذا تشغِّلهم الدول
الأخرى إذاً؟
لذلك،
شجّعناه على قطع دراسته في الأردن، والبحث عن فرصة للدراسة في أيّ بلدٍ آخر.
وقلتُ
له (أنا الذي سبق لي أنْ رفضتُ، في سالف الزمان، تخيير المخابرات لي بأنْ أغادر
البلاد إلى تشيكوسلوفاكيا أو أُسجن لسنين طويلة. ثم، بعد خروجي من السجن، رفضتُ
رجاءات رفاقي وضغطهم عليّ أنْ أُغادر البلاد إلى موسكو، ممثّلاً لهم، هناك،
معزَّزاً مكرّماً في الدولة العظمى الثانية) قلتُ له: أي بُنيّ (على طريقة العرب القدماء)، هذه البلاد لم
تعد لنا في الواقع؛ فنحن، رغم أنّ جذورنا فيها تمتدُّ إلى مئات السنين (هذا إذا تواضعنا
ولم نقل: آلاف السنين)، وكنّا فيها أعزّاء كرماء، إلا أنّنا الآن لم نعد أكثر مِنْ
هنود حمرٍ. يمكن لأيّ هاوي صيد أنْ يصطاد أحدنا، مثلاً، لقاء ثمنٍ بسيط يدفعه لـ«الرجل
الأبيض»، ويمكن لأيّ كاوبوي طارئ
أنْ يفعل بأيٍّ منّا ما يشاء.
ومِنْ
حُسْنِ الحظّ أنّ «ورد»
قد اختار ملقا ليدرس فيها. فملقا (أو مالقة)، بحسب الدكتور صلاح جرّار.. المتخصِّص
بالدراسات الأندلسيّة، كانت موطناً للأردنيين أيّام الأندلس. بل إنّه قال إنَّها كانت تُسمَّى آنذاك «أردنّ الأندلس». وبالاستناد إلى ما جاء
في كتابه «مدينة مالقة: أردنّ
الأندلس - صفحة مجهولة مِنْ تاريخ الأردنّ»،
فإنّه، ذات مرّة، في ذلك الزمن البعيد، هاجر إلى ملقا عشرة آلاف أردنيّ، دفعةً واحدةً.
وتاكيداً لذلك، فإنّ أكثر مِنْ شاعر مِنْ شعراء ملقا القدماء قد ذكر اسم الأردن في قصائده واستعاد
ذكراه وتغنّى به.
ها قد هاجر أردنيٌّ آخر إلى ملقا بعد مئات السنين.
ها قد هاجر أردنيٌّ آخر إلى ملقا بعد مئات السنين.
تخيّلوا،
أجدادنا إلى أين وصلوا، قبل مئات السنين، وأين انتهى بنا الأمر الآن؟! بل وانظروا
مفارقات الزمان لتروا مَنْ أصبح يتحكّم بنا وينظر إلينا الآن مِنْ علٍ.. كما لو أنّنا نحن مَنْ
تسلّل إلى هذه البلاد مِنْ متاهات الصحراء وعلى غفلة من الزمان؟ ّ!
وبعد
هذا كلّه، يأتينا مَنْ يقول بصفاقة وغباء: لقد كنتم مجرّد عشائر وقبائل متناحرة،
وبلادكم كانت خربة كأطلال جرش، ثمّ بُنِيَتْ لكم طُرق وجامعاتٌ ومدارس وما إلى
ذلك!
يا
ابن الـ(...) وما إلى ذلك، هل بقي بلدٌ في العالم –
مهما كان متخلّفاً –
ليس فيه طُرق وجامعاتٌ ومدراس وما شابه؟!
وماذا لدينا الآن سوى ذلك مِنْ ما هو موجود لدى بلدان قامت بعدنا بكثير؟!
وماذا لدينا الآن سوى ذلك مِنْ ما هو موجود لدى بلدان قامت بعدنا بكثير؟!
ما
علينا، مرّةً أخرى..
أُريد
أنْ أقترح على «ورد»
أنْ يصف الطيران بأنّه حُلم وليس بانّه موقف فقط؛ فوالده، قبله، يزعم بأنّه كان في
صباه أفضل صانع طائرات ورقيّة في مليح؛ بل إنَّني –
ذات مرّة –
صنعت له، أعني «ورد»
نفسه، في صباه، طائرة ورقيّة كبيرة وبخيطٍ طويلٍ طويل (جعلته أطول مِنْ كلّ ما
حلمتُ به في صباي) وطيّرناها معاً في مليح واستمتعنا بمرآها وهي تحلّق عاليةً في
الفضاء.
ثمّ،
مَنْ مِنّا جميعاً مَنْ لم يحلم، مرّةً أو أكثر، بأنّه يطير؟
الإنسان
منذ وُجِدَ على هذه الأرض، التي لا تني تشدّه إليها، وهو يحلم بالتغلّب على قيود
جاذبيّتها والتحليق فوقها.. عالياً عالياً، وخفيفاً رشيقاً.. كما النسيم، أو كما «النورس
جوناثان ليفنجستون»
في تحليقه الأخير (لـ«ريتشارد
باخ»).
ويخطر
في بالي، الآن، مشهد مرسيدس، وهي تطير مع غسيلها المنشور في الخارج، في رواية «مئة عام من العزلة» لماركيز. فأتساءل: هل كان
هذا حادثاً؟ أم حلماً؟
وفي
كتابي «كهفي»،
لا تلبث الشخصيّة الرئيسة، بعد مرورها بمتاهةٍ طويلة ومريرة، أنْ تصعد وتصعد وتصعد..
على درجٍ غير مرئيّ.
والآن،
الأردنيّون جميعاً، بمختلف مكوّناتهم، لم يعد لهم ما يملكونه سوى الحلم. وربّما يكون حلمهم، هو
أيضاً، حلم الطيران.. لكن ليس بالإفلات مِنْ قبضة الجاذبيّة الأرضيّة وحدها،
وإنّما، أيضاً وقبل كلّ شيء، الإفلات مِنْ قبضة هذا الواقع البائس المظلم الذي
يعيشونه في ظلّ تجبّر هذه العصابة الحاكمة.
كانت
مقولة مارتن لوثر كنج الشهيرة، التي طالما ردَّدها قبل استشهاده، هي:
أنا
أملك حلماً.
مارتن
لوثر كنج؛ نحن أيضاً نملك حلماً.. كان أجدادنا يملكونه قبلنا، وقد ورثناه عنهم،
وسنورِّثه لأبنائنا.