سعود قبيلات ▣
في 15 تشرين الثَّاني 1973، صوَّب تيسير السبول فوهةَ مسدَّسِه إلى رأسِه – كما هو معروف – فأنهى بذلك مأساتَه الخاصَّةَ المشتبكةَ مع المأساةِ العامَّةِ الكبرى.. مأساةِ شعبِه وأمّتِه ووطنِه الصَّغير ووطنِه الكبير، وترك لنا إرثاً أدبيَّاً وثقافيَّاً ثميناً؛ كما ترك لنا حَيرةً دائمةً في تفسير السَّبب المباشِرِ لانتحارِه، وفيضاً من الغصَّةِ والأسفِ والأسى على انقصافِ مسيرتِه الابداعيَّة الباهرة.
أتذكَّرُ، الآن، على نحوٍ ضبابيٍّ، أنَّني في عصر ذلك اليومِ الخريفيِّ الحزينِ، الَّذي انتحر فيه تيسيرُ السبول، كنتُ أتمشَّى مع أحدِ أصدقائي فوق إحدى ربواتِ قريتي (مليح) عندما بَلَغَنَا ذلك الخبرُ الأليم..
كُنَّا – آنذاك – غارقِين في حالةِ إحباطٍ مريعٍ سبَّبها المسارُ السِّياسيُّ الانتكاسيّ الَّذي أعقب الانتصارَ العسكريَّ المبهرَ لحربِ تشرين البطوليَّةِ.. تلك الحرب الَّتي كانت قد اندلعتْ قبل شهرٍ تقريباً من انتحارِ تيسير.
كان انتصارُ تشرين العسكريّ قد أسكَرَنَا حتَّى الثُّمالة، إلَّا أنَّنا – كما في الفجرِ التَّالي لرأس السَّنةِ في قصيدةِ أسدِ محمد قاسم – صحونا على كؤوسِ الخمرِ فارغات..
«صامتاتٍ متعبات
بعيونٍ جاحظات
وثغورٍ باسمات
مثلِ قبر
النّدامى غادروا والليلُ مات»..
لقد مرَّ تيسيرُ السبول بهذه الحياةِ مروراً خاطفاً كثيفاً؛ فترك وراءه أثراً متألِّقاً عميقاً وذكرى باهرةً لا تنطفي. وإنَّ قصَصَه، وقصائدَه، وروايتَه الوحيدةَ («أنت منذ اليوم»)، لا تنفكُّ تدهشُ القرّاءَ وتتركُ في نفوسِهم أقوى الانطباعاتِ وأبلغَها.. بسبب مضامينِها الإنسانيّةِ العميقةِ وقوالبِها الأدبيَّةِ الرفيعةِ وتكنيكاتِها الفنِّيَّةِ المتطوّرةِ.
في قصيدتِه الأخيرةِ، التي عُثِرَ عليها بعد انتحارِه، قال تيسير السبول:
«أنا يا صديقي
أسيرُ مع الوهمِ، أدري.
أُيمِّمُ نحو تخومِ النِّهايةْ
نبيّاً غريبَ الملامحِ أمضي إلى غيرِ غايةْ
سأسقطُ، لا بدَّ يملأُ جوفي الظَّلامْ
نبيّاً قتيلاً وما فاه بعدُ بآيةْ.
وأنت صديقي..
وأعلمُ، لكن قد اختلفتْ بي طريقي
سأسقطُ، لا بدَّ
أسقطُ يملأُ جوفي الظَّلامْ
عذيرك بعد
إذا ما التقينا بذاتِ منامْ
تفيق الغداةَ وتنسى..
لكم أنت تنسى..
عليك السَّلامْ».
فهل هو حقاً لم يَفُه بآيتِه؟ أم أنَّه كان يشعرُ في قرارةِ نفسِه باللاجدوى بعدما فاه بها وانتهى منها؟
المسألةُ لا تُقاسُ بكثرة الصَّفحات الَّتي يسوِّدُها الأديبُ أو كثرةِ السِّنين الَّتي يُنفقُها في الكتابة..
فلاديمير ماياكوفسكي، الشَّاعرُ السّوفييتيُّ المجدِّدُ والنُّموذجُ الأقربُ إلى تيسير السبول، فاه بآيتِه وهو في الثَّانيةِ والعشرين مِنْ عمرِه، فكانت «غيمة في بنطال»..
بعد ذلك، توالت عليه السُّنون حتَّى بلغ السَّابعةَ والثَّلاثين مِنْ عمرِه؛ وعندئذٍ، وضع طلقةَ مسدَّسٍ في رأسِه (في العام 1930) وأنهى الأمرَ، تاركاً وراءه الرِّسالةَ التَّالية:
«إلى الجميع، إنَّني أموتُ الآن. ولا أتَّهمُ أحداً.. ولا أريدُ أدنى ضجَّةٍ، فالموتى يبغضون ذلك. يا أمِّي، يا إخواني، يا رفاقي، سامحوني إنَّ ما فعلتُه ليس مخرَجاً ولا أنصحُ به أحداً، لكنَّه كان مناسباً لي، ولا حلَّ آخرَ غيرَه كان يلائمُني.
يا لِيلِي.. أعطني حبَّكِ..
إلى رفاقي في الحكومة (يقصدُ الحكومة السّوفييتيَّة).. إنَّ أسرتي هي لِيلِي بريك، وأمِّي وأختاي. فإذا كنتم تستطيعون تسهيلَ حياتِهم ولو قليلاً، فالشُّكرُ لكم..
لقد ابتدأت الأشعار، فأعطوها إلى آل بريك، فسيجدون أنفسَهم فيها..
وكما يقال
"لقد انتهى أمرٌ تافه"..
وقارِبُ الحبِّ
قد تحطَّمَ على صخرة الحياة اليوميَّة.
لقد زهدتُ الحياةَ.
وعجزتُ عن أن أعبِّر عن أحزانِها
وعثراتِها، وأخطائها المشتركة.
ولتنعموا بالسَّعادة».
«ولتنعموا بالسعادة»!
ربَّما كانت هذه العبارةُ «اللئيمةُ» هي الأكثرَ إيلاماً في هذه الرِّسالة. إنَّها تذكِّرُ بقول تيسير السبول في نهاية قصيدتِه الوداعيَّة:
«تفيقُ الغداةَ وتنسى..
لكم أنت تنسى..
عليك السَّلام».
وأمَّا لِيلِي بريك (1891 – 1978)، فكانت المرأةُ الَّتي ارتبط معها ماياكوفسكي بعلاقةٍ جامحة. ويجدر بنا هنا أنْ نشيرَ إلى أنَّ لِيلِي وشقيقتَها إلزا (1896 – 1970) كانتا قصّةً بحدِّ ذاتِها في الثَّقافةِ الرُّوسيّةِ والسّوفييتيّة والعالميّة.
في مقالٍ عن لِيلِي، ترجمَهُ الشَّاعرُ والمترجمُ المصريُّ عماد أبو صالح ونُشِرَ في مجلّة «الفيصل» السّعوديّة (31 آب/أغسطس 2017) جاء إنَّها (أي لِيلِي) [«كانت أينما تسير، تتبعُها طوابيرٌ من المعجبين والعشّاق والمجانين. حين تراها لن يكفي أن تقولَ: «جميلة»، لا بدّ أن تصرخ عاليًا: «منتهى الجمال!»].
وصفها شاعرُ تشيلي العظيمُ بابلو نيرودا بـ «ملهمةِ الطَّليعةِ الرُّوسيَّة». وكانت امرأةً عاليةَ الثَّقافةِ ومقبلةً على الحياةِ جدّاً، امتدّ بها العمرُ حتَّى قارب العقدَ التَّاسع. في عيد ميلادِها الخامسِ والثَّمانين أهداها مصمِّمُ الأزياءِ الفرنسيِّ الشَّهير إيف سان لوران فستاناً جميلاً مِنْ تصميمِه. وبعد سنتين، وبالتَّحديد في العام 1978، وضعتْ حدّاً لحياتها بنفسِها وهي في السَّابعةِ والثَّمانين مِنْ عمرِها. وأمّا شقيقتُها إلزا، فتزوَّجت مِنْ شاعر المقاومةِ الفرنسيّةِ الشَّهيرِ لويس أراغون. ولـ «أراغون» – كما هو معروف – روايةٌ شعريَّةٌ جميلة باسم «مجنون إلزا» استلهمَ فيها شخصيّةَ «مجنون عزَّة» وكرَّسها للحديثِ عن آخرِ أيّامِ العربِ في الأندلس.
في العام 1935، كتبت لِيلِي إلى الزَّعيم السّوفييتيّ يوسف ستالين تشكو مِنْ أنَّ ذكرى ماياكوفسكي وأعمالَه الأدبيّةَ تتعرّضُ للتَّجاهلِ والإهمالِ، فأصدر ستالينُ أمراً بحلّ هذه المشكلةِ فوراً، وقال: «ماياكوفسكي كان ولا يزال الأفضلَ، الشَّاعرَ الأكثرَ موهبةً في عصرِنا السّوفييتي. تجاهُلُ ذكراه وأعمالِه الإبداعيَّة جريمة».
لقد اجتهد مثقَّفو العالم وباحثوه كثيراً في تفسيرِ سببِ هذه المأساة، وكُتِبَتْ عن ذلك مقالاتٌ ودراساتٌ وكُتُب؛ لكنّني أعتقد أنَّ السَّببَ الحقيقيَّ هو أنَّه قال آيتَه وانتهى منها! وهذا واضحٌ مِنْ قولِه في رسالة انتحارِه:
«لقد زهدتُ الحياةَ.
وعجزتُ عن أن أعبِّر عن أحزانِها
وعثراتِها، وأخطائها المشتركة.».
عندما يكون، لدى الإنسان، ما يقولُه وما يفعلُه، لا يمكن أنْ يفكِّر في إنهاء حياتِه.
وهذا ينطبقُ أيضاً على آرثر رامبو، شاعرِ فرنسا البارز (20 تشرين الأوَّل/أكتوبر 1854 - 10 تشرين الثاني/نوفمبر 1891) وعلى آيتِه الشِّهابيّة «فصل في الجحيم». صدر ديوان رامبو، ذاك، قُبيل بلوغه سنَّ الحادية والعشرين مِنْ عمره. وعند بلوغه الحادية والعشرين، قرَّر التَّوقّف عن الكتابة، قائلاً: «لا كلمات بعد الآن، إنّني أدفنُ الميّتَ في بطني».
وفي «فائض العمر» الَّذي تبقَّى له، التهى بأمورٍ لا علاقة لها بالشِّعر بينما هو يتشكَّى بأسىً قائلاً: «لقدّ بدَّدتُ حياتي عبر كَوني مُرهَفَ الحَسّ»؛ فغادر باريس وجال في ثلاث قارّات، وزار القاهرةَ والاسكندريّة والحبشة، ثمّ ذهب إلى عدن وأمضى هناك حوالي عشرِ سنوات (1880 – 1890)، خاض خلالَها في تجاراتٍ بائسة، وما لبث أنْ صاح بغضب، قائلاً: «أوقفوا هذا العالم، أريد النّزول»، ومات قبل أنْ يُتِمَّ السَّابعةَ والثَّلاثين مِنْ عمرِه، متأسِّياً على زمنٍ لم تكن السَّماءُ فيه «محجوبةً بالغيوم، بل كانت تتلألأ بنورِ الوثنيّةِ المجيد»، ثمَّ مضى قُدُماً نحو الأبديّة الَّتي كانت بالنِّسبة له «البحرَ مختلطاً بالشَّمس».
أمَّا أرنست هيمنجواي، فقد قسَّطَ آيتَه على عددٍ من الِّرواياتٍ والكتب القصصيَّة، وانهمك في أثناء ذلك في ممارسة الكثيرِ من الهوايات الخَطِرَة.
ومنها: خوضُ الحروبِ؛ حيث إنَّه تطوَّع في الحرب العالميَّة الأولى إلى جانب الحلفاء، وفي الحرب الأهليَّة الإسبانيَّة إلى جانب الجمهوريين اليساريين، وفي الحرب العالميَّة الثَّانية إلى جانب الحلفاء.
ومنها أيضاً: ممارسةُ الصَّيدِ بأنواعِه المختلفة (البرَّيَّة والبحريّة).
ومنها كذلك: ارتيادُ حلباتِ مصارعةِ الثِّيران.
ومنها: الجلوسُ الطَّويلُ في الحاناتِ، والمشاركةُ في شجاراتِها.
وطبعاً، قبلَ هذا وبعدَه، كانت مصاحبتَه للعديدِ من النِّساء.
وعندما فشلت هذه الهواياتُ الخَطِرَةُ كلُّها في إنهاء حياتِه، أنهاها ببندقيَّةِ صيدٍ قديمة.
لقد كان تيسيرُ السبول (ومثله ماياكوفسكي ورامبو) مِنْ ذلك النَّوعِ من النَّاس الَّذي يومضُ في فضاء الحياة كالشِّهاب، فيغوص بريقُه عميقاً في النُّفوسِ ولا يبرحُها أبداً. وبعد ذلك، يصبحُ عيشُه فائضاً عن الحاجة، وضرباً مِنْ يومٍ واحدٍ طويل.. أو خاتمةٍ ممطوطةٍ لقصَّةٍ انتهت.
تأثَّر تيسيرُ السبول بعمق بما قرأه عن مأساة انتحارِ ماياكوفسكي، بل إنَّه كرَّرها حَرفيّاً تقريباً.
وفي مقالٍ له عن ماياكوفسكي، يقول السبول: «لقد حَمَلَ ماياكوفسكي مشاعرَ النَّاس جميعاً في قلبِه وعَصَرَها في صوتِه الشِّعريّ العظيم».
ثمَّ يتساءل عن سبب انتحار ماياكوفسكي وهو في أوج شبابِه، فيقول: «ما هي الخطوطُ الَّتي نسجتْ فاجعةَ نهايتِه؟ هل تعاظم لديه الشّعورُ بأنَّ الكونَ أصمٌّ كما أعلن في ختامِ قصيدتِه (يقصد قصيدة «غيمة في بنطال»)؟ أم فاجعةُ حبٍّ كما قيل؟».
لكن، بعد سنواتٍ قليلة، أنهى السبول حياتَه بالطَّريقةِ نفسِها وهو في الرَّابعة والثَّلاثين مِنْ عمرِه!
فياله من احتجاجٍ فظيع على هذا «الكون الأصمّ»!
في مقالٍ لـ «غالب هلسا» عن تيسير السبول، بعنوان «القارئ مبدعاً»، يستعرض هلسا خصائصَ كتابةِ السبول وميزاتِها، ويتلمَّسُ أسبابَ انتحارِه.
وسأتوقَّف، هنا، عند هذا الجانب الأخير..
يقول هلسا:
«إنَّ الشَّبابَ العربيَّ، و(تيسير) بشكلٍ خاصّ، قد تخلَّى عن مسلَّمات مجتمعٍ متخلِّفٍ، واتَّخذ بدلاً منها مسلَّمات الدِّيماغوجيا السِّياسيَّة، اليقين والامتثال نفسيهما. قال له الدِّيماغوجيّون: "إنَّ الأهدافَ الكبرى للعرب: الوحدة، والدِّيمقراطيَّة في أعلى أشكالِها، والعدالة الاجتماعيَّة والرَّفاه، وسحق الأعداء، سوف تتمّ بسرعة ودون جهدٍ كبير».
لكنَّه رأى «أنَّ الواقعَ لا يطيعُ حلمَه» - يقول هلسا – فأعلن «عن خيبةِ أملِه، لأنَّ أمّتَه لم تُطِعْ أحلامَه، ولأنَّ الزَّعماءَ الدِّيماغوجيين، أنصافَ الأميين، لم يفوا بوعودِهم».
وأعتقدُ أنَّ هذا الكلامَ، على أهمِّيتِه، ينطوي على تفسيرٍ جزئيٍّ، كما أنَّه يتوقَّفُ عند عَرَضٍ مِنْ أعراض الظَّاهرةِ ولا يتتبّعها إلى جذورِها. جذورُها – برأيي – نفسيَّة اجتماعيَّة.
على أيَّة حال..
تيسير نموذجٌ حقيقيٌّ للمثقَّفِ المنشغلِ إلى أبعدِ الحدودِ بقضايا وطنِه وشعبِه والإنسانيّةِ عموماً. حيث إنَّه كرَّسَ حياتَه الخاطفةَ كلَّها وأدبَه لهذه القضايا، كما أنَّ نهايتَه المأساويّةَ ارتبطتْ بها. لكنّه، بالمقابل، لم يتعامل مع الأدب على أنَّه مجرّدُ وسيلةٍ لخدمة آرائه وأفكارِه ومواقفِه السِّياسيَّة؛ بل اعتنى عنايةً فائقةً بالقالبِ الفنّيِّ لكتابتِه، وحرصَ على أنْ يستفيدَ بأفضلِ إنجازاتِ عصرِه في هذا المجال.. الأمرُ الَّذي جعلَه يتجاوزُ زمنَه كثيراً.
ولهذا فإنَّ أعمالَه الأدبيّةَ لا تزال تحتفظُ بطابعِها الحداثيّ وطزاجتِها، رغم مرورِ كلِّ هذه السِّنين على كتابتِها وتغيّرِ الزَّمانِ تغيُّراً جذريّاً منذ ذاك.
وإنَّ الرّوحَ الإنسانيَّ العميقَ لأعمالِ تيسير يجعلُها تلامسُ أرواحَ قرّائها الأجانب (وليس العربَ فقط) مباشرةً، ما إن تُترجَم إلى لغةٍ أخرى.
في مقالٍ منشورٍ للدّكتورة نسرين أختر خاوري، رئيسةِ قسمِ الدِّراساتِ الشَّرقيَّةِ في جامعة ديبول في الولايات المتَّحدة، تتحدَّثُ عن تجربتِها مع ترجمةِ رواية «أنت منذ اليوم» إلى اللغةِ الإنجليزيّة، فتقول: «كانت ترجمةُ "أنت منذ اليوم" تجربةً شخصيَّةً مميَّزةً شعرتُ خلالَها بالخصوصيَّةِ كقارئة. فقد بدا وكأنَّ الكاتبَ يفتحُ لي أسرارَ روحِه واختلاجاتِها، فيسمح لي بالتَّوغلِ في مساحاتِه الخاصَّةِ جدَّاً».
وتقول أيضاً: «ولقناعتي بأهميَّةِ أعمال تيسير السبول، خصوصاً بعد الاطِّلاعِ على ردودِ أفعالِ طلَّابي على رواية "أنت منذ اليوم"، قمتُ بترجمةِ باقي قصصِ تيسير وهي "هندي أحمر" و"صياح الديك"، كما ترجمتُ مجموعتَه الشِّعريةَ الكاملةَ "أحزان صحراويَّة" بالتَّعاونِ مع شاعرٍ أميركيٍّ مِنْ أصولٍ إفريقيَّة وقع في حبِّ تيسير بعد قراءتِه لقصيدةٍ كنتُ قد ترجمتُها في وقتٍ سابق، وأصرّ على ضرورةِ التَّعاونِ لترجمةِ المجموعة كاملة ونشرها، إيماناً منه بأنَّها مِنْ أفضلِ وأرقِّ وأصدقِ ما كُتِبَ من الشِّعرِ الحديث».
لقد كانت رواية تيسير السبول «أنت منذ اليوم» (ولا تزال) علامةً فارقةً في تاريخِ الرِّوايةِ الحداثيَّةِ العربيّة. فهي أوَّلُ روايةٍ عربيَّةٍ أطاحتْ بجرأةٍ عاليةٍ بالشَّكلِ الكلاسيكيِّ للرِّوايةِ العربيَّة، متأثِّرةً تأثُّراً خلّاقاً بالمنجزِ اللغويِّ المميَّزِ لـ «وليم فوكنر»؛ حيث تكتظُّ اللغةُ بشحناتٍ كبيرةٍ من المضامين النَّفسيَّةِ العميقةِ الَّتي تحملُها كلماتٌ بسيطةٌ توحي أكثرَ ممّا تقول، وحيث الجملُ تبدو ناقصةً وغيرَ مترابطةٍ فتدفع القارئَ دفعاً إلى استكمالِها وإعادةِ ترتيبِها بالاستنادِ إلى مخزون لاوعيه وثقافتِه.
لكنَّ تيسير – بالمقابل – تمكَّن من الإفلاتِ مِنْ قبضةِ الحالةِ الشِّعريَّةِ الطَّاغيةِ عند فوكنر، ليقتربَ مِنْ حياديَّةِ هيمنجواي الخادعةِ (أو المخادِعة) الَّتي تندرجُ في إطارِ ما يسمَّى تكنيكُ جبلِ الجليدِ العائم.. حيث إنَّه، مثُله مثلُ هيمنجواي، استخدم مفرداتٍ عاريةً محايدةً في الظَّاهرِ لكنَّها في الواقعِ تختزنُ طاقةً انفعاليَّةً هائلة.
وتمتاز كتابةُ تيسير بالأصالةِ الابداعيَّةِ.. بمعنى أنَّ شروطَها الابداعيَّةَ تنبعُ مِنْ ذاتِها وليست مستعارةً مِنْ خارِجِها؛ كما أنَّها تمتازُ بالصِّدقِ الفنِّيِّ والمضمونيّ؛ فما مِنْ ملمحٍ فيها لقسرِ الواقعِ لكي يتواءم مع أفكارِ الكاتبِ أو مع خياراتِه الفنِّيَّة، وليس فيها شيءٌ من الاستعراضِ أو الادِّعاءِ، ولا تتناولُ إلَّا ما يعرفُه كاتبُها وخَبِرَهُ جيِّداً، كما أنَّ لغتَها تخلو من التَّزويقِ والزَّخرفةِ وأيِّ نمطٍ مِنْ أنماطِ الاصطناعِ.
ولغةُ السبول حارَّةٌ ومحمولةٌ على أحاسيس مرهفةٍ؛ وصورُه، رغم أنَّها تعرضُ تفاصيلاً تبدو مألوفةً، إلَّا أنَّها ليست عاديَّةً؛ ورسائلُه، المبثوثةُ بين السّطورِ وخلفَها، تنبعُ مِنْ أعمقِ أعماقِ روحِه.. ولذلك، فإنَّ كتابتَه تلامسُ أرواحَ قارئيها بسهولةٍ وتتركُ لديهم انطباعاتٍ قويّةً وعميقة.
في الختام..
تيسير، بمعنىً من المعاني، صانعٌ أصيلٌ مِنْ صنّاع السَّرديَّةِ الأردنيَّةِ البديلةِ.. السَّرديَّةِ الرَّاقيةِ الحقيقيَّةِ الضَّروريَّةِ المقاوِمة للسَّرديَّةِ الرَّسميَّةِ الزَّائفةِ المبتذلةِ القروسطيَّة؛ ولقد قدَّم، لبلدِه وشعبِه، وللإنسانيّةِ، منجزاً أدبيّاً رفيعاً، وجميلاً، ومعبِّراً عن أجمل المضامين الإنسانيّة وأرفعِها.... فماذا قدَّمنا لاسمِه (ولذكراه) في المقابل؟!