جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

د. عبيد الله يكتب: التجربة القصصية لسعود قبيلات
ينتمي سعود قبيلات (مواليد مليح/مادبا 1955) وفق تقسيمات أجيال القصة القصيرة الأردنية إلى جيل الثمانينيات، وذلك استناداً إلى صدور مجموعته الأولى «في البدء ثم في البدء أيضا» عام 1981، أثناء مرحلة سجنه لأسباب سياسية (1979-1983) وكان صدور أعمال أدبية لسجناء سياسيين أو أدباء في السجن يلفت انتباه القراء ويُستقبل استقبالاً متحمساً في الأوساط الثقافية والنقابية والسياسية، وفي هذا المناخ برز اسم سعود قبيلات مع كُتّاب آخرين من أبرزهم هاشم غرايبة، رفيق سعود في السجن والكتابة.

وقد مثل جيل الثمانينيات بأطيافه وتجاربه المختلفة نقلة نوعية في الكتابة القصصية والسردية في الأردن، ويمكننا على سبيل المثال أن نتذكر أسماء بارزة أسهمت بقوة في تدعيم مكانة القصة القصيرة والرواية في تلك المرحلة من مثل: إلياس فركوح، يوسف ضمرة، خليل قنديل، قاسم توفيق، هاشم غرايبة، محمد عيد، عدي مدانات، محمد طمليه، سامية عطعوط، سهير التل، هند أبو الشعر،.... وأسماء أخرى معروفة للمتابعين والقراء.

وقد تابع سعود قبيلات مسيرة كتابته، في عقد التسعينيات بصدور مجموعته الثانية: «مشي» عام 1994، أي بعد قرابة ثلاثة عشر عاماً من صدور مجموعته الأولى، وقد أسهم هذا الانقطاع النسبي في غياب اسم سعود قبيلات عن المشهد القصصي، خصوصاً وأن تلك المرحلة في عقد الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي كانت مرحلة خصوبة في الإنتاج القصصي كمّاً ونوعاً، فأصدر زملاؤه وأقرانه عدداً متتابعاً من المجموعات القصصية، وظل هو يمشي بتؤدة وتمهل ليقطّر تلك الأقاصيص أو القصص القصيرة جداً التي اجتمعت في مجموعته المعروفة «مشي» ومثلت علامة لافتة في كتابة القصة القصيرة جداً، واقتناص كتابة اللحظة القصصية المكثفة، بما فيها من كثافة دلالية واقتصاد في المفردات والكلمات، وتفجير لعناصر مهمة كالمفارقة والسخرية واللمحة الشعرية القادمة من الموقف القصصي وليس من الصياغة الزخرفية أو مجموعة الأدوات البلاغية المعروفة.

في مجموعة «مشي» برزت تلك العناصر التجريبية التي تكثف خيوط التجربة الذاتية ذات الطابع السيري في صورة تأملات وخلاصات إنسانية ونضالية تكشف عن سبل الدفاع عن البطانة الوجدانية للإنسان، فكتب قصصاً مقاومة متحدية عميقة الدلالة، شديدة الكثافة، وكما كتب المرحوم مؤنس الرزاز في مقدمة هذه المجموعة فإن «الزمان والمكان وانعكاسهما على حياة الإنسان.. جوهر ما يطرحه أديبنا سعود قبيلات» وهي أيضا «تمثل ملخصاً مكثفاً لمشاهد قد تبدو لا معقولة، لكنها منتزعة من الواقع العربي المباشر».

ولو تذكرنا القصة الأولى من هذه المجموعة وهي القصة المعنونة بـ «مشي» لوجدناها قصة شديدة الإيجاز والاقتصاد، تفجر شيئاً من جماليات البساطة أو الزهد الذي يميز كتابة قبيلات وشخصيته في آن، إنه لا يبحث عن الجمال أو الأناقة في البهرجة والزخرفة ولا في الغنى المعجمي اللفظي وإنما يختار سبيلاً أكثر صعوبة، كيف تقدم مادة قصصية تتظاهر بالزهد في كل العناصر فتأخذ الحد الأدنى منها دون مبالغة ولا إكثار من أي شيء وفي الوقت نفسه تفاجئ القارئ وتستوقفه وتدهشه. وكل ذلك لا يكون إلا بالدربة والتأني وتكثيف الرؤى وتقطير الكلمات، وهو ما أتقنه سعود قبيلات وجعله من عناوين مشروعه القصصي الذي ما زال يصعد بتأن وهدوء، وكأنه يطلب من قارئه أن يتعامل معه وفق مناخات إنتاجه وكتابته، أي أن لا يقراه بسرعة أو تسرع، إنه يقترح ضمنياً تعاقداً مسكوتاً عنه مع القارئ، اقرأني على مهلك، أنا لست مستعجلاً، والتأني لا ينتج السلامة فقط، وفق الحكمة السائرة: في التأني السلامة، بل ينتج مساحات عمودية تسمح بتعدد الدلالات وتسمح بأن يكون للنص ظاهر وباطن، بنية سطحية وأخرى عميقة، ويتفاوت القراء في التفاعل مع تلك البنية ومع الوصول إلى مدارج مختلفة منها بحسب التمهل والتأني وبحسب الثقافة وأوضاع القراءة.

ومن الأمور الأساسية التي يلاحظها القارئ أو المتابع لتجربة سعود قبيلات من بداياتها وحتى متونها الجديدة ذلك التفلت من الشكل المستقر أو الكلاسيكي للقصة القصيرة، فمن التجريب في شكل القصة القصيرة جداً بوعي واحتراف في مجموعة: مشي حيث طوع هذا الشكل الصعب لخلاصات وأشتات تنتمي في معظمها إلى تجربة السجن وتأثيراتها في الكاتب وفي البشر الذين عرفهم أو اتصل بهم في تلك الفترة، وقبيلات ليس مهجوساً بالسيرة الذاتية كأحداث وأخبار بل في كيفية القبض على الجوهر الباقي أو الطرف الآخر من تلك المسلكيات أو الأحداث أو ردود الفعل، أي على مآلها ومعناها الجوهري الإنساني مما يمكن أن يغدو ضرباً من التأمل ومن اكتشاف طوابق الذات الإنسانية وحفرها وأنفاقها البعيدة الغامضة.

وفي كتابه «بعد خراب الحافلة»/2002، نجد شكلاً آخر يجربه الكاتب مستفيداً من مهارته في كتابة النص الموجز المكتمل بنية ودلالة والسعي للتحول به إلى شكل أقرب ما يكون إلى قصة الحلقات أو المتوالية القصصية من دون الاكتفاء بشكل المتوالية وعناصره المعروفة أو المألوفة، فيؤلف كتاباً قصصياً يفيد من إمكانات عدة أشكال قصصية معاً ليجدلها وينسجها معاً في بناء جديد لا تكاد تنطبق عليه التسميات المستقرة.

وتمنحنا تجربة قبيلات مفهوماً أنيقاً للمجموعة القصصية أو الكتاب القصصي، فهو ليس مجموعة متنوعة من القصص جمعها الكاتب بعد مدة من كتابتها، وإنما هو كتاب له شكل وبناء على مستوى البنية الكلية للكتاب، معتنياً بكل عناصر تكوينه، من العنوان إلى العتبات والمقاطع الافتتاحية والخواتيم أو النهايات. وفي داخل الكتاب تجد ترتيباً مضمراً لكل عنصر ولك أن تبحث عن موقعه ومكانته بين العناصر الأخرى التي يشد بعضها بعضاً، في صورة من صور الترابط والتناظر السردي الذي يعي علاقة الجزء بالكل، ويمنحك كتاباً مترابطاً وليس مجموعة قصص، وفي الوقت نفسه لا يلغي أو يمنع إمكانية الاستقلال النسبي لبعض العناصر أو لكثير منها في صورة عناصر مكتملة يمكن التفاعل معها مستقلة من دون الصور السابقة أو اللاحقة.

وليس يعني تركيزنا على قضايا الشكل أو الأدوات والأبنية أن الكاتب شديد الشغف بالشكل، بل يمكن القول إن قبيلات من كُتّاب المعنى ومن كُتّاب الأفكار قبل الأشكال، ولكنه يقيم معادلة دقيقة للعلاقة بين الشكل والمضمون أو الرؤية والتعبير، فهو إذ يطور رؤيته ويكثف عبارته، فإن الشكل هنا يغدو تحصيل حاصل، إذ إن المضمون الجديد يصعب أن يظهر في أشكال قديمة، فالشكل طيع أو مرن، يمكن أن يتلون ويتعدّل وفق مقدرة الكاتب على تصور أفكاره ورسم تصوراته.

احترام المعنى وتعليق الأمل على قارئ متفهم عميق يتأتى من ذلك الاحترام المقدس لكرامة الإنسان والانتصار لحريته والبحث في مسالك نفسيته وأعماقه، وهو ينبني في قسم كبير منه على الإفادة من تجربة السجن لا كتجربة سياسية أو نضالية فحسب، بل كتجربة إنسانية شديدة الثراء والعمق.

وقبيلات بهذا المعنى أحد أبرز الكتاب الذين أفادوا من «مباهج السجن» تماماً كما أفاد آخرون من «مباهج المنفى» أو «مباهج الحرب» أو غير ذلك من مباهج غريبة، تتولد من نقائضها ويمكن للكاتب أن يحولها بما يمتلك من رؤية وعمق وتبصر إلى الوظائف النقيضة. ويمكن القول بأن أحد المعاني العميقة المتكررة عند سعود قبيلات تتمثل في أن السجين إنسان حر تماماً، وأما السجن فليس إلا انحناء مؤقتاً لربط الحذاء استعداداً لاستكمال المشي ومواصلة الحياة والمسير.

وأما كتاب «الطيران على عصا مكنسة» 2009، فنجد فيه مثالاً للقصة المعرفية أو القصة «البحثية» المثقفة، التي يبنيها الكاتب معتمداً على الواقع من جهة، والثقافة من جهة أخرى، فذلك من خلال صياغة تجريبية لا تقيم شأناً للفاصل بين الثقافي والحياتي، وبين ما نقراه ونعيشه، فمعظم قصص هذه المجموعة تستحضر أعلاماً وشخصيات ثقافية عالمية وعربية ومحلية وتتعالق مع قراءات تربطنا بتلك الشخصيات وبكتاباتها وآرائها، ولكن تلك القراءات لا تظهر كمادة بحثية بل يتم تذويبها في السرد من خلال تحويل الأعلام والشخصيات التاريخية إلى شخصيات قصصية يلتقي بها الكاتب والراوي، كما أنه يجمع بين تلك الشخصيات في سياق واحد كأنها قد تعايشت وتعاصرت، وكأن النص القصصي يمكنه أن يتلاعب بالزمان والمكان كما تشاء رؤية الكاتب، وعلى هذا النحو يمكنه أن يلتقي بكارل يونغ وفرويد  وشكري عياد ومؤنس الرزاز في قصة «بيت يونغ متعدد الطوابق». كما يمكنه اللقاء بهمنغواي ونجيب محفوظ والجد وتشي غيفارا وفيديل كاسترو ومكسيم غوركي وريجيس دوبريه في قصة «صدق حيوي».

وفي القصص الأخرى نجد المناخ ذاته من ناحية بناء القصة عبر التركيب الحذر بين الذاتي والقصصي والواقعي، فنجد اسم الكاتب قد تحول إلى شخصية، ونجد أسماء أصدقائه من الأدباء المجايلين له، كما نجد الأدباء وغير الأدباء ممن قرأ لهم وأثروا فيه، واقتبس بعض أفكارهم ومقولاتهم في قصصه، دون الفصل بين الخيالي والواقعي ودون تمييز المؤلَّف أو الموضوع من المقتبس.

وبشكل مجمل يمكن أن تقرا هذه القصص من منظور الإطلالة على جانب حيوي من ثقافة المؤلف ومن المؤلفين والكتاب الذين أعجب بهم وخصوصا أعلام القرنين الماضيين التاسع عشر والعشرين الذين أهدى لهم كتابه: «إلى القرنين التاسع عشر والعشرين إلى أدبائهما وعلمائهما ومفكريهما وثوارهما وجموع الناس الحاشدة التي صنعت التغيرات الكبرى فيهما، وحالميهما الكبار، والأحلام الكبيرة التي ملأتهما، الأحلام التي لا بد منها لكي يخرج إنسان القرن الواحد والعشرين من أسوار مزرعة الحيوان التي حشر فيها في لحظة غفلة وخداع».

ولا شك أن الإشارة هنا إلى «مزرعة الحيوان» لجورج أورول تلك الرواية التي استخدمت استخداماً مبتذلاً مضاعفاً في عصر مقاومة الشيوعية، فضلاً عن دلالتها على الهيمنة الأميركية التي أرادت حبس العالم كله في مزرعة مشابهة.  

تجربة سعود قبيلات تجربة حقيقة بالقراءة والتأمل، خاصة وأنها بعيدة عن صخب الحياة الثقافية وحفلاتها المبتذلة، وهي قريبة من نفس القارئ ومن وعيه، وقد جمعت بين الوضوح والعمق، وبين التجريب والحذر، وقد مكنها ذلك كله من التوافر على كثير من عناصر القوة والإشراق لتنهض بوظيفة كتابة تنويرية في المضمون وفي التشكيل.
ــــــــــــــــ
د. محمّد عبيد الله - كاتب وناقد وعميد كلّيّة الآداب والفنون/ جامعة فيلادلفيا.

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال