جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣
قصر «الرشيد» كان يُضاء احتفالاً بالأعياد المسيحيّة

مِنْ مظاهر الانحطاط في زماننا ما أصبحنا نسمعه ونقرأ عنه مِنْ فتاوى تصدر باسم الإسلام لتُحرِّم على المسلم أنْ يهنئ ابن وطنه وأمّته المسيحيّ بالأعياد المسيحيَّة.

وليس صدفةً أنَّ هذه الحملة الظلاميّة الفتنويّة قد اشتدّتْ مع بدء تنفيذ مشروع تفتيت الدول العربيّة والشعوب العربيّة المحيطة بفلسطين المحتلّة على أساسٍ طائفيّ ومذهبيّ.

وأُذكِّر هنا بأنَّ إسرائيل شاحاك كان قد كشف في أواخر سبعينيّات القرن الماضي بأنَّ الدوائر «الإسرائيليّة» قد انتهت – آنذاك – مِنْ إعداد مثل هذا المخطَّط اللئيم ليتمّ تنفيذه لاحقاً في الوقت المناسب. والغاية منه أنْ تنتهي غربة الكيان الصهيونيّ في محيطة، ويصبح متجانساً مع العديد من الكيانات الطائفيّة والمذهبيّة الهزيلة التي سيتمّ زرعها في المنطقة على أسس الفرقة والنزاع والانقسام، ليتواصل تنازعها إلى ما لا نهاية، ويزداد وهنها وهزالها باستمرار، في حين يصبح الكيان الصهيونيّ هو الأكبر بينها مِنْ حيث عدد السكّان، والممسك بزمام قيادتها جميعاً وصاحب القرار الأوّل والأخير في المنطقة. وقد كتبتُ مقالاً عن ذلك في حينه، نُشِرَ في مجلّةٍ عربيّة.

وليس مصادفة أنَّه تحت ستار هجمة هذا الفكر المذهبيّ الطائفيّ، نفسها، سارت «إسرائيل» بخطى ثابتة نحو إعلان ما سُمِّي «يهوديّة الدولة» وإقرار التشريعات اللازمة لذلك.  

في الثقافة العربيّة الإسلاميّة توجد صورة أخرى مناقضة لصورة هذه الأفكار المنغلقة المعادية للروابط الوطنيّة والقوميّة.. بل والإنسانيّة أيضاً. جيلنا والأجيال، التي سبقت المدّ الظلاميّ الوهّابيّ بتجلّياته المختلفة، يختزنون في ذاكرتهم مثل هذه الصورة الجميلة المغايرة.. خصوصاً في بلاد الشام.

أكثر مِنْ ذلك، فإنَّنا نستطيع أنْ نجد لهذه الصورة المشرقة امتداداً بعيداً جِدّاً في التاريخ العربيّ الإسلاميّ يؤكِّد الترابط الثقافيّ العميق لمكوِّنات الأمّة. وفي هذا السياق، سأورد، في مقالي هذا، بعض الإشارات عن كيفيَّة احتفال المسلمين بالأعياد المسيحيَّة (وسواها) في أوج ازدهار الدولة العباسيَّة. وقد انتقيتُها مِنْ كتاب المؤرِّخ الفرنسيّ أندريه كلو «هارون الرشيد ولعبة الأمم»، الذي صدرت طبعته الأولى في العام 2005 عن المؤسَّسة العربيَّة للدراسات والنشر، وهو مِنْ ترجمة صادق عبد المطلب الموسويّ.

كتاب «كلو»، هذا، مهمّ وممتع ويقدِّم  الكثير من المعلومات والأفكار الجديدة والشيّقة عن حياة هارون الرشيد ودوره في التاريخ العربيّ الإسلاميّ. أمّا في ما يخصّ موضوع هذا المقال، فالمؤرّخ الفرنسيّ (كلو) يعرض في البداية، تفاصيل كثيرة ومهمَّة عن احتفال الناس في عاصمة الرشيد بِعيديْ الفطر والأضحى، وعيد النيروز، وعيد «مهراج»، عيد الشتاء، و«عيد الصدر» الفارسيّ المنشأ.. الخ. ولا يتَّسع المجال هنا – مع الأسف –لإعادة سرد كلّ التفاصيل المفيدة والشيّقة المتعلّقة بهذا الموضوع.

أمَّا في ما يتعلَّق بالاحتفال بأعياد المسيحيين، آنذاك، وهو موضوعنا هنا، فيشير «كلو» إلى أنَّ المسلمين في بغداد الرشيد كانوا يحتفلون «بأعياد المسيحيّين بالدرجة والبهجة نفسيهما اللتين يحتفلون بهما بأعيادهم». فقد كانوا يشاركون في أعياد ذكرى القدّيسين التي كانت تقيمها الأديرة النسطوريّة العديدة التي كانت موجودة في بغداد. ويصف أندريه كلو هذه الأديرة بأنَّها كانت «واسعة وكبيرة ومحاطة بحدائق غنّاء وتستوعب أعداداً غفيرة من المحتفلين، حيث الرقص والغناء والشراب».

أمَّا في عيد الفصح، فكان المسلمون والمسيحيّون «يفدون أفواجاً إلى الدير الأرمنيّ سامالو، وهو بناء شامخ يقع شمال شرق المدينة وسط حدائق واسعة، ويروي الشابشتيّ بأنَّ الناس في هذا اليوم يحتفلون ويرقصون حتَّى تتراءى لهم الجدران ترقص والأرض تصغر مِنْ تحت أقدامهم».

وكانت ثمَّة احتفالات مسيحيَّة أخرى عديدة يشارك فيها الجميع أيضاً؛ ففي آخر سبت مِنْ شهر أيلول كان الناس، مسيحيين ومسلمين، يذهبون إلى دير الثعالبة المحاط بالرياض والغابات ليحتفلوا معاً هناك.

وفي الثالث مِنْ تشرين الأوّل كانوا يذهبون معاً إلى أشمانا ليحتفلوا ثلاثة أيَّام متتالية.

«وفي أوَّل يوم أحد مِنْ أيّام الصيام لدى المسيحيّين، ينضمّ إليهم المسلمون في دير عقبرا»، ليحتفلوا معاً.

«وفي الأحد الرابع يحتفلون مِنْ جديد ولمدَّة عدَّة أيَّام عند قرية ديرماليس، وحتَّى بلاط الخليفة يحتفل بهذا العيد حيث الوصيفات يغنّين وهنّ يحملن سعف النخيل وأغصان الزيتون». بل إنَّه، في بعض الأعياد المسيحيّة، كان قصر الخليفة يُضاء احتفالاً بالعيد ثلاثة أيّام متتالية.

كما كانوا «يحتفلون أيضاً بعيد القدّيسة بربارة في الرابع مِنْ كانون الأوَّل».

بعد ذلك يحتفلون بعيد ميلاد المسيح، «وفي هذا العيد تُستخدم الألعاب الناريَّة وتُوزّع الحلوى والكرزات وخاصَّة الجوز».

وفي الكتاب توجد تفاصيل أخرى كثيرة عن هذا الموضوع لا يتّسع المجال لسردها هنا.

وأختم بتقديم التهنئة لأبناء وطننا وأمّتنا، مسلمين ومسيحيين ومِنْ مختلف المذاهب والمعتقدات، بعيد الميلاد المجيد ورأس السنة الميلاديَّة.

وكلّ عامٍ وأنتم بخير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سبق أنْ نشرتُ صيغةً مختلفة قليلاً مِنْ هذا المقال في عمودي اليوميّ السابق في جريدة «العرب اليوم» التي أصبحت سابقة هي أيضاً. وقد نُشِرَ المقال – آنذاك – تحت عنوان «المسلمون أيّام الرشيد كانوا يحتفلون بأعياد المسيحيين».

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال