سعود قبيلات ▣
في
عطفةٍ جانبيَّةٍ مِنْ شارع الشهيد في جبل التاج (في عمَّان) يقع
مسكني. وهو عبارة عَنْ غرفةٍ واحدة أمامها باحة صغيرة مبلَّطة بالإسمنت تفصلها
عَنْ مطبخٍ صغير، ويحيط بها سـور من اللِبن مِنْ جميع الجهات.
اِجتزتُ
مدرسةَ البنات الثانويَّة القائمة على زاوية الشارع من اليمين، ثمَّ ملت يساراً
فمررتُ بمركز تعليم الخياطة للفتيات الواقع في الجهة المقابلة؛ تجاوزته قليلاً
وتوقَّفتُ عند بابٍ من الصفيح صدئ ومغلق بقفلٍ صغير. تناولت المفتاح مِنْ جيبي،
ولجته في القفل وفتحته، ثمَّ دفعتُ الباب فصدر عنه صريرٌ حادّ، دخلتُ، وتركته
ينطبق خلفي مِنْ تلقاء نفسه. وسرتُ في ممرٍّ مبلَّطٍ صغير، ثمَّ ملتُ إلى اليمين
عبر الباحة ودخلتُ المطبخ على اليسار. كان معتماً فأضأتُ النور ومددتُ يدي نحو
رفٍّ خشبيٍّ قديم يعلو مغسلةً لها حنفيّة صدئة. تناولتُ مفتاحاً كبيراً مِنْ على
الرفّ، ثمَّ خرجـت من المطبخ واتَّجهتُ نحو الغرفة على اليمين، أدخلتُ المفتاح في
بابها وحرَّكته فيه، ثمَّ دفعتُ الباب بيدي ودخلتُ. كانت حزمةٌ مِنْ أشعة الشمس
تتدفَّق إلى الغرفة، عبر الشبّاك الزجاجي المجاور للباب مِنْ على يمين الداخل. ولم
يكن في الغرفة من الأثاث سوى ثلاثة أسرَّة خشبيَّة مفردة وقليل من الكتب والمجلاّت
وثلاث حقائب مركونة في الزاوية الخلفيّة اليسرى.
اتَّجهتُ
إلى السرير الواقع على يمين الداخل وهو مواجه للنافذة الَّتي تتسرَّب منها حزمة
الضياء، وكانت ثمَّة نافذة أخرى بجواره تطلُّ على جدارٍ بعلوّ ثلاثة أرباع طول
الإنسان العاديّ الطول يفصل ما بين الغرفة وبين مشغلٍ تعليم الخياطة للفتيات المجاور.
جلستُ
على السرير، وخلعتُ حذائي وجواربي، وتمدَّدتُ بكامل ملابسي. ثمَّ تناولتُ كتاباً
مِنْ تحت السرير ورحتُ أقرأ: «وعندما تتأخَّر للفنَّان بعض مستحقّاتٍ مادِّيَّة
يجب أنْ تُدفع له، لمواجهة واقعه المادِّيّ.. يتذكَّر كلَّ شيء.. يتذكَّر حقيقة
وضعه في المجتمع البرجوازيّ المعاصر.. وتتضخَّم المسائل أمام ناظريه، يشلُّه
إحساسٌ بالمهانة أو بالذنب أو بالعجز، إذ تواجهه أجرة المنزل، أو
"فاتورة" التليفون، إذاً فقد رجع إلى ما تسمِّيه الطبقة المتوسطة
بالواقع»(2).
ولم
يكن عندي تليفون. وشعرتُ بأنَّ ذهني ينفلش، ويتحرّرُ مِنْ قبضة السطور. فرميتُ
الكتاب جانباً، وأرخيتُ جسدي، وجعلتُ أحدِّق في السقف المشوب ببعض السخام، ثمَّ
إلى نافذةٍ عالية على اليمين، تحت السقف بقليل، ثمَّ إلى حزمة الضوء.. كان مصبُّها
قد صعد نحو النافذة العالية..
..
وتناهى إليَّ صوت الآذان مِنْ جهةٍ ما، وأنا مستلقٍ على «برشي» في الزنزانة،
فلم أستطع تحديد الجهة التي جاء منها الصوت. بيد أنَّ شعوراً غامراً بالكآبة
والأسى داهمني، ولم أدرِ ما سببه.. أهو خبرة شعوريّة قديمة؟ أم أنَّ الآذان أكَّد
لي، على نحوٍ فاجع، في تلك اللحظات، جمود الحياة مِنْ حولي بينما هي تواصل حركتها
الطبيعيَّة في الخارج مِنْ دوني؟ ورحتُ أنصت إلى أصوات كوابح السيَّارات وهي
تتوقَّف عند الإشارة الضوئيَّة القريبة من الزنزانة، ثمَّ وهي تطلق زواميرها
وتندفع مِنْ جديد. وظللتُ أتابع هذه العمليَّة وهي تتكرَّر على هذا النحو بلا
انقطاع حتَّى منتصف الليل..
..
ثمَّ بينما أنا أتمشّى في شارعٍ فرعيّ لم أعرف أين يقع بالضبط ولا كيف وصلتُ إليه،
رأيتُ جمهرةً من الناس تقف في الشارع وقد اصطفتْ على الجانب الأيسر منه عدَّة
سيَّارات، مِنْ بينها واحدة لنقل الموتى. وسمعتهم يقولون: مات.. خسارة لا تعوَّض.
ولم
أعرف مَنْ هو الَّذي مات، غير أنَّ دموعي انسابتْ على خدَّيّ بغزارة رغماً عنِّي،
وشعرتُ بحزنٍ طاغٍ يجتاحني مِنْ دون أنْ أتمكَّن مِنْ تفسير سببه.
مشيت
بمحاذاة السيَّارات الواقفة إلى أنْ وصلتُ تلك الَّتي تقلُّ الميِّت. استدرتُ
خلفها، فوجدتُ بابها الخلفيَّ مفتوحاً، ورأيت بداخلها رجلاً بأكفانٍ بيضاء ممدّداً
على محفَّة قماشيَّة.. كانت رجلاه ممدودتان إلى الداخل أمّا رأسه فكان ساكناً بالقرب
من الباب الخلفيّ. وكان بضعة رجال يقفون على مقربة منه وينظرون إليه. اقترب أحدهم كثيراً
من الميِّت وراح ينظر إلى وجهه الساكن باستغراق. ولدهشتي، فجأة رأيت الميِّت يرفع
رأسه قليلاً وينظر بعينين واسعتين، ولكنّه ما لبث أنْ أغمضهما وأعاد رأسه إلى وضعه
السابق.
وصرخ
الرجل الواقف عند رأس الميِّت قائلاً بانفعالٍ بادٍ: إنَّه حيّ.. إنَّه حيّ..
غير
أنَّ الآخرين ظلّوا ساكنين ولم يعلِّق أحدٌ منهم على كلامه بشيء، فصاح بإلحاح:
إنَّه حيّ.. إنَّه حيّ؛ بعينيَّ هاتين رأيته يفتح عينيه.
لكنَّ
رجلاً آخر، مِنْ بين الواقفين، قال بلغةٍ حاسمة: هذا غير صحيح. إنَّه ميِّت..
ميِّت تماماً، وليس فيه حتَّى لو نفس واحد.
اكتفيتُ
بالنظر مِنْ دون أنْ أتدخَّل. وذهب الرجل الَّذي قال إنَّه رأى الميِّت وهو يفتح
عينيه إلى مقدمة السيَّارة، حيث كان جمعٌ من الناس محتشداً هناك، وراح يصرخ مِنْ
جديد على أسماعهم.. كما لو أنَّه كان يستنجد بهم: إنَّه حيّ.. بعينيَّ هاتين رأيته
يفتح عينيه.
وفي
هذه الأثناء، عاد الميِّت فرفع رأسه قليلاً، وفتح عينيه على وسعهما. ووجدتني أهتف
بحماس: إنَّه حيّ.. إنَّه حيّ.
غير
أنَّ الرجل ذاته الَّذي أنكر حياة الميِّت في المرَّة الأولى، استنكر كلامي وراح
يصرخ بتشنّج: إنَّه ميِّت.. ميِّت.. ميِّت.
ولم
أعرف لماذا كان منفعلاً إلى هذا الحدّ. كما أنَّني دهشتُ مِنْ إصراره المهووس على
إنكار حياة الرجل الممدَّد في سيَّارة نقل الموتى، رغم تحرّك هذا الأخير بوضوح
أمام عينيه. ثمَّ قال وهو يتعمَّد أنْ يعطي صوته نبرةً واثقة: لنرسله حالاً إلى
مثواه الأخير.. إنَّ إكرام الميِّت في دفنه.
وقلتُ:
لا.
فدُهِشتُ
وأنا أسمع صوتي.
وجاء
الرجل الآخر الَّذي رأى معي الميّتَ حيّاً، وقال: لا.
واقتربنا،
كلانا، مِنْ مؤخَّرة السيَّارة، أمسكنا الميِّت مِنْ كتفيه وأسندناه. عندئذٍ، فتح
عينيه الواسعتين للمرَّة الثالثة، واستدار بهدوء نحونا، ثمَّ دلَّى ساقيه إلى
الأسفل.. مهيئاً نفسه للنـزول. ومددتُ يدي كي أساعده..
..
وفجأة، اكتشفتُ أنَّ الشمس كانت قد غَرُبتْ وأنَّ العتمة غمرت الغرفة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
مِنْ كتابي القصصيّ الموسوم «1986»، الصادر
في العام 2009 عن «دار أزمنة» في عمَّان.
(2)
حريَّة الفنان - حسن سليمان. الطبعة
الثانية -1983- دار التنوير للطباعة والنشر - بيروت.