جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات 
الذكرى التسعون لـ«الكتاب الأسود في القضيّة الأردنيّة العربيّة»
مظاهرة في عمَّان في العام 1950
لا تحسب الجرح فيمن لا يضجّ أسىً    يا كوكس(1)  مندملاً  فالضيمُ  نكَّاءُ
والحقّ  لا  بدّ  مِنْ   إشراقِ  طلعتِهِ    مهما استطالتْ على أهليهِ ظلماءُ
وقوّة الضعفِ إنْ  جاشتْ   مراجلُها    تنمَّرتْ  نعجةٌ،  واستأسدتْ شــــاءُ(2)
«عرار»

في هذا العام الذي يوشك على الانقضاء، تكون قد مضتْ تسعون سنة على صدور «الكتاب الأسود في القضيّة الأردنيّة العربيّة». صدرت الطبعة الأولى مِنْ هذا «الكتاب» في أواخر العام 1929؛ حيث تمَّتْ طباعته في مطبعة الأيتام في القدس. وهو «عبارة عن رسالة من اللجنة التنفيذيّة للمؤتمر الأردنيّ موجَّهة إلى عصبة الأمم»(3).

وبعد ذلك، مرَّت 56 سنة ظلَّت خلالها هذه الوثيقة التاريخيّة الأردنيّة المهمّة مغفلة، إلى أنْ تمكَّن الشهيد ناهض حتَّر مِنْ نفض الغبار عنها واستخراجها مِنْ غياهب «القاعة الهاشميّة في مكتبة الجامعة الأردنيّة»(4)؛ حيث وضع لها مقدّمةً سياسيّة – تأريخيّة بقلمه فألقى الضوء على ظروف إصدارها ودواعي إصدار طبعتها الثانية التي أشرف عليها هو بنفسه وتحمَّل منفرداً مسؤوليّة (وأعباء) إصدارها عن «الدار العربيّة للتوزيع والنشر» في عمَّان، في العام 1985، تحت عنوان «في القضيّة الأردنيّة العربيّة».

ومن الواضح أنَّ التغيير المحدود الذي طرأ على عنوان الكتاب (حذف كلمتي «الكتاب الأسود»)، وكذلك وجود فراغات عديدة فيه مُعبَّر عن كلٍّ منها بثلاث نقاط متتالية، قد جاء تحت ضغط اشتراطات الرقابة على النشر التي كانت – آنذاك – تتسلَّح بالأحكام العرفيّة المعلَنَة(5).

وبعد ذلك، تمَّ إغفال هذه الوثيقة مرّةً أخرى؛ حيث مرّ على إصدار طبعتها الثانية، حتَّى الآن، 35 سنة ولم تصدر منها طبعة ثالثة.

طبعة الكتاب، التي استندتُ إليها، هذه، من القطع الكبير، وهي مكوَّنة مِنْ مئتي صفحة، إحدى عشرة منها تشتمل على صور، والباقية تشتمل على وثائق.. إضافة إلى المقدّمة التي وضعها للكتاب الشهيد ناهض حتَّر.

النسخة الموجودة لديّ من الكتاب تمثِّل ذكرى عزيزة مِنْ صديقي الشهيد، وهي بإهداء حميم منه مذيّلٍ بتوقيعه الذي لا يُقدَّر بثمن الآن؛ لأنَّ مبادئ صاحبه تعمَّدت بدمه الزكيّ.

يكشف الكتاب – كما يشير الشهيد ناهض حتّر في المقدِّمة التي وضعها له – «مستوى الوعي السياسيّ والممارسة السياسيّة لقيادة الحركة الوطنيّة المناوئة للاستعمار آنذاك»(6).

ويتابع ناهض قائلاً «إنَّ هذا الكتاب، بما يتضمَّنه مِنْ مادّةٍ وثائقيّة غنيّة، يضع بين يدي الدارسين والمهتمّين فرصة الانتفاع به لجهة البحث والدراسة أو لجهة الثقافة الذاتيّة»(7).

وعنوان الكتاب ومضمونه، يُسجِّلان بداية تشكّل «القضيّة الأردنيّة العربيّة» التي لا تزال تنتظر خواتيمها السعيدة. كما أنَّ إطلاق مسمَّى «الكتاب الأسود» على هذه الوثيقة يحمل دلالاتٍ بليغةً على الحال الذي فُرِض على الشعب الأردنيّ وبلاده منذ العام 1921.

ويلفتُ النظر، هنا، الاستخدام المبكِّر لمسمَّى «القضيّة الأردنيّة العربيّة». وربّما كان هذا أوّل استخدام موثَّق لهذا المسمّى. وهو يشتمل على جانبين: الأوّل جانب وصف حال الشعب الأردنيّ بـ«القضيّة»، والجانب الثاني هو تأكيد السياق أو البعد العربيّ لهذه القضيّة الوطنيّة.

واستخدام مسمَّى «قضيّة» يطرح سؤالاً ضروريّاً عن ماهيّة هذه القضيّة.

إنَّها، برأيي، قضيّة شعب أخذ الاستعمار البريطانيّ بلاده منه، وجاء بنظامٍ من الخارج فنصَّبه عليها ليقوم بدورٍ وظيفيّ في خدمة أغراض تنفيذ وعد بلفور.

ولذلك، فطوال مئة سنة، قام هذا النظام (يساعده في ذلك الاستعمار البريطانيّ ثمّ الولايات المتّحدة) بتهميش الشعب، وسلبه حقّه في حكم بلاده ونفسه بنفسه، وفَرَضَ عليه سلطة أوتوقراطيّة متجبِّرة (حكم فرديّ مطلق)، وحال دون قيام مؤسّسات حقيقيّة في البلاد، ولم يحترم حتَّى الدستور الذي وُضِعَ أصلاً تحت سلطته، وعطَّل عجلة التنميّة الوطنيّة، ورهن البلاد للمصالح الإمبرياليّة، ونهب الموارد والثروات الوطنيّة، وأفقر الشعب وجوّعه وكتم أنفاسه.

ولذلك، فبينما نحن نقترب من الذكرى المئة لقيام هذا النظام، نجد البلاد مرهقةً بديونٍ هائلة، وتعيش يوماً بيوم على الديون والمساعدات الخارجيّة.. بلا أيّ أُفق واضح للتحرّر الوطنيّ والنهوض والاعتماد على الذات.

وقد قاوم الشعب الأردنيّ، منذ البداية، بكلّ الوسائل والسبل الممكنة، وجاد بالكثير من التضحيات الباهظة؛ لكنّه قُهِرَ وغُلِبَ على أمره. ومع ذلك، فهو لا يزال يواصل كفاحه، مطالباً باسترداد بلاده ومواردها وثرواتها وسيطرته عليها، والحصول على حقّه المشروع في تقرير مصيره، وإقامة سلطة وطنيّة ديمقراطيّة حقيقيّة تفعِّل المبدأ الدستوريّ القائل إنَّ «الشعب مصدر السلطات»، وتقرن المسؤوليّة بالمساءلة، وتنهي التبعيّة، وتنجز استقلالاً حقيقيّاً، وتطلق عجلة التنمية الوطنيّة، وتحقِّق العدالة الاجتماعيّة، وتضع البلاد على سلّم النهوض والتقدّم.

على أيّة حال، الكتاب الذي نحن بصدده يتكوَّن مِنْ: مقدِّمة تتحدَّث عن واقع الحال في الأردنّ في ظلّ الانتداب البريطانيّ والسلطة التابعة له؛ ومِنْ وثائق تسند ما جاء في المقدّمة وتوضّحه. وهذا، طبعاً، بالإضافة إلى المقدّمة المهمّة التي وضعها له الشهيد ناهض حتَّر.

ويحمِّل واضعو الكتاب المسؤوليّة الرئيسة عن سوء حال الشعب الأردنيّ – آنذاك – إلى سلطة الانتداب البريطانيّة باعتبارها هي صاحبة القرار في البلاد وهي المسؤولة عن كلّ ما يفعله أتباعها في «السلطة التنفيذيّة» التي نصّبوها على البلاد. حيث «تفرّد المعتمد البريطانيّ بالسلطة تفرّداً مطلقاً» «وعادت رئاسة الحكومة اسماً لغير مسمّى حتَّى عمَّتْ مِنْ جرّاء ذلك الفوضى الإداريّة» ص 44، «وقد أصبح المجلس التنفيذيّ (الحكومة) الحاضر أشبه بماكنة للقوانين تديرها يد المعتمد البريطانيّ لإخراج كلّ فكرة شخصيّة أو استعماريّة لسعادته قانوناً عجيباً بعيداً كلّ البعد عن أصول التشريع وقواعد العدل وحاجات البلاد». ص 44

تركِّز المقدّمة على المطالبة بإعطاء الشعب الأردنيّ حقّه في الاستقلال والحكم الدستوريّ و«السيادة القوميّة»، وانتخاب ممثّليه لكي تشارك «الأمّة بالتشريع والإدارة بواسطة نوّابها».. «ولمّا كان الشعب في شرقي الأردن قد أدرك ما حيك ويُحاك له في الخفاء وشهد استقلال بلاده يُنتَقص هذا الانتقاص وحقوقه تُمتَهن هذا الامتنهان نهض استناداً إلى حقّه الطبيعيّ والشرعيّ في الحياة الحرّة وإلى الوعود الرسميّة المقطوعة له من الجانب البريطانيّ مطالباً بالاستقلال الحقيقيّ والحكم الدستوريّ الصحيح». ص 45

تشتمل الرسالة أيضاً على شكوى (موجَّهة إلى عصبة الأمم) مِنْ أنَّ سلطة الانتداب «تُعدّ في الخفاء وسائل اغتصاب الآراء العامّة عن طريق الوعد والوعيد وتفريق الكلمة وترتيب التهم للإيقاع بالمعارضة وإصدار قوانين استثنائيّة مخالفة لكلّ أصل تشريعيّ في العالم تحجز بها الحرّيّات وتكمّ الأفواه وتمنع الشعب عن أيّة مطالبة مشروعة بحقوقه المغتصبة» ص 45

والهدف مِنْ هذه الإجراءات التعسّفيّة، كما تُبيّن الرسالة، هو: «عبارة عن تنفيذ لمقاصد استعماريّة غير مشروعة واستيلاء تامّ على مرافق شرقي الأردن لا يرضى به أردنيّ شريف». ص 45

ولفرض شروطها وإرادتها قامت السلطة الانتدابية – كما توضّح الرسالة – بـ«أ. مضاعفة استخدام السلطات الإداريّة في اضطهاد الزعماء وتوقيفهم ونفي المعارضين بتعيين محلّات إقامة إجباريّة لهم دون أنْ يجروا عليهم رزقاً لإعالتهم ولو ماتوا جوعاً الأمر الذي لم يسبق له مثيل في مجاهل إفريقيا بل ولا في أيّ عصر مِنْ عصور الهمجيّة؛ ب. صبغ مثل هذه الأعمال بصبغة قانونيّة مفتئتين على التشريع المدنيّ في العالم كلّه باعتبار قانون منع الجرائم والعقوبات المشتركة والنفي والإبعاد قوانين شرعيّة في حين أنَّ الشرائع الدينيّة والمدنيّة تتبرّأ مِنْ مثل هذه القوانين السالبة لكلّ حرّيّة وحقّ طبيعيّ؛ ج. محاربة التمثيل الشعبيّ وتحديده تحديداً غريباً بموجب قانون انتخاب جديد باطل أصلاً وفرعاً وُضِعَ لهذه الغاية؛ د. تعطيل الصحف المحلّيّة ومنع صحف البلاد المجاورة وتحديد القراءة والاطّلاع وخنق حرّيّة المطبوعات» ص 47

وتُفصِّل الرسالة سُبُلَ الضغط والسُّبل الإداريّة التي اُتُّبِعَتْ لتزوير إرادة الشعب. وهذا، طبعاً، بالإضافة إلى قانون الانتخاب غير الديمقراطيّ.

ثمّ تشرح الرسالة السُّبل التي اتّبعها الشعب في مواجهة هذه السياسة القهريّة المستبدّة؛ وذلك: أوّلاً، بوساطة مذكّرات خطّيّة واحتجاجات رسميّة؛ وثانياً بوساطة مفاوضات شفهيّة مع الأمير والمعتمد البريطانيّ. وقد اشترط مندوبو «اللجنة التنفيذيّة للمؤتمر الوطنيّ الأردنيّ»، لكي يوافقوا على المشاركة في الانتخاب، «فصل السلطة التنفيذيّة عن السلطة التشريعيّة في دعوة المجلس التشريعيّ، وتبديل الحكومة الحاضرة... وأن يُعدّل قانون الانتخاب بشكلٍ يلائم حقّ التمثيل الصحيح القانونيّ. حتَّى إذا اشتركت البلاد في الانتخاب كانت مطمئنّة لإبداء رأيها الحقيقيّ بشأن مصيرها» (ص 51). وهو ما يمكن أنْ يُترجَم في أيّامنا هذه بحقّ تقرير المصير.

وفي ختام مقدّمة رسالتها، أكَّدت «اللجنة التنفيذيّة» أنَّ ممثِّلي الحكومة البريطانيّة في الأردنّ خالفوا في سلوكهم عهد جمعيّة الأمم في ما يخصّ حقوق السكّان وضمان حرّيّاتهم المشروعة؛ وأنَّ البلاد الأردنيّة كلّها ترفض ما سُمِّيَ «المعاهدة الأردنيّة البريطانيّة» التي فرضتها سلطة الانتداب؛ وأنَّ المجلس التشريعيّ المؤسَّس على تزييف إرادة الشعب بالطريقة التي فصّلتها اللجنة التنفيذيّة في رسالتها هذه «لا يمثّل بلاد شرق الأردنّ في شيء بل هو يمثّل أشخاص أعضائه فقط ومقرّراته لا تعبّر عن رغائب الأمّة ولا تلزم البلاد في شيء – بل تعتبر مقرّراته جزءاً مِنْ إجراءات التسلّط البريطانيّ غير المشروع» (ص 52)؛ و«أنَّ شرقي الأردنّ تعتبر ميثاقها القوميّ أصلاً في المطالبة بحقوقها الاستقلاليّة المشروعة ووضع دستورها على أساس السيادة القوميّة». ص 52

وفي النهاية، تطالب اللجنة التنفيذيّة في رسالتها عصبة الأمم، «باسم الحضارة والإنسانيّة»، أنْ تلتفت إلى «الحقائق المؤلمة» الواردة في هذا الكتاب الأسود، وترجو منها «إيفاد لجنة حياديّة نزيهة للنظر في هذه الأمور وتحقيق صحّة هذه الشكاوى المؤيّدة بالوثائق الرسميّة» ص 53

وفي الوثائق المرفقة بهذه الرسالة، نعثر في العديد من المرّات (وخصوصاً في نصّ «المعاهدة الأردنيّة البريطانيّة») على اسم فلسطين كبلاد قائمة بذاتها. وذلك بوجه خاصّ في موضوع الاتّفاقيّات الجمركيّة بين الأردنّ وبين فلسطين التي أُبرِمَتْ برعاية الانتداب البريطانيّ.

يلفتُ النظر أيضاً أنَّ اللجنة التنفيذيّة كانت تُوقّع رسائلها وبياناتها الداخليّة والخارجيّة على النحو التالي: «اللجنة التنفيذيّة للمؤتمر الأردنيّ الممثِّل لبلاد شرقي الأردنّ». وفي رسالة من حسين الطراونة رئيس اللجنة التنفيذيّة بعثها إلى المعتمد البريطانيّ في عمّان، في شهر آب من العام 1928، يقول: «ليس الذين يطالبون بحقوق البلاد المشروعة بضعة أشخاص ولكنّهم ممثّلو الأمّة الحقيقيّون في رغائبها ومطاليبها الوطنيّة الحقّة». ص 175

وثمّة أمور أخرى في رسالة حسين الطراونة، تلك، تستحقّ أنْ يُشار إليها هنا. يقول: «إنَّ الدستور الذي أعلنته الحكومة باسم شرقي الأردنّ جعل الحقّ في تولية الحكومة لسمو أمير البلاد دون غيره. ويبدو أنَّ الحالة هنا تدلّ على أنَّ البلاد ما زالت تُعامل معاملة ضمن مستعمرة يتصرّف فيها الجالسون على كراسي الحكم تصرّف المَلّاك في ملكه وأصبحت الدولة المنتدبة تنظر لأهلها نظرها إلى سائمة ضائعة». ص 175

ويتابع الطراونة رسالته مذكّراً بمطالب المؤتمر الوطنيّ الأردنيّ «الذي يمثِّل أعضاؤه أهالي شرق الأردن تمثيلاً صحيحاً»، وهي – كما يقول – مِنْ شقّين: «الأوّل منهما عزل السلطة التنفيذيّة عن المجلس التشريعيّ عملاً بالقواعد الدستوريّة في العالم»؛ و«أمّا الشقّ الثاني، فهو تشكيل حكومة وطنيّة». ص 176

وفي ردّ المعتمد البريطانيّ على حسين الطراونة، يكرِّر ذكر اسم فلسطين أكثر مِنْ مرَّة في معرض حديثه عن «الأحوال المحلّيّة في البلاد الواقعة بين الأردنّ والحدود الشرقيّة لفلسطين» ص 178. ويقول أيضاً إنَّ الحكومة البريطانيّة وافقت على «أنْ لا تطبّق في شرق الأردنّ أحكام الانتداب المختصّة بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين». ص 178.

وطبعاً، في ما يخصّ الأردنّ، تركّز رسالة المعتمد البريطانيّ للطراونة على تبرير سياسات سلطة الانتداب وأعوانها التي تتّسم بأنَّها غير ديمقراطيّة وتغلِّب مصالح الاستعمار على مصالح الشعب والبلاد.

وتُلفتُ النظر في ردّ اللجنة التنفيذيّة على المعتمد البريطانيّ، في تاريخ 26 آب 1928، إشارتها إلى مطالبتها بـ«تسليم مقدّرات البلاد إلى أهلها». الأمر الذي وصفه المعتمد بأنَّه «ليس مِنْ أصالة الرأي الآن حتَّى يبرهن الشعب على كفاءته». ص 181

وطبعاً، حتَّى هذه اللحظة، لم يتمكّن الشعب من الحصول على شهادة تفيد بأنَّه قد «برهن على كفاءته».

ترفض اللجنة التنفيذيّة هذه الذرائع كلّها، وتردّ على مذكّرة المعتمد البريطانيّ «مِنْ وجهة النظر الوطنيّة الأردنيّة» (ص 181)، مذكّرةً إيّاه «بروح عهد جمعيّة الأمم ومبادئ الرئيس ويلسون».

تجدر الإشارة، هنا، إلى أنَّ مبادئ الرئيس الأميركيّ وودرو ويلسون تتحدَّث عن حقّ تقرير المصير للشعوب، وهو ما أكّد عليه في ما بعد أيضاً «العهد الدوليّ الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسياسيّة» الذي تقول السلطة الحاكمة في بلادنا إنَّها قد وقّعتْ عليه؛ لكنّنا لا نرى لهذا التوقيع أثراً في ممارساتها.

وتؤكّد اللجنة التنفيذيّة للمعتمد البريطانيّ بأنَّها «ترى أنَّ نظام الحكم في شرق الأردنّ يجب أنْ يقوم على أساس الاعتراف بجهاد العرب وحقّ تقرير مصيرهم وعلى قواعد لحقّ الأمّة الأساسيّ بالسيادة والاستقلال قبل أيّ اعتبار آخر». ص 182

تشتمل الوثائق، التي أُرفِقَتْ برسالة اللجنة التنفيذيّة إلى عصبة الأمم، على قوانين ومراسيم حكوميّة في شأن نفي المعارضين إلى خارج البلاد أو داخلها (قانون النفي والإبعاد لسنة 1928)، وقرارات بتعطيل صحف محلّيّة ومنع دخول عدد من الصحف العربيّة إلى البلاد(8).

أمّا قرارات النفي، في هذا القانون، فتعتمد على أنَّه «إذا اقتنع المجلس التنفيذي بأنَّ أيّ شخص ينهج منهجاً خطراً على الأمن والنظام في شرق الأردنّ أو يسعى لإثارة العداوة بين الأهلين والحكومة في شرق الأردن أو بين الأهلين ودولة الانتداب فإنَّه يجوز للمجلس التنفيذيّ أنْ يأمر بإبعاد ذلك الشخص مِنْ شرق الأردنّ على المحلّ الذي يقرّره المجلس التنفيذيّ وللمدّة التي يراها مناسبة». ص 132- 133

ومِنْ عجائب قانون المطبوعات «قانون موضوع ذيلاً للمادّة 35 مِنْ قانون الموظَّفين لسنة 1926»، الصادر في تاريخ 7 تشرين الأوّل 1928، حيث أنَّه يقول: «لا يحقّ لأيّ موظّف أنْ يشترك – مهما كانت الظروف – في أكثر مِنْ جريدة واحدة من الجرائد اليوميّة أو الموقوتة غير العلميّة ومَنْ لا يراعي هذا المنع يُعدّ مذنباً بإساءة السلوك في القيام بواجباته الرسميّة ويعرض لعقوبة واحدة أو أكثر مِنْ العقوبات المدرجة في المادّة 71».

وقد أدَّتْ هذه التدابير التعسّفيّة إلى «خنق حرّيّة الرأي والاجتماع والصحافة بفرض عقوبات وغرامات وضمانات باهظة على أصحابها واضطهاد المطالبين بالطرق المشروعة بحقوق البلاد اضطهاداً يرمي إلى إيذائهم في أموالهم وأبدانهم وحرّيّاتهم القانونيّة خلافاً لكلّ شرع مدنيّ أو دينيّ ولما جاء في القانون الأساسيّ الذي لم يجفّ مداده بعد». ص 183

تُرى لو صدرتْ الآن طبعة جديدة، مزيدة ومنقَّحة – كما يُقال في عالم الطباعة والنشر – من «الكتاب الأسود في القضيّة الأردنيّة العربيّة»، فكم سيكون حجمها؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هنري فورتنام كوكس، عُيِّن معتمداً مقيماً في عمَّان لسلطات الانتداب البريطانيّ، خلال الفترة الواقعة ما بين 1 نيسان/أبريل 1924 وبين آذار/مارس 1939.
(2) وضع الشهيد ناهض حتَّر أبيات عرار هذه في مفتتح الكتاب.
(3)  من المقدِّمة التي وضعها الشهيد ناهض حتَّر للطبعة الثانية من الكتاب.
(4) اعتمد الشهيد ناهض حتَّر على النسخة المحفوظة في القاعة الهاشميّة في مكتبة الجامعة الأردنيّة، تحت الرقم (502 – 956). وهي مختومة بختم «اللجنة التنفيذيّة للمؤتمر الوطنيّ – مركز عمَّان».
(5) الأحكام العرفيّة قائمة الآن، مِنْ دون إعلان، لكن كأمر واقع.
(6) «في القضيّة الأردنيّة العربيّة»، مقدّمة الكتاب.. بقلم الشهيد ناهض حتَّر، ص 11.
(7) مقدّمة الكتاب، ص 12.
(8) من الصحف التي تمّ تعطيلها «الأردن» لمدّة ثلاثة شهور. ومن الصحف التي تمّ منع دخولها: «مرآة الشرق»، و«الجامعة    العربيّة»، و«فلسطين»، و«الزمر»، و«صوت الحقّ» و«الشعب» و«الصراط المستقيم».. الخ.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال