جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣
الطريق إلى مليح في العام 1986..                                               (قصّة)(1)
جانب مِنْ إحدى حارات بلدة مليح
ركبتُ سيَّارة سرفيس متهالكة، صَعَدَتْ بي عبر طريق «المصدار» الحادّ إلى «الوحدات»، ونزلتُ عند «دوّار الشرق الأوسط»، ثمَّ اتَّجهتُ إلى موقف سيَّارات الجنوب.. كان مكتظاً بباصات مؤسَّسة النقل العامّ والباصات التابعة لشركاتٍ خاصَّة وسيَّارات السرفيس العاملة بين العاصمة وبين مدن الجنوب.


بالقرب من الموقف ثمَّة فندق ريفيّ كبير، تليه جنوباً مقبرة أمّ الحيران الإسلاميّة محاطة بأشجار السرو والصنوبر الكبيرة. ومِنْ أمامه يمرُّ طريق عريض باتِّجاهين؛ أحدهما هابطٌ باتِّجاه منطقة رأس العين، والآخر صاعدٌ باتِّجاه دوّار الشرق الأوسـط، ليعود فيهبط مِنْ هناك باتِّجاه وادي الرمم.

وجدتُ إحدى سيَّارات السرفيس واقفة على الدور، كان المقعد الأماميّ فيها فارغاً فصعدتُ إليه، أمّا المقعد الخلفيّ فقد جلستْ فيه امرأتان.. إحداهما في العشرينيّات مِنْ عمرها والأخرى في حدود الخمسين. وكان أحد باصات «مادبا» يقف على مقربة، وفيه عدد قليل من الركاب، لكنَّ مجموعة جديدة منهم ما لبثتْ أنْ صعدتْ إليه. عندئذٍ قالت المرأة الكبيرة للأخرى: أرأيتِ.. لو سمعتِ كلامي وركبنا الباص؟

ولم تقل المرأة الأصغر شيئاً.

غير أنَّ الأولى أضافتْ بعد قليل: سيمتلئ سريعاً، وسنظلُّ محبوستين هنا في هذه السيَّارة.

قالت الفتاة بضيق ظاهر: اصبري قليلاً، وستمتلئ.

وتجمهر عددٌ من الرجال في المسافة الفاصلة ما بين السيَّارة وبين الباص، وعلتْ أصواتهم واختلطتْ. ورحتُ والمرأتين ننظر إليهم، وكذلك فعل ركّاب الباص. واستطعتُ أنْ أرى، وسط الجمع، رجلاً أربعينيّاً وقد خلع عقاله عن قضاضته وراح يضرب به فتىً في حدود الخامسة عشرة مِنْ عمره، بينما راح الرجال الآخرون يحاولون ثنيه عنْ ذلك. ثمَّ أخذ اثنان منهم الفتى ودفعاه بعيداً، فمضى هذا مِنْ دون أنْ يلتفت وراءه. في حين أمسك رجال آخرون بالرجل الأربعينيّ الَّذي ظلَّ يحاول الإفلات واللحاق بالفتى وهو لا يكفّ عنْ شتمه بصوتٍ عالٍ.. وكان كلَّما أرخى الرجال أيديهم عنه قليلاً يحاول مِنْ جديد.

وقال أحدهم: الولد مضى، والمشكلة لا تستحقّ كلَّ هذا الغضب، وأنت رجل كبير لا يجوز أنْ تحط عقلك في عقل ولد جاهل.

لكنَّه ظلَّ ينتفض ويحرِّك رأسه بعنف، مواصلاً النظر إلى حيث كان الولد يتّجه.. وكان الأخير قد اجتاز الشارع العريض بقسميه ومضى باتِّجاه دوّار الشرق الأوسط، ومال يساراً إلى أنْ اختفى. حينذاك هدأ الرجل الأربعينيّ، وفتح الباب الأماميّ الأيسر لإحدى سيَّارات الأجرة الواقفة، وجلس خلف مقودها، تاركاً بابها موارباً. وانفضَّ الناس مِنْ حوله بينما أطرق هو ساهماً..

وتحرَّك الباص مبتعداً عن الموقف. فقالت المرأة للفتاة: شِفتِ؟

ولم تقل الفتاة شيئاً.. وجاء طفل يرتدي سروالاً وقميصاً قديمين رثّين، وطرق زجاج السيَّارة مِنْ الجهة الَّتي تليني، فنظرتُ إليه، وعندئذٍ مدَّ يده إليَّ مِنْ دون أنْ يقول شيئاً. أشرتُ له بأنْ يذهب، فذهب. لكنَّني رحت أنظر إليه وهو يبتعد.. ثمَّ فتحتُ النافذة وناديته: يا ولد.. يا ولد..

ثمَّ: يا شب..

غير أنَّ الضجيج كان عالياً؛ فلم يلتفت إليَّ.

وقالت المرأة للفتاة: إفّ.. ما كان يجب أنْ أردّ عليكِ.

ولم تقل الفتاة شيئاً. وجاء السائق. صعد إلى السيَّارة، ثمَّ مال بجسده إلى اليمين وفتح الدُرج الموجود أمامي، تناول منه قطعة قماش قطنيَّة برتقاليَّة اللون متّسخة، ثمّ نزل وراح يمسح بها زجاج السيَّارة الأماميّ من الخارج. وجاء شاب ربع القامة، حليق شعر الرأس.. فتح الباب، وجلس إلى جانبي. وانتقل السائق إلى الزجاج الخلفيّ وراح يمسحه. ونظرتُ إلى الأمام فلاحظتُ أنْ الزجاج الأماميّ ما زال متسخاً، وجاء طفل يبيع العلكة، نقر الزجاج مِنْ جهة المرأتين.. غـير أنَّ المرأة الأكبر سنّاً قالت له بفظاظة: امشِ يا ولد.. امشِ.
 فمشى الولد وهو ينظر إليها.

 وجاء شاب متوسّط الطول، أسمر البشرة، أسود الشعر وطويله، له شاربان خفيفان، وجلس في المقعد الخلفيّ. عندئذٍ، جاء السائق، وفتح الباب، وجلس في مقعده، ثمَّ فتح الدُرج الموجود أمامي، ووضع الممسحة فيه، وأغلقه. ثمَّ أدار المحرِّك، ومضى بالسيَّارة إلى الأمام، وعلى بعد مائة متر انحرف بها إلى اليمين، وانطلق باتِّجاه مبنى الإذاعة والتلفزيون، قاطعاً سكَّة الحديد، ثمَّ مال إلى اليسار.. حيث مررنا بصفٍّ مِنْ دكاكين اللحوم على يمين الشارع.. وكانت الخراف المسلوخة معلَّقة في واجهاتها، بينما انتشرتْ، في المسـاحات الموجودة أمامها، مواقد الفحم الموضوعة على طاولات حديديَّة عالية، وقد صُفَّتْ فوقها أسياخ الكباب والشقف، وراح الدخان يتصاعد منها.. ثمَّ ما لبثنا أنْ مررنا بمبنى الجمرك عنْ يسار الطريق، وقد انتشرتْ حوله الأشجار الحُرجيَّة بكثافة واضحة، وأحاط به جدار مرتفع من الاسمنت والأسلاك الشائكة. ثمَّ مررنا ببناء حجريّ كبير للشرطه، رغم حداثة بنائه إلاّ أنَّه يشبه قلعة تاريخيَّة قديمة. وكان البناء ينتصب على كتف التل المجاور من اليسار، أمّا عن اليمين فقد كانت ثمَّة أبنية حجريَّة جديدة، أحاط بها سور حجريّ عالٍ مِنْ كلِّ الجهات. وانتصبتْ على أركان السور الأربعة أكواخ صغيرة مشرفة للمراقبة والحراسة، بينما وقف عند البوابة الرئيسة شرطيان.. وكُتبتْ فوقها لافتة تقول: «مركز الإصلاح والتأهيل - الجويّدة».

وفجأة اتَّسع الطريق وانقسم مِنْ منتصفه إلى قسمين، أحدهما يمضي بعكس الآخر، وتضاعفتْ سرعة السيَّارة، ثمَّ عبرنا مِنْ تحت جسرٍ كبيرٍ، ومضينا وسط حقول القمح إلى بلدة خريبة السوق. وكان الركاب طوال الوقت صامتين وواصلنا سيرنا إلى الجنوب، وقد أصبح الشارع يضيق مِنْ جديد، وانتشرتْ فيه الحفر والمطبَّات، كما أنَّه كان يكتظُّ بالشاحنات الكبيرة والباصات والسيَّارات الذاهبة والآتية. وعاد السائق ليبطئ مِنْ سرعة سيَّارته، لكنَّه كلَّما قلَّ ازدحام الطريق بعض الشيء كان يسرع مِنْ جديد. ثمَّ مررنا مِنْ أسفل مستشفى اليادودة للأمراض النفسيَّة، المحاط بأشجار السرو والصنوبر العالية، والمتربِّع على تلٍّ صغير على يسار الطريق. وقد اصطفَّتْ على يمين الطريق بضع بنايات حجريَّة حديثة، في بعضها قامت بقالات متنوّعة، بينما بقي بعضها الآخر مغلقاً وكُتِبَ على أبوابه الحديديَّة الكبيرة بخطٍّ كبيرٍ رديء: «للآجار».

ثمَّ سرنا بمحاذاة بساتين الزيتون المسيَّجة بالحجارة والأشجار الحُرجيَّة الباسقة.. وبعدها مباشرة، تناثرتْ، على يمين الطريق أيضاً، أبنية حجريَّة حديثة.. ثمَّ انبسط الطريق أمامنا، وقد أحاطتْ به حقول القمح الخضراء الممتدَّة. ثمَّ صعدنا فوق «جسر مادبا» الذي يعلو الطريق المزدوج الواصل ما بين عمَّان والمطار الدوليّ.. وقد اتّسع الطريق كثيراً فوق الجسر، لكنَّه ما لبث أنْ انحسر بمجرَّد ما اجتزناه.. وعلى الجانبين قامتْ مواقف كبيرة للشاحنات، وقد اصطفَّ هناك الكثير منها؛ محمَّلة أو فارغة.

ثمَّ مررننا مِنْ أمام مخفر للشرطة، قديم البناء، وقد وقف عند بوَّابته شرطيٌّ يحمل بندقيَّةً أميركيَّة الصنع، مِنْ طراز م60، بينما وقف آخران بمحاذاة الشارع، وعلى جانب كلٍّ منهما مسدَّس في جرابٍ جلديٍّ أسود سميك. وعلى بعد مائتي متر إلى الجنوب، راحتْ تنتشر مجموعة من القصور الحجريَّة الحديثة الهائلة الأحجام والمسقوفة بالقرميد الأحمر.. وقد أحاطتْ بكلِّ منها مساحةٌ واسعة من الأرض الخصبة، المزروعة حديثاً بمختلف أنواع الغراس المثمرة والحرجيَّة، تحيط بها أسوارٌ من الحجر الأبيض المنقوش تعلوها شِباكٌ حديديَّة مزخرفة ومدهونة باللون الأسود.

اتَّجهتْ عيون الركاب إلى تلك القصور وظلَّتْ هكذا إلى أن ابتعدنا عنها صعوداً باتِّجاه قرية «أمّ العمد»، وقد حجبتْ بيوتَها عن الأنظار أشجارُ الصنوبر الكثيفة الَّتي اصطفتْ على جانبي الشارع.

ثمَّ انحدرنا بالتدريج إلى سهلٍ منبسطٍ واسع.. زرع بالقمح والخُضار بأصنافها المختلفة. ثمَّ دخلنا قريةً «منجا» ببساتينها العديدة، وأشجارها الحرجيَّة التي تحيط بالشارع مِنْ جانبيه، تجاوزناها سريعاً، ودخلنا في سهلٍ واسع، مترام على الجهتين، وقد امتزج اخضراره بأشعة الشمس الَّتي كانت تتوسَّط السماء. ولاحتْ لنا، جنوباً، مدينة «مادبا».. بجراسيات كنائسها ومآذن جوامعها، وقد برزتْ مِنْ بينها جراسيَّة كنيسة دير اللاّتين(2) في أعلى التلّ الَّذي يتوسَّط المدينة، وما لبثتْ سهول الحنطة الواسعة المحيطة بها أنْ صعدتْ أمام أنظارنا. وأحسستُ برأس الشابّ الجالس إلى يميني يميل على كتفي، فابتعدتُ عنه قليلاً، وعندئذٍ انتبه وأبعد رأسه وهو مغمض العينين.

وقالت الفتاة لأمِّها: وصلنا.

ولم تقل أمُّها شيئاً.

وانحدرنا قليلاً، ثمَّ صعدنا، ثمَّ سرنا باستقامة، وما لبثنا أنْ مررنا بأوَّل بيوت المدينة، ثمَّ بمدرسةٍ ثانويَّة للبنات على اليمين، واجتزنا شوارع فرعيَّة تصعد باتِّجاه أعلى التلّ على اليمين أيضاً، ومضينا حتَّى الموقف الأخير للسرفيس. وقفتْ السيَّارة على يمين الشارع، ونزل الشاب الجالس في الخلف أوَّلاً، ثمَّ الآخر الجالس إلى يميني.

قلتُ للسائق: يعطيك العافية.

ردَّ عليَّ بضجرٍ بائن، بينما أنا أهمُّ بالنـزول، قائلاً: الله يعافيك.

سرتُ بضعة أمتار فوجدتُ أحد باصات «مليح» واقفاً. صعدتُ إليه وألقيتُ نظرةً شاملة سريعة داخله، فرأيت مجموعة قليلة من الركاب.. ثلاث نساء مع أطفالهنّ وأربعة شبَّان وشيخين. ألقيتُ التحيَّة على الجميع، في البداية، وصافحتُ شابَّين في المقعد المقابل للباب مباشرة، ثمَّ حيّيت الشيخين الجالسين في مقعد إلى يمين الداخل، وتقدَّمتُ نحوهما وصافحتهما، فسأل أحدهما وقد اكتسى وجهه بمسحة تعاطف واضحة: وجدتَ عملاً إنْ شاء الله؟

قلتُ بلهجةٍ قاطعة: سأجد إنْ شاء الله.

ثمَّ ما لبثتُ أنْ استدركتُ: موعود خيراً.

استدرتُ، وجلستُ في مقعدٍ فارغ أمام الشابين ووراء السائق مباشرة. تطلّع السائق إليَّ فحيَّيته، ثمَّ مددتُ يدي إليه فتصافحنا. وجاء رجلان، لم أعرفهما، كان أحدهما يحمل كيساً من الطحين على ظهره، بينما سار الآخر وراءه. وحين أصبحا بمحاذاة الباص، قال الثاني للسائق: أين نضعه؟

نظر السائق إليه بفتور وقال: هنا.

وقد أشار إلى فسحةٍ صغيرة في الباص في مواجهة الباب.

وقال الرجل: نضعه في الصندوق.. هنا يدوسه الركاب.

قال السائق بضيق: الصندوق ملآن.. ولن يدوسه أحد هنا.

فأشار صاحب الكيس إلى الفسحة وهو ينظر إلى الرجل الآخر الَّذي يحمل الكيس. اقترب الحمَّال من الباب وأدار ظهره لنا، ثمَّ مال قليلاً إلى الداخل وأنزل الكيس، ثمَّ عاد فأدار وجهه إلينا وراح يسـوِّي الكيس على أرضيَّة الباص، ثمَّ ربَّت عليه بيده.. ومِنْ دون أنْ ينظر إلى الرُّكّاب انسحب إلى الوراء، ووقف قبالة صاحب الكيس. وضع هذا يده في جيبه ونبش فيها بعض الوقت، ثمَّ أخرج قطعةً نقديَّةً ما، وضعها في يد الحمَّال، نظر إليها ذاك، ثمَّ وضعها في جيبه ومضى، بينما صعد صاحب الكيس وجلس إلى جانبي مِنْ دون أنْ يقول شيئاً. وتحرَّك الباص، اجتاز شارعاً صاعداً، ثمَّ توقَّف أمام مجموعة من البقالات الصغيرة.. كان في داخلها، أو أمامها، مجموعات من الرجال يتسوَّقون ويتحادثون. وصـعد رجلان بثياب قرويَّة تقليديَّة، وسمعتُ أحد الركاب يقول مخاطباً السائق: اِنتبِه.. جاءت سيَّارة الشرطة.

التفتَ السائق إلى الوراء قليلاً، ثمَّ تحرَّك بالباص؛ فليس مسموحاً للباصات الوقوف إلاّ في الموقف المحدّد لها.

وصعد الباص في شارع على اليمين مخترقاً منطقة سكنيَّة تخلو من المتاجر، باستثناء محلٍّ صغير لبيع الملابس المستعملة، وعند منتصفه انعطفنا إلى اليمين، مرَّةً أخرى، ومررنا بين صفَّين من البقالات الشعبيَّة ومحلاّت مواد البناء. ثمَّ ملنا إلى اليمين، مِنْ جديد، وأخذنا بالنـزول إلى المكان نفسه الَّذي تحرَّكنا منه. وكانت سيَّارة الشرطة قد ابتعدتْ إلى الجنوب.

وقال جاري في المقعد: مثل القط والفار.

وفهمتُ أنَّه يقصد الشرطة وسائقي الباصات.

وتوقَّف الباص في المكان السابق نفسه تقريباً. وجاء راكب وقال للسائق إنَّه سيذهب لإحضار غرضٍ ما، طالباً منه أنْ ينتظره، ومؤكِّداً أنَّه لن يتأخَّر. لكنَّ السائق طلب منه، مع ذلك، أنْ لا يتأخَّر. ونزلتْ امرأة وقالت إنَّها تذكَّرتْ هي الأخرى غرضاً يجب أنْ تشتريه. ولم تنتظر موافقة السائق؛ فما كان منه إلا أنْ طلب منها أنْ لا تتأخَّر.

وصعدتْ امرأة عجوز بصعوبة بالغة إلى الباص، ومضتْ إلى الداخل وهي تتوكَّأ بيدها على مساند المقاعد، ثمَّ جلستْ بجوار النساء الأخريات في المقاعد الخلفيَّة.

ووقف في الجوار باص قريةٍ جنوبيَّة أخرى. وراح بعض الركّاب يصعدون إليه. ومرَّ رجلٌ مهلهل الثياب والجسم، يدفع عربةً يدويَّة، وقد لاحتْ فوقها صينيَّة كبيرة، وراح يصيح بصوتٍ مرتفع: هرايس.. هرايس..

وإلى الأمام في فسحةٍ ترابيَّة تلي صفَّ الدكاكين، عرض رجلان وفتى مجموعاتٍ مِنْ سحاحير البرتقال والمندلينا. وتحرَّك الباص، مرَّةً أخرى، إلى الأمام، متجاوزاً الشارع الصاعد على اليمين، مارّاً بمجموعة مِنْ محلاّت تصليح السيَّارات، ودكاكين أدوات البناء، ثمَّ انعطف يساراً وعاد سالكاً الجانب الآخر المعاكس من الشارع.. وحين أصبح بمحاذاة المكان الَّذي كان متوقِّفاً فيه منذ برهة، اعترضته المرأة الَّتي ذهبتْ لشراء حاجةٍ ما، فتوقَّف لها، وصعدتْ ماضيةً إلى الداخل لتجلس في المقعد نفسه الذي كانت جالسة فيه مِنْ قبل. وواصل الباص سيره حوالي مائتي متر، ثمَّ انعطف يساراً، واستدار إلى الجنوب، ثمَّ توقَّف في مكانه السابق. احتضن السائق مقود الباص بيديه، وأنام رأسه فوقه.

وقال أحد الشابين الجالسين ورائي مخاطباً السائق: ألا تنوي أنْ تمشي؟

شال السائق رأسه عن المقود، ونظر بتكاسل إلى الشاب الَّذي سأل، لكنَّه لم يقل شيئاً. ثمَّ صوَّب نظره إلى كافيتيريا صغيرة مجاورة، ونادى صبيّاً يقف أمامها، فنظر هذا إليه مستفهماً، فأشار السائق بإبهامه إلى داخل فمه. عندئذٍ هزَّ الصبيّ رأسه، ثمَّ مضى إلى داخل الكافيتيريا، وجهَّز كأساً من الشاي وأتى به، وناوله للسائق. وراح الأخير يرتشف منه على مهل. وقال الشـاب الجالس في المقعد الخلفيّ: أفّ.

فقال له زميله، ساخراً: طوِّل بنطلونك!

وتناول السائق علبة سجائر كانت أمامه، سحب منها واحدة، وضعها في فمه، ثمَّ تناول قدَّاحة كانت أمامه أيضاً، فأشعل السيجارة بها، وأعاد القدَّاحة والعلبة إلى مكانيهما، وراح يسحب الأنفاس ويخرجها ببطء. ومرَّتْ سيَّارة مرسيدس حديثة تسير بسرعة كبيرة نحو الجنوب، وقفز ولد مِنْ أمامها في اللحظة الأخيرة، ثمَّ وقف في الجزيرة الفاصلة ما بين الشارعين المتعاكسين وهو ينظر ذاهلاً إلى المكان الَّذي قفز منه قبل قليل وإلى سيَّارة المرسيدس وهي تواصل اندفاعها جنوباً. وقال الرجل الجالس إلى جانبي: مجانين.. الواحد منهم ينسى أنَّه يسوق سيَّارته في مدينة مأهولة ببشر لهم أرواح.

وسار الولد بحذر، هذه المرَّة، مجتازاً الشارع الآخر المعاكـس، ثمَّ غاب خلف الأبنية المصطفة في تلك الجهة. وجاء مِنْ محلٍّ لبيع أشرطة التسجيل، صوت فارس عوض(3): لولا الأمر لله.. أمرك على راسي.
الطريق إلى مليح في العام 1986.. (قصّة)(1)
مشهد من مليح وقت الغروب
وصعد إلى الباص شابّ بيده جريدة، وجلس في مقعدٍ خلفيّ.

وانتهى السائق مِنْ شرب الشاي، ونادى الصبيّ، وأعطاه الكأس.

وقال الصبيّ سائلاً وهو يتناول الكأس: على الحساب؟

هزَّ السائق رأسه بالإيجاب، وعدَّل جلسته وراء المقود، ثمَّ شغَّل المحرِّك، وأمسك بناقل الحركة، دفعه إلى الأمام، فتحرَّك الباص مِنْ جديد. وعندما وصل إلى صفّ البقالات الَّتي يتجمَّع داخلها الرجال للحديث أكثر ممّا هو للتسوّق، ظهر الرجل الَّذي كان قد ذهب لشراء بعض حاجاته، حاملاً كيساً ورقيّاً كبيراً ممتلئاً، وصعد إلى الباص فجلس في مقعدٍ أماميٍّ على اليمين.

ثمَّ صعد راكبان آخران.. وعندئذٍ تحرَّك الباص مِنْ جديد إلى الجنوب، لكنَّه هذه المرَّة واصل سيره في الاتِّجاه نفسه بلا أيّ انعطافة، وسرعان ما ترك آخر بيوت «مادبا»، وراح يتوغَّل في السهول الخضراء المترامية. وبعد بضعة كيلو مترات أخذ الطريق يتعرَّج. وصاح طفل في حضن أمِّه، فراحت تربِّت عليه وتغنِّي له بصوت مسموع. ومررنا بتجمّعات قرية «المريجمة» الموجودة على جانبيْ الشارع، ثمَّ نزلنا في منحدر متعرِّج، وعدنا فصعدنا في طريقٍ ملتوٍ، وعندما بدأنا ننحدر مِنْ جديد كنّا قد صرنا عند مدخل قرية «لب». وتوقَّف هناك، فنـزل منه بضعة ركّاب مِنْ بينهم جاري في المقعد وقد أنزل كيسه بنفسه هذه المرَّة، بعدما دفع الأجرة للسائق. ثمَّ واصل الباص سيره وعلى بعد أمتار على يسار الطريق انتصب حجر كبير متناسق الزوايا، وقد كتب عليه: إلى «مكاور»(4).

وتحت هذه الكلمات سهمٌ يشير إلى الطريق الفرعيّ ذاته الَّذي يقود إلى قرية «لب».

وعبرنا سهلاً منبسطاً مليئاً بحقول القمح.. في جانبه الأيسر قطعة أرض كبيرة تُسمَّى «أرض هيلانة»، لننحدر بعد ذلك نحو «وادي الغدير». وتوقَّف الباص في أوَّل المنحدر عند بضعة دور متناثرة، ونزلتْ من الخلف امرأة وطفلان. وعاد الباص لينحدر، مرَّةً أخرى، ثمَّ ليصعد مِنْ جديد. وعند أعلى بقعة في الجبل، بدأنا ندخل بلدة «مليح».. حيث انتشرتْ على جانبي الشارع بيوت معظمها مكوَّن مِنْ طابقٍ واحد.. وتناثرتْ مجموعة من البساتين حول البيوت وعلى مسافات متفاوتة منها.

عند تفرّع الشارع باتِّجاه القرية القديمة نزلتُ بعدما دفعتُ الأجرة للسائق. وسرت نحو مائتي متر بمحاذاة الشارع الرئيس المتَّجه إلى الكرك.. وبينما أنا أقترب من البيت، وهو مِنْ طابق واحد ومحاط بمساحة خالية من الأرض باستثناء الجهة الشرقيَّة حيث كان ثمَّة حقل قمح صغير، رأيت أخوتي الصغار يلعبون الكرة في الساحة الخالية، وفجأة رأوني، فتركوا اللعب وتراكضوا إلى الداخل وهم يصيحون بفرح بائن: ماجد جاء.. ماجد جاء..

وما لبثوا أنْ خرجوا تتبعهم أمِّي وأختي.. وعندما وصلتُ رحتُ أصافحهم واحداً واحداً.. وراحتْ أمِّي تقبِّلني على خدَّيّ الاثنين. ودخلتُ معهم إلى غرفة الضيوف، وهي متوسطة وتحتوي على قليل من المقاعد القديمة، عُلِّقت على جدارها من اليمين لوحة خرزيَّة كنتُ قد صنعتها عندما كنتُ نزيل «سجن المحطَّة»(5) نقلاً عن لوحةٍ شهيرة لفنَّان بولنديّ، وهي عبارة عن حمامة تكسر نجمة سداسيَّة وتفلت مِنْ إطارها، وإلى يمينها صورة أخي عدنان الَّذي يدرس في بلغاريا، أمّا عن يسارها فصورة لي عندما كنت طالباً جامعيّاً مبتدئاً، وقد بدوت باللحية الطويلة والطاقيَّة على الرأس أشبه بثائرٍ مِنْ أميركا اللاتينيَّة.
الطريق إلى مليح في العام 1986.. (قصّة)(1)
جانب من اعتصام في مليح في العام 2019 للمطالبة بإطلاق سراح معتقلي حرّيّة الرأي والتعبير
جلستُ على جانبٍ مِنْ مقعدٍ كبير يتصدَّر الغرفة، في مواجهة الباب. وجاءت أمِّي وأختي وكذلك أخوتي الصغار فجلسوا، وراحوا جميعاً يسألونني عن أحوالي. وهم في العادة يفعلون ذلك في كلِّ أسبوع عندما آتي إليهم. ثمَّ سألوني، كالعادة، إن كنتُ قد وجدتُ عملاً، وقلتُ لهم إنَّ أحوالي لا بأس بها، وإنَّني ما زلتُ أبحث عن عملٍ لا يحتاج إلى موافقةٍ من المخابرات، وإنَّني حصلتُ على بعض الوعود الَّتي أرجو أنْ تتحقَّق. وراحتْ أمِّي تدعو لي بالتوفيق وطول العمر. وجاءت أختي بالشاي، وكانت رائحة الزعتر تفوح منه. أخذنا نحتسيه على مهل وفي هذه الأثناء كنتُ أمازح الصغار وأداعبهم. وإذا بأبي يأتي من الخارج، نهضتُ وتصافحنا. وسألني عن أحوالي وعمَّا إذا كنتُ قد وجدتُ عملاً. فقلتُ له بأنَّني موعودٌ خيراً. عندئذٍ، استدار إلى الجهة الأخرى ومضى إلى الداخل مِنْ دون أنْ يقول شيئاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مِنْ كتابي القصصيّ الموسوم «1986»، وقد صدر في العام 2009 عن «دار أزمنة» في عمّان.. بدعمٍ مِنْ «أمانة عمّان».
(2) بُنِيَتْ كنيسة دير اللاتين في «مادبا» في العام 1882.
(3) فنّان أردنيّ معروف، توفِّي في حادث سير في أواسط ثمانينيّات القرن الماضي، وهو مِنْ بلدة «مليح» وقد دُفِنَ فيها.
(4) هي ميكاروس باليونانيَّة القديمة. وتقول القصّة الدينيّة المعروفة إنَّه فيها رقصتْ سالومي رقصتها الشهيرة، أمام الملك هيرودوس، مقابل رأس يوحنّا المعمدان الذي قُدِّم لها على طبق من فضَّة.

 (5) سجن قديم كان يقع بجوار محطّة سكّة الحديد في عمّان. وقد تمّ هدمه في أواخر ثمانينيّات القرن الماضي.

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال