جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣
المُعلَن والمضمَر في شعارات الحِراك.. في الأردنّ ولبنان
نبدأ بلبنان: يطرح القسم الذي يحظى بتغطية إعلاميّة واسعة من الحِراك اللبنانيّ مطلب تشكيل «حكومة تكنوقراط»، بدعوى التخلّص مِنْ هيمنة السياسيين المتنفّذين وسياساتهم المدمِّرة!

لكن، هل يوجد تكنوقراط صافٍ.. بلا آراء سياسيّة، وبلا خلفيّات فكريّة، ولا تحيّزات أيديولوجيّة، ولا مصالح أنانيّة، أو حتَّى مدارس تكنوقراطيّة متعدِّدة ومتعارضة؟

وهل توجد، مثلاً، وصفة واحدة جاهزة لعمل التكنوقراط.. فما إنْ يتسلّم أحدهم مهامّه الوزاريّة حتَّى يشرع بتنفيذ هذه الوصفة وهو خالي الذهن تماماً (وخالي الشهوة، كما يُقال)؟

مِنْ ناحية أخرى، مَنْ سينتقي أسماء هؤلاء التكنوقراط ويزكِّيهم؟ أليسوا السياسيين، هم أنفسهم، الذين يطالب هؤلاء الحِراكيّون باستبعادهم؟

وبالنتيجة، هؤلاء التكنوقراط ألن يكونوا ممثِّلين للقوى السياسيّة المتنفِّذة نفسها؟ والحكومة التي تتشكّل منهم هل يُنتَظر منها شيئاً سوى أنْ تطبِّق السياسات نفسها، وتعقد التسويات نفسها؟

هذا بخصوص، ما هو معلن مِن الشعارات في لبنان. ومن الواضح أنَّه لا يصمد أمام أبسط محاكمة منطقيّة. الأمر الذي يدفع بالضرورة إلى البحث عن ما هو مضمر خلفه.

فما هو المضمر خلفه يا ترى؟

في الواقع، المضمر هنا يكاد يكون معلناً لأنَّ غطاءه خفيفٌ جدّاً. إنَّه إبعاد حزب الله عن المشارَكة في الحكومة، ثمَّ إلغاء ما سُمِّي سابقاً في بيانات الحكومات المتعاقبة «معادلة الشعب والجيش والمقاومة». وهذا، كلّه، بالأساس، مطلب إسرائيليّ أميركيّ قديم وجديد.

استبعاد حزب الله يعني إقصاء قسم كبير من الشعب اللبنانيّ، بمختلف طوائفه؛ فهل يستطيع أحدٌ أنْ يُقصي أحداً في لبنان الذي يقوم نظامه على أساس معادَلة التعدّد (والتوافق) الطائفيّ والمذهبيّ؟

حزب الله لا يعلن (ولا يُضمِر) – كما هو واضح – أيَّ مسعىً إلى إقصاء أيّ طرف سياسيّ (طائفيّ أو مذهبي) آخر. وعندما يصرّ خصومه على استبعاده، استجابةً لرغبة أميركا وإسرائيل، فإنَّهم يخاطرون بفرط معادَلة التوافق الطائفيّ المذهبيّ وجرّ البلاد كلّها إلى المجهول الذي قد يصل إلى حدّ العودة إلى الحرب الأهليّة. ولو وصل الأمر إلى هذا الحدّ – لا سمح الله – فإنَّ الجميع سيخسر، وليس حزب الله وحده.

سيكون الحِراك مفهوماً وموضعَ تعاطفٍ كبير، لو ركَّز جميعه (وليس بعضه فقط) على مطلب مكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين، والانتقال إلى صيغة علمانيّة أكثر ديمقراطيّة للنظام، وتثبيت استقلال البلاد وسيادتها، والدفع باتِّجاه تنمية وطنية متمحورة على حاجات البلاد وحاجات الأغلبيّة الشعبيّة.

وننتقل الآن إلى المعلن والمضمر في شعارات الحِراك الأردنيّ. يعلن الحِراك في الأردن أيضاً مطلب تشكيل حكومة يسمِّيها البعض «حكومة وطنيّة»، ويسمِّيها البعض الآخر «حكومة إنقاذ».. الخ.

لكن، مَنْ سيشكِّل هذه الحكومة؟ وما هي المعايير التي ستُطبَّق عليها ليتمّ وصفها بأنَّها «وطنيّة» أو «إنقاذيّة»؟ ومَنْ هو الذي سيطبِّق هذه المعايير؟ وفي النهاية، ما الذي يضمن أنْ تكون هذه الحكومة مختلفة عن ما يُسمَّى «الحكومات المتعاقبة» التي اُستُخدِمَتْ طوال المئة سنة الماضية كغطاء لكلّ السياسات المرفوضة التي أدَّت إلى إيصال البلاد إلى ما وصلتْ إليه مِنْ أحوال متردّية؟

مواصفات الحكومة المطلوبة ستكون موضعَ خلافٍ.. ليس بين المعارضة وبين النظام حسب؛ بل أيضاً في صفوف المعارَضة نفسها؟
وثمَّة شعار آخر يعلنه الحِراك الأردنيّ لا يقلّ هشاشة وغموضاً عن شعار «الحكومة الوطنيّة» أو «الإنقاذيّة»، وهو شعار «تغيير النهج» (!) البعض يسمّيه «نهج التبعيّة»، والبعض الآخر يسمّيه «نهج الفساد»، وسواهم يسمّيه «نهج الاستبداد»، وثمَّة مَنْ يدمج هذه العناوين كلّها في إطار واحد لتكون مسمَّى لهذا «النهج».

في كلّ الأحوال، «النهج» بكلّ مظاهره مجرّد عَرَض ونتيجة (وليس جوهراً)؛ الجوهر هو البنية الاجتماعيّة الاقتصاديّة الجائرة التي أفرزته. ونعني بهذا بنية الفساد والاستبداد والتبعيّة والحكم الفرديّ المطلق.

شعار «تغيير النهج» الغامض لا يوصل إلى مثل هذه الرؤية الواضحة؛ بل هو – على النقيض مِنْ ذلك – يوهِم بإمكانيّة إحداث التغيير المنشود مع استمرار الطبيعة الحاليّة لنظام الحكم كما هي.. ما دامت المسألة كلّها مجرّد «نهج».

لا يمتلك البعض ما يلزم من الشجاعة لتسمية الأمور بمسمّياتها الحقيقيّة، ويتوهّم البعض الآخر فعلاً أمكانيّة الوصول إلى التغيير مِنْ دون تغيير طبيعة النظام.

وفي الحالين، النتيجة واحدة.

ما لم يتمّ التأشير بوضوح على التبعيّة والأوتوقراطيّة (الحكم الفرديّ المطلق) والوظيفيّة كسمات أساسيّة للنظام قادت إلى التسلّط وغياب المؤسَّسات والقانون والدستور وإلى منع التنمية الوطنيّة وإلى رهن استقلال البلاد وقرارها ومصالحها للمصالح الإمبرياليّة والصهيونيّة وإلى القهر الطبقيّ والخلل الفادح في توزيع الدخل والثروة – ما لم يتمّ إدراك ذلك والتأشير عليه بوضوح، فسنظلّ نراوح مكاننا.. هذا إذا لم نتراجع خطواتٍ واسعةً إلى الوراء.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال