سعود قبيلات ▣
نظَّمت
رابطة الكتّاب الأردنيين –
فرع جرش، حفلَ تكريمٍ لائقٍ لصديقنا ورفيقنا المؤرِّخ الأردنيّ الدكتور عصام
السعدي. وتخلَّل الحفل تسليمُ درعٍ للدكتور عصام، ثمّ ندوة له عن الشخصيّة
الوطنيّة الأردنيّة المعروفة علي خلقي الشرايري.
وقد
تكرّم الزملاء في الفرع، وخصوصاً رئيس الفرع الأستاذ علي النوباني، بدعوتي إلى تقديم
الدرع للدكتور عصام نيابةً عنهم. وهذا تكريم لي، أنا أيضاً، أعتزّ به وأشعر
بالامتنان لهم بسببه.
الدكتور
عصام السعدي اشتقّ طريقاً جديداً في كتابة التاريخ الأردنيّ؛ فهو أوّلاً، كتب عن
تاريخ الشعب الأردنيّ وتاريخ الحركة الوطنيّة الأردنيّة وليس عن تاريخ النظام أو الحكّام؛
وهو، ثانياً، كتب الوقائع التاريخيّة كما هي بشجاعة وجرأة وصدقيّة عالية ولم يحابي
النظام أو يجامله أو يخضع لسطوته.
رسم
الدكتور عصام، في كتاباته التاريخيّة، بدقّة ووضوح، مأساة الشعب الأردنيّ في ظلّ
نظامٍ استقدمه الانتداب البريطانيّ من الخارج وفرضه على البلاد ليقوم بدورٍ وظيفيّ
يخدم شروط تنفيذ وعد بلفور في فلسطين وخطط الإمبرياليّة في المنطقة.
ولقد
همَّش هذا النظامُ الشعبَ الأردنيَّ، وتصرّف بالبلاد على هواه ووفق شروط تعاقده مع
الاستعمار البريطانيّ (ثمّ مع الإمبرياليّة الأميركيّة)، وقمع بقسوة كلَّ محاولة قام
بها الأردنيّون للاعتراض على ذلك، وصمّ أذانه عن مطالباتهم بحقِّهم في تقرير مصيرهم
وتولِّي أمور بلادهم ونفسهم بنفسهم وإقامة دولة وطنيّة ديمقراطيّة حديثة ومستقلّة
على أرض وطنهم.
وأهمّيّة
العمل التأريخيّ، الذي اضطلع به الدكتور عصام السعديّ، تكمن في أنَّه أعاد تظهير قصّة
الشعب الأردنيّ طوال المئة سنة الماضية تلك كما هي فعلاً.
وقد
سار على هذا الطريق نفسه الدكتور عبد الله العسّاف، الذي قدّم العديد من الأعمال االتأريخيّة
القيّمة. وفي مقدّمتها كتابه المهمّ «ثورة
البلقاء ومشروع الدولة الماجديّة».
لهذا
كلّه، فإنَّ إنجاز الدكتور عصام، وإنجاز الدكتور عبد الله، في مجال التأريخ، لهما
أهمّيّة وطنيّة كبيرة ستدرك قيمتهما وتقدّرهما الأجيال القادمة كثيراً.
يجدر
بنا، هنا، أنْ نشير أيضاً إلى المساهمة التأسيسيّة المهمّة في مجال التأريخ للأردنّ
والشعب الأردنيّ، التي اضطلع بها الدكتور عدنان البخيت. ثم سارت على الطريق نفسه
تلميذة الدكتور البخيت النجيبة الدكتورة هند أبو الشعر.
حتَّى
إنْ كان ذلك بطريقة غير مباشرة، الدكتوران البخيت وأبو الشعر قالا بالوثائق
وبالمنهج العلميّ الصارم، بأنَّه يوجد للشعب الأردنيّ وللبلاد الأردنيّة تاريخ
حقيقيّ وحيويّ ومهمّ ممتدٌّ طويلاً في أعماق الزمان قبل مجيء النظام الحاليّ.
الأمر الذي مثَّل ضربة في الصميم لعمليّة طمس التاريخ الأردنيّ واختزاله بتاريخ
النظام.
وفي
محاضرة الدكتور عصام عن علي خلقي الشرايري، لفت نظري أنَّ عزيز عليّ المصريّ كان
ضابطاً في فرقة مِنْ فِرَق الجيش العثمانيّ كان يقودها الشرايري، وأنَّ صداقةً حميمةً
كانت تربط بينهما، وأنَّهما كانا ينسِّقان جهودهما لخدمة القضيّة القوميّة معاً.
وتذكَّرتُ
انَّني طالما سمعتُ (وشاهدتُ) الإعلام المصريّ (خصوصاً في العهد الناصريّ) يتحدَّث
عن عزيز المصريّ ويعرض سيرته بشكلٍ لائق ويقدِّره ويبجّله، كبطل مِنْ أبطال مصر
والأمّة العربيّة.
وهذا
في حين أنَّ علي خلقي الشرايري، الذي قام بأدوارٍ أكبر بكثير في الجيش العثمانيّ
وعلى الصعيد العربيّ وكان معادياً للصهيونيّة وللاستعمارين الفرنسي والإنجليزيّ،
بالكاد يَعرف شيئاً عنه عددٌ قليل من المهتمّين والمتخصِّصين.
وفي
الحقيقة، فإنَّني خلال السنوات الماضية كثيراً ما كنتُ أفكِّر في هذا الأمر المحزن
كملمح أساسيّ مِنْ ملامح مأساة الشعب الأردنيّ.
ويشير
الدكتور عصام السعديّ، في المقدّمة التي وضعها لكتاب الدكتور عبد الله العسّاف «ثورة
البلقاء ومشروع الدولة الماجديّة»،
إلى أنَّ النظام تعامل مع البلاد منذ مجيئه إليها كأرضٍ بلا شعب.
وأتذكَّر،
هنا، ما جاء في خطابٍ للملك الراحل في أواسط تسعينيّات القرن الماضي؛ إذ قال: ما
الأردن؟ الأردن نحن صنعناه.
وجاء
ذلك كردّ غير مباشر على مقالٍ شهير لناهض حتّر نُشِرَ آنذاك بعنوان: مَنْ هو
الأردنيّ؟
في مصر أو سوريا أو العراق، يُبرِزون
الكثيرَ من الشخصيّات الوطنيّة، ويُدرِجون موضوعاتٍ مفصَّلة عنها في المناهج الدراسيّة،
ويعبِّرون عن اعتزازهم بها وتقديرهم العالي لتاريخها وإنجازاتها. أمّا في بلادنا،
فيجري العكس؛ حيث يُطمس التاريخ الحقيقيّ للبلاد بشكلٍ ممنهج، وتُغيَّب أسماء
الشخصيّات الوطنيّة، ويُغيَّب دور الشعب الأردنيّ الذي أدَّاه عبر التاريخ.
أين هي، مثلاً، محاولات إبراز
أسماء مثل: علي نيازي التلّ الذي كان يحكم ديار بكر أيّام الدولة العثمانيّة؟
وحتَّى الشخصيّات التي خدمت النظام
كثيراً، لا توجد أيّ مساعٍ رسميّة لتسليط الضوء عليها. فوصفي التلّ يتمّ إحياء
ذكراه بمبادرات شعبيّة فقط، وكذلك هزّاع المجالي. بل لقد بلغني –
في ما يخصّ المجالي –
أنَّه عندما بادر ذات مرّة صحفيّ أردنيّ لإبراز ذكرى استشهاده في صحيفة محليّة شبه
رسميّة تعرّض للّوم والتأنيب وطُلِبَ منه عدم تكرار ذلك!
مشهور عن ستالين أنَّه، عندما
هاجمت القوّات النازيّة أراضي الاتّحاد السوفييتيّ بغتة، خطب مستنهضاً الشعوب السوفييتيّة،
فقال: يا شعب بوشكين وتولستوي وغوغول وتشيخوف.. وما إلى ذلك. ولم يقل يا شعب هذا
الحاكم أو ذاك.
لا نريد لحاكم أنْ ينتخي بأسماء أدبائنا؛
ولكن، على الأقلّ، أين هو الشارع المسمّى باسم عرار شاعر الأردنّ الرائد والكبير؟
أين هو الشارع المسمّى باسم غالب
هلسا المعروف كأديب ومثقّف كبير في مختلف أنحاء العالم العربيّ؟
أين هو الشارع المسمّى باسم عبد
الرحيم عمر؟
أين هو الشارع المسمّى باسم تيسير
سبول؟
أين هو الشارع المسمَّى باسم محمّد
طمّليه وحبيب الزيوديّ؟
أين هو الشارع المسمّى باسم روكس
العزيزيّ أو عيسى الناعوريّ؟
وسواهم...
هذه البلاد، التي طُمِسَ تاريخها
وقُزِّمَ دورها ليكون على مقاس الدور الوظيفيّ للنظام، قامت فيها دولة مهمّة قبل
عشرين قرن مِنْ ميلاد المسيح.. هي الدولة الأدوميّة التي كان لها أسطول بحريّ وآخر
برّيّ للتجارة، ودام وجودها طويلاً.
وفي هذه البلاد، قامت أيضاً دولة
الأنباط العظيمة التي طَبَّقت مبدأ الاعتماد على الذات بنجاح وكانت تُصدّر الغذاء
إلى محيطها، كما أنَّها كانت الوحيدة في المنطقة التي استعصتْ طويلاً على الرومان،
والوحيدة – آنذاك –
التي سمّاها الرومان «المنطقة العربيّة»،
وأقاموا مدن الديكابوليس العشر لصدّ خطرها.
وعلى هذه الأرض، قامت دولة
الغساسنة (إحدى الدولتين العربيتين الوحيدتين اللتين كانتا قائمتين في المنطقة
آنذاك).
وعلى هذه الأرض أيضاً، هُزِمَ
الروم في معركة اليرموك.
وانطلاقاً من التحكيم، الذي جرى
على هذا التراب (في أذرح)، قامت الدولة الأمويّة.
وتجدر الإشارة، هنا، إلى أنَّ الأمويين
اعتمدوا بصورة ملموسة على أبناء هذه الأرض لتثبيت حكمهم.. سواء أكان ذلك في المشرق
أم في الأندلس(1).
ومِنْ أرضنا، انطلقت الدعوة
العبّاسيّة إلى كلّ الأمصار، وعلى ترابها (في الحميمة) وُلِدَ ونشأ أولّ خليفتين
عبّاسيّين، هما أبو جعفر المنصور وأبو العبّاس السفّاح؛ حيث بلغ عمر السفّاح 37
عاماً وكان عمر المنصور أقلّ مِنْ ذلك بقليل حين تركاها وذهبا إلى العراق لإقامة
مركز حكمهما هناك.
وفي فترة من الفترات، نَقَلَ السلطان
قلاوون، مركزَ حكمه من القاهرة إلى الكرك.
وطوال التاريخ القديم، كان جند
الأردنّ أحد أجناد الشام الأساسيّة، سواء ذلك في المراحل التي كان فيها عدد هذه
الأجناد أربعة أم خمسة(2).
وعندما جثم الاستعمار العثمانيّ
على البلاد، تصدّى له الأردنيّون ببسالة، وكانت لهم معه وقعات عديدة مشرِّفة ومشهودة
قبل ما سُمِّي «الثورة العربيّة الكبرى».
وهذا كلّه غيضٌ مِنْ فيض..
ونحن، هنا، لا نريد أنْ نبالغ في
تقدير أهمّيّة بلادنا وأهمّيّة تاريخها ودور شعبها عبر العصور؛ كلّ ما نريده هو
إزاحة ركام الزيف والتزوير الذي وضعه النظام فوق هذا التاريخ الناصع وهذا الدور
المشرّف. وعندما يتحقَّق ذلك، فسيظهر –
لكلّ منصف – أنَّ
تاريخ بلادنا ودورها ليسا بالمستوى المنخفض الذي أنتجه لها هذا النظام الوظيفيّ التبعيّ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1يمكن
تلمّس ذلك في كتاب «الإمامة
والسياسة» لابن قتيبة الدينوريّ؛
حيث لا يندر أنْ نصادف بين قادة الجند في الحملة التي جرّدها الأمويّون على مكّة
ضدّ عبد الله بن الزبير، أسماء قادة ينتسبون إلى مدن أردنيّة.. العجلونيّ، العقباويّ..
الخ؛ وفي كتاب الدكتور صلاح جرّار «مدينة
مالقة: أردنّ الأندلس.. صفحة مجهولة مِنْ تاريخ الأردنّ»
شرح أوفى وأوضح لهذا الأمر.
2كان
عدد أجناد الشام، أحياناً أربعة، هي: جند حمص، وجند دمشق، وجند فلسطين، وجند
الأردن؛ وأحياناً خمسة؛ عندما يُضاف إليها جند قنسرين.