جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣



كنتُ، اليوم، أنبشُ في محفوظاتي كالعادة. فوجدتُ هذا الفيديو، وأدهشني ما جاء على لساني فيه.

هذا الفيديو مسجَّل في ليلة رأس السنة في العام 2010 (31 كانون الأوّل/ديسمبر 2010)، وفيه آخر مشاركة لي مع فضائيّة الجزيرة، وكان موضوع الحوار هو الانتفاضة التي كانت قد انطلقت للتوّ في «سيدي بو زيد» وما لبثت أنْ أفضت لاحقاً إلى سقوط حكم الرئيس بن عليّ. وكان بن علي، في تلك اللحظة، لا يزال ممسكناً بدفّة السلطة هناك، وأيضاً لم تكن ملامح الانتفاضة الجماهيريّة الظافرة في مصر قد لاحت.

في الفيديو، يسألني الأستاذ ياسر أبو هلاله (مدير مكتب «الجزيرة» في عمَّان، آنذاك): هل تتوقّع أنْ نشهد في العالم العربيّ إصلاحاً سياسيّاً وديمقراطيّة ونزاهة تولد مِنْ هذه المآسي؟

وكانت إجابتي بأنَّني أخشى أنَّ هناك احتمالاً آخر.. احتمالاً سيِّئاً. احتمال أنْ نتَّجه نحو الفوضى ونحو التمزّق.. نتيجة انسداد آفاق التغيير.. نتيجة عدم عقلنة السلطات، وعدم التوصّل إلى حلول سليمة وعلميّة للمشاكل المزمنة، وغياب المعارضات.. غياب الأحزاب السياسيّة القويّة والمؤثِّرة التي ممكن أنْ تطرح برامجاً وتطرح مشاريعاً للتغيير. وتحت قبضة القمع أصبحت الصورة بهذا الوضع المأساويّ. والخشية أنْ تأتي الانفجارات على شكل فوضى وتطيح بكلّ شيء وتؤدِّي إلى تَمزّق المجتمعات وتَمزّق الدول. لذلك مطلوب الانتباه لهذا الأمر.. مطلوب أنْ تُفتح أبواب الحوار.. الحوار السياسيّ والحوار في كلّ المجالات، وأنْ ينتهي السكوت على كثير من القضايا المهمّة ويجري البحث فيها...

ويبدو أنَّ هذا الكلام لم يُعجب مضيفنا، فراح يلمِّح إلى سوداويّة المثقَّفين العرب وأنَّهم يقودون الناس إلى اليأس والإحباط ولا يتركون أمامهم فرصةً للتغيير الإيجابيّ وللتحرّك.

كنتُ خالي الذهن، فاستغربتُ النزعة «الثوريّة» الطارئة التي لم أعهدها لدى البعض. وفي إجابةٍ لي على سؤالٍ لاحقٍ للأستاذ أبو هلالة، أوضحتُ قائلاً: أنا لستُ متشائماً.. أنا متفائل فقط بالمعنى التاريخيّ.. بالمنظور التاريخيّ.. بالمنظور التاريخيّ هناك عمليّة تجري، وفي النهاية ستجد الناس طريقها إلى الصواب وستحاول أنْ تحلّ مشاكلها بطريقة أفضل. ولكن في المدى المنظور، هناك مخاطر، وأنا عندما تحدَّثت، تحدّثتُ عن المدى المنظور. وهذه المخاطر قد تؤدّي إلى معاناة شديدة للناس، وقد تؤدِّي إلى مشاكل كبيرة. وهذا ما يجب أنْ ننتبه إليه ونحذر منه. غياب الحركات السياسيّة الأساسيّة والفاعلة نتيجة ميراث طويل من القمع، هو الذي من الممكن أنْ يؤدِّي الآن في ظلّ هذا الخنق المتزايد إلى الفوضى ويؤدِّي إلى انفجارات لا تعرف ما هو هدفها. لأنَّ الردّ على القمع والاستبداد والاستغلال والأوضاع السيِّئة هذه يُفتَرَض أنْ يأتي بمشروع.. مشروع للنهوض.. مشروع للتغيير...

على أيّة حال، الحوار طويل وفيه الكثير من الكلام اللافت. ومع الأسف، فإنَّ كلّ ما تكلّمت عنه وحذّرتُ منه حدث. فقد كان واضحاً، بالنسبة لي، أنَّ هذه هي النتيجة المتوقّعة في ظلّ غياب مشروع التغيير الذي يجيب بدقّة عن أسئلة المرحلة التاريخيّة التي نعيشها، ويستجيب لطموحات الأغلبيّة الشعبيّة المقهورة والمسحوقة، ويطرح حلولاً واضحة لمشكلة التبعيّة التي لا يمكن حلّها إلّا ببرنامج واضح ومدروس وجذري للتحرّر الوطنيّ.

ورغم ذلك، وقفتُ بقوّة مع الشعب التونسيّ الشقيق في انتفاضته، ثمّ مع انتفاضة الشعب المصريّ الشقيق التي تبعت ذلك، وكذلك مع حقّ الشعوب العربيّة في الحريّة والديمقراطيّة والتحرّر الوطنيّ والتنمية المستقلّة.

في كلامي للجزيرة، عشيّة رأس السنة ذاك، كنتُ أنطلق مِنْ خشيتي من السيناريوهات البديلة التي تدبِّرها الدوائر الإمبرياليّة لتفريغ الانتفاضات العربيّة مِنْ مضامينها الثوريّة وتحويلها إلى «ربيع عربيّ» مِنْ أجل الحيلولة دون تمكين الشعوب العربيّة مِنْ بلوغ التغيير الوطنيّ الديمقراطيّ الذي يقطع مع حالة التبعيّة ومع حالة القهر والاستغلال والتسلّط والتخلّف.

ومع الأسف، فسريعاً ظهرت السيناريوهات البديلة المعادية.. سيناريوهات الثورة المضادّة التي جلّ غايتها تغيير أسماء الحكّام وأشكالهم، مع الإبقاء على حالة التبعية والتفاوت الطبقيّ والقهر الاجتماعيّ كما هي.. لكن مع إعطائها مسميات جديدة وخطاب سياسيّ وأيديولوجيّ مختلف ظاهريّاً، لكنّه يعبِّر عن المضامين نفسها في الجوهر.

التبعية ليست مرهونة بأشخاصٍ بعينهم أو بالمسمّيات والمفاهيم الزائفة التي يستخدمونها (وبالمناسبة، فهي أيضاً ليست نهجاً.. كما هو شائع في الخطاب السياسيّ الأردنيّ المعارِض الآن).. التبعية بُنية اقتصاديّة اجتماعيّة سياسيّة مترابطة، و«النهج» مجرّد عَرَضٌ لها وليس جوهراً. وهي لا تنتهي إلا ببرنامج وطنيّ ديمقراطيّ بديل، وبقوى سياسيّة واجتماعيّة نقيضة.. قوى ثوريّة حقيقيّة. ولذلك، فإنَّ التركيز على «النهج» يعني أنَّ المسألة رهينة بتغيير أسماء الأشخاص المسؤولين عن هذا النهج فقط، أو حتَّى بأنْ يغيِّر هؤلاء الأشخاص نهجهم بأنفسهم. أمّا البنية الاقتصاديّة الاجتماعيّة للتبعيّة، فهي مغفلة في هذه الحالة.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال