جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات 
الصوت الجميل الذي تلاشى وسط ضجيج البورصة

«الآن 
في الساعة الثالثة من القرن العشرين 
حيث لا شيء 
يفصل جثثَ الموتى عن أحذيةِ الماره 
سوى الاسفلت 
سأتكئ في عرضِ الشارع كشيوخ البدو 
ولن أنهض 
حتى تُجمع كلّ قضبان السجون وإضبارات المشبوهين 
في العالم 
وتُوضع أمامي 
لألوكها كالجمل على قارعة الطريق.. 
حتى تفرَّ كلُّ هراواتِ الشرطة والمتظاهرين 
من قبضات أصحابها 
وتعود أغصاناً مزهرة (مرةً أخرى) 
في غاباتها» 

«أنا لا أحمل هويّةً في جيبي
ولا موعداً في ذاكرتي
أنا لم أجلسْ في مقهى
ولم أتسكَّعْ على رصيف
أنا طفل
ها أنا أمدُّ جسدي بصعوبة
لأدفن أسناني اللبنيّة في شقوق الجدران»

تهجَّتْ ابنتي  وكانت لا تزال طفلةً صغيرةً  بضعةَ أبياتٍ مِنْ قصيدةٍ لمحمَّد الماغوط؛ ثمَّ نظرتْ إليَّ مندهشةً، وقالت: بابا.. هذا شاعر مجنون!

لكنَّها ظلَّت لسنوات، بعد ذلك، تطلب منِّي، كلَّ ليلة، أنْ أقرأ لها شيئاً مِنْ شعر الماغوط، قبل أنْ تنام.

وبتقديري، هكذا هو الشعر الحقيقيّ.. الشعر الجيِّد؛ يتذوَّقه الناس بعمق، ويدركون أبعاده ومراميه، بغضّ النظر عن مستوياتهم الثقافيَّة والعمريَّة؛ وأحياناً، حتّى مِنْ دون أنْ يفهموا معانيه. فالكلمة الحارَّة، الكلمة الصادقة، الكلمة المنبثقة مِنْ خبرة حياتيَّة غنيَّة وعميقة، تصل مباشرة إلى قلوب الناس؛ فيشعرون بها، ويتفاعلون معها، وينفعلون؛ كلٌّ بطريقته، وبما يتَّفق مع خبرته الحياتيَّة، ومع تكوينه الوجدانيّ والشعوريّ (واللاشعوريّ).

لا يحتاج الناس إلى مَنْ يشرح لهم الشعر الحقيقيّ، أو مَنْ يقرِّبه منهم؛ فـ«الشعر» الذي يحتاج إلى مثل هذه «العوامل المساعدة» إنَّما هو نصٌّ كسيح. وفي كلّ الأحوال، فإنَّه لا يمكن أنْ يكون شعراً؛ قد يكون شيئاً أشبه بلعبة الكلمات المتقاطعة، أو ببعض المعادلات الرياضيَّة ذات التعقيد المجانيّ الذي لا معنى له، أو مجرَّد استعراض عبثيّ لمهارة لغويَّة فارغة.. الخ؛ لكنَّه لا يمكن أنْ يكون شعراً.

ولقد تميَّز محمَّد الماغوط بصدقه، وبشجاعته في التعبير عن أفكاره ومشاعره بأسلوب غير مألوف.. بل صادم (لكنّه جميل)، وبكون حياته نفسها هي قصيدته الأساسيَّة، ولذلك فقد استحقَّ لقب الشاعر رغم تنكُّره للخليل بن أحمد (وحتَّى أيضاً لمَنْ ثاروا على الخليل بن أحمد)؛ فالشعر ليس فقط تعبيراً صادقاً عن المشاعر، بل هو أيضاً نمط حياة يحياه الشاعر (الشاعر الحقيقيّ)، وطريقة خاصَّة للنظر إلى ما حوله والتعامل معه.

«محال.. محال
أنْ أتخيَّل نفسي
إلا نهراً في صحراء
أو سفينة في بحر
أو.. قرداً في غابة
يقطف الثمار الفجَّة
ويلقي بها على رؤوس المارَّة
وهو يقفز ضاحكاً مصفِّقاً
مِنْ غصنْ إلى غصن».

ويقول أيضاً:

«سأموت وأنا أتثاءب
وأنا أشتم
وأنا أهرج
وأنا أبكي...».

وهو يدرك جيّداً أنَّ صوتَه صوتٌ أصيلٌ متفرِّدٌ؛ لذلك، فهو لا يتهيَّب من الاعتداد بذاته الإبداعيّة، ويتمسّك جدّاً بفرادة هويّته الفنيّة:

«إنها أغنيتي وليست أغنية اليوت
وأعراسي وليست أعراس لوركا
وحقولي وليست حقول غوغان
ومتاهتي وليست متاهة كافكا
وكبريائي وليست كبرياء بايرون أو المتنبي
إنهم يسلبونني كل شيء في وضح النهار
وأنا أكره الخريف المزاود
سأكتب كتابي عليك بالمطر
وأعقد قراني كربطة العنق أو هدية بابا نويل
إنها أساطيري ونبوءاتي
سلاسلي وآفاقي
وأنا حرّ بها.»

ولذلك، فبينما كان النقَّاد، والمهتمّون، والشعراء الآخرون، يغرقون في نقاشٍ عقيم حول مدى شرعيَّة قصيدة «النثر»، كان الماغوط يصنع هذه القصيدة في أبهى نماذجها وأكملها. كان يصنعها بدمه وبأعصابه وبجميع حواسّه. وكانت قصيدته تصل إلى الناس مِنْ دون جوازٍ للمرور ومِنْ دون «شرعيَّة» مِنْ أيِّ نوعٍ كان؛ بل كانت تهدم الحواجز، وتمزِّق الوثائق الرسميَّة، وتسخر مِنْ نزوع البشر إلى تثبيت لحظاتهم الفنيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة بقيودٍ وهميَّة بليدة مِنْ خارجها يظنّونها تمنحها «الشرعيَّة».

ومع ذلك، فهو  مثله مثل كلّ فنَّان حقيقيّ  لم يكن يشعر بالرضا عن مستوى انجازه الفنيّ:

«ولكنَّني حزين لأنَّ قصائدي غدت متشابهة،
وذات لحنٍ جريحٍ لا يتبدَّل
أريد أنْ أرفرف، أنْ أتسامى
كأمير أشقر الحاجبين
يطأ الحقول والبشريَّة».

ولقد ذاق الماغوط، في سبيل مبادئه، وفي سبيل فنّه، كلَّ أنواع المرارات؛ ابتداءً بالتشرّد ومروراً بالجوع ثمَّ الملاحقة والمنفى والسجن.. الخ، إلا أنَّ نظرته إلى المعاناة كانت تختلف، مع ذلك، عن النظرة المازوشيَّة السائدة التي ترى أنَّ المعاناة هي أساس الإبداع، وأنَّها هي الحافز المؤدِّي إليه؛ يقول:

«فأعطوني كفايتي من النبيذ والفوضى
وحريَّة التلصّص مِنْ شقوق الأبواب
وبُنيَّة جميلة
تقدِّم لي الورد والقهوة عند الصباح
لأركض كالبنفسجة الصغيرة بين السطور
لأطلق نداءات العبيد مِنْ حناجر الفولاذ».

ويقول أيضاً:

«وطني.. أيُّها الجرس المعلَّق في فمي
أيُّها البدويّ المشْعث الشَّعر
هذا الفم الذي يصنع الشِّعر واللذَّة
يجب أنْ يأكل يا وطني
هذه الأصابع النحيلة البيضاء
يجب أنْ ترتعش
أنْ تنسج حبالاً من الخبز والمطر».

وقد تمرَّد الماغوط على جميع المؤسَّسات الاجتماعيَّة والسياسيَّة والفنيَّة، بما فيها مؤسَّسة «شِعر» التي خطا مِنْ خلالها خطوته الأولى إلى القرّاء. وكان دائماً كتلةً مِنْ لهب تسير على قدمين باحثةً عن طريقٍ ما، لا لتواصل سيرها فيه، ولا لتدعو الآخرين إلى إتِّباع خطواتها، بل لكي يوصلها الطريقُ إلى طريقٍ آخر ثمَّ آخر. فالمشي هو الغاية، والطريق وسيلة قابلة للاستعمال لمرَّة واحدة.

وكلّ ذلك في فضاءٍ مضمَّخٍ بمحبَّة الوطن والإنسان (الإنسان في بلاده وفي كلّ مكان)، وبتمجيد الكرامة الإنسانيَّة، والإعلاء مِنْ قيمة الإنسان.. حتَّى وهو يسخر منه ويسخط ويغضب؛ ذلك أنَّه لا يسخر من الإنسان بما هو إنسان؛ بل من استخذائه وقبوله بالذلّ والمهانة والخضوع. يسخر من الكذب والظلم والطمع، ويرفض الخيانة، بكلّ أنواعها، وخصوصاً خيانة الوطن وفقرائه ومظلوميه، والجبن بكل أنواعه، وخصوصاً الجبن عن قول كلمة الحقّ.

ولذلك، فقد كانت لغة الماغوط دائماً لاذعةً وحرّيفة، وخياله ينطلق بلا قيود. والحريَّة عنده ليست فقط قيمة يتغنَّى بها، بل هي تظهر، أيضاً، بوضوح في جرأة نقده السياسيّ والاجتماعيّ وفي تجاوز فنّه لكلّ القيود. إنَّه إنسان حرٌّ حقيقيّ، يمارس الحريَّة بكلّ اتِّجاهاتها وآفاقها وأشكالها، ويمضي بها حتَّى مداها الأقصى الممكن. أي إلى المدى الأخير الذي لا يفقد معه إنسانيَّته ونزوعه القويّ إلى الخير والحقّ والعدل والمحبَّة.

ومِنْ ناحية أخرى، فقد كانت كلماتُه بسيطةً، وواضحةً؛ لا تحتمل أيَّ لبسٍ، ولكنَّها في الوقت نفسه عميقة، وصادقة، وتفيض بالأحاسيس. كما كان يمتلك قدرةً عجيبةً على ابتكار الصور، ونَسْجِ علاقات غريبة مدهشة، في شعره، بين أشياء مختلفة، وبين الأشياء وبين المعاني والأفكار، وبين هذه كلّها وبين الإنسان.

وإنَّ جموح خياله لَيعبِّرُ بعمق عن تعلّقه الشديد بالحريَّة، وإخلاصه لها، وصدقه في ممارستها، إلى حدّ أنَّه تمكَّن من تحطيم القيود التي تكبِّله من الداخل، أو ربَّما أنَّه من الأساس لم يسمح لها بأنْ تكبِّله؛ وهو ما أتاح له أنْ يطلق مشاعره على مداها، ويعبِّر عنها بأقصى طاقته وبأصدق الكلمات وأقواها.

لذلك (أي لشعوره العميق بالحريَّة وممارسته لها)، فقد كانت تجربة السجن بالنسبة له، رغم قصرها النسبيّ (تسعة شهور)، بالغة القسوة عليه، ولم يستطع أنْ يتجاوزها حتَّى أواخر سنيّ حياته؛ فقبل سنوات قليلة مِنْ وفاته، قرأت مقابلة معه منشورةً في إحدى المجلَّات العربيَّة.. قال فيها شيئاً عن السجن أدهشني وتوقَّفتُ عنده طويلاً. قال: «إنَّني أحمل السجن على ظهري مثل ماكيت مجسَّم».

كان ذلك بعد سنين طويلة مِنْ مروره بتلك التجربة الصعبة، ولم يَبدُ لي في قوله هذا أيّ نوعٍ من التبجح (أو التفاخر)؛ بل تعبير عميق عن الشعورٍ بالمرارة والألم اللذين رسخا في نفسه نتيجة لما وقع عليها مِنْ ظلمٍ فظيع، باحتجازها على نحوٍ يتناقض تماماً مع طبيعتها الجامحة والمنطلقة.

ولذلك فهو يقول في تعبيره عن إشكاليَّة علاقة المثقَّف والمبدع بالحريَّة في عالمنا العربي الذي لا يزال يعيش خارج العصر:

«حلمت ذات ليلة بالربيع
وعندما استيقظت
كانت الزهور تغطِّي وسادتي
وحلمت مرَّة بالبحر
وفي الصباح
كان فراشي مليئاً بالأصداف وزعانف السمك
ولكن عندما حلمت بالحريَّة
كانت الحراب
تطوِّق عنقي كهالة الصباح».

إنَّه واحدٌ مِنْ آخِرِ الصعاليك الكبار الحقيقيّين، وأَحَدُ آخِرِ الشعراء الكبار الصادقين. وقد ظُلِمَ كثيراً كشاعر، مثلما ظُلِمَ كإنسان (وإنْ كان محبّوه كُثُر، وتلامذته ومريدوه كُثُر)؛ فالإعلام العربيّ، وهو إعلام رسميّ في معظم منابره (العامَّة والخاصَّة)، لم يولِهِ الاهتمامَ الكافي الذي يستحقّه.

وربَّما كان السبب هو أنَّ المؤسَّسة الرسميَّة (وغير الرسميَّة أيضاً)، بطبيعتها، لا تحبّ الصعاليك، والخارجين على «القوانين» و«الأنظمة» و«الشرائع» و«الشرعيَّات». أو هي بصورة أدقّ، لا تطمئنّ إلى أمثال هؤلاء، وتخشى ردود أفعالهم وانفعالاتهم وتفاعلاتهم.

وربَّما كان سبب ذلك أيضاً أنَّ الصعاليك أمثال الماغوط لا يُلقون بالاً إلى «الدعاية» و«الإعلام» أو «الإعلان»؛ فكيف يفعلون وهم مشغولون طوال الوقت بالتسكّع في الشوارع الفقيرة والجلوس على الأرصفة المهملة مع العمَّال والعاطلين عن العمل؛ في حين أنَّه لا أحد مِنْ أصحاب «الإعلام» أو «الإعلان» يذهب إلى هناك، وحتَّى إذا ذهب، فلن يُلفت نظره رجلٌ غريب يسير في الشارع ذاهلاً عن خطواته وعن نفسه.

وربَّما كان السبب أيضاً وأيضاً أنَّ ساحة «الإعلام» و«الإعلان» مكتظَّة بالإعلانات المدفوعة الأجر؛ بالعملة الصعبة أحياناً، أو بالمقايضة المبتذلة أحياناً، أو باستخدام وسائل وأساليب أخرى رخيصة في الكثير من الأحيان. فأين سيجد، إذاً، شاعرٌ صعلوك، موطئاً لقدمه، في هذا الميدان الموبوء، أو منبراً لقصيدته، أو موضعاً لصورته، أو فضاءً لصوته؟!

وهذا يجعله أسيراً للشعور الممضّ بالخذلان والغربة:

«مخذولٌ أنا لا أهل ولا حبيبه
أتسكعُ كالضباب المتلاشي
كمدينةٍ تحترقُ في الليل
والحنين يلسع منكبيّ الهزيلين
كالرياح الجميله، والغبار الأعمى
فالطريقُ طويله
والغابةُ تبتعدُ كالرمح».

وأضيفُ إلى ما سبق كلِّه سبباً آخر طارئاً (وعابراً أيضاً كما أزعم)، وهو أنَّ الزمان الآن زمانٌ آخر غير زمان الشعر والأحلام والمبادئ؛ إنَّه زمان البزنس واقتصاد السوق؛ حيث «شرعيَّة» البيع والشراء (لكلّ شيء) تعلو فوق كلّ الشرعيَّات والشرائع، وحيث «القيمة المضافة» تنتقص لحسابها مِنْ كلّ القيم التي تعارف عليها البشر الحالمون المهمَّشون المحرومون المقصيّون.. الخ. ويتعالى صياح وسطاء البورصة معلناً عن انتهاء زمن الثورات والأيديولوجيَّات (يقصدون المبادئ)، بل وانتهاء الزمان نفسه، وانتهاء الجمال، وانتهاء الفنّ، وعلوّ قيمة السلعة، ويبشِّرون بأنَّه على الإنسان أنْ يفرح لأنَّه هو نفسه أصبح سلعة؛ فإذا ما أراد أنْ يعرف قيمته، فما عليه إلا أنْ يعرض نفسه في السوق ويرجو أنْ يوافقه الحظّ لتعمل قوانين العرض والطلب لصالحه.

ولذلك، يتضاءل إحساس الشاعر بقيمته، فيبحث عن قيمةٍ ما خارجهُ.. مهما كانت:

«أنا شيخ
ها ظهري ينحني
والمارة يأخذون بيدي
أنا أمير
ها سيفي يتدلّى
وجوادي يصهلُ على التلال
أنا متسوِّل
ها أنا أشحذ أسناني على الأرصفة
وألحق المارّة مِنْ شارع إلى شارع
أنا بطل ... أين شعبي؟
أنا خائن ... أين مشنقتي؟
أنا حذاء ... أين طريقي؟»

في هذا الزمن، زمن الليبراليّة المتوحِّشة.. منحطّة الذوق وضحلة التفكير وفقيرة القيم والمبادئ؛ في هذا الزمن حيث يصبح المال هو القيمة العليا والأساسيّة التي تُقاس بها كلّ القيم الأخرى، ليس أمام شاعرٍ صعلوك  خصوصاً إذا كان صعلوكاً حقيقيّاً وليس مزيّفاً  سوى واحد فقط مِنْ خيارين؛ فإمَّا أنْ يستثمر في أدواته الفنّيّة ليتحوّل إلى أراجوز يفرِّج بـ«الخفَّة» (التي تصبح منتهى إبداعاته) عن هموم المتعاملين بالبورصة وأثريائها الجدد والسابقين؛ أو أنْ يتنحَّى جانباً ويفسح المجال لبعض الحانوتيّين لكي يحنِّطوا فنَّه ويودعوه أحد المتاحف المهمَلَة.

وهكذا ربَّما كان موت الماغوط في هذا الزمن، أمراً منسجماً مع طبيعة هذا الزمن نفسه. ولكن هل بمقدور أحد بعد ذلك أنْ يزعم بأنَّه قادر على تحويل فنّ محمَّد الماغوط إلى جثَّة محنَّطة؟!

لا أعتقد؛ وهذا رغم التشاؤم الذي أبداه الماغوط نفسه في السابق نحو مستقبل فنّه (ونحو مستقبله هو نفسه):

«يخيَّل لي أنَّني أتهاوى على الأرصفة
سأموت عند المنعطف ذات ليلة
وأصابعي تتلوَّى على الحجارة كديدان التفَّاح
دون أنْ ينظر إليَّ أحد.
إنَّني أرى نهايتي
ألمح خنجراً ما في الظلام مصوَّباً إلى قلبي
عربة مطفأة
تقلُّ طاولتي وأوراقي إلى عرض الصحراء.
ستهب ريح قويَّة آنذاك
تداعب أظافري القصيرة
وتكنس قصائدي في الشوارع كقشور الخضروات».

وهذا يذكِّرني بانطون تشيخوف الذي قال ذات مرّة إنَّه لا يتوقَّع أنْ يستمرّ الناس بقراءة قصصه لأكثر مِنْ سبع سنوات فقط بعد وفاته!

أخيراً، يصرخ الماغوط، بكلّ ما في نفسه مِنْ أَنَفَةٍ وكبرياء:

«حسناً أيُّها العصر
لقد هزمتني
ولكنَّني لا أجد في كلّ هذا الشرق
مكاناً مرتفعاً
أنصب عليه راية استسلامي».


ورغم راية «استسلامه»، هذه التي تبحث عن مكانٍ لتُنصَبَ عليه، أجزم أنَّ زمن محمَّد الماغوط لم ينتهِ؛ لأنَّه لم يبدأ أصلاً.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال