جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

ياسر قبيلات* ▣
تولستوي المتسول ودستويفسكي القاتل المحترف في حانة السياسيين
دستويفسكي وتولستوي
في حانة مكتظة بالسياسيين، إنزوى عدد من الأدباء في ركن منعزل، وراحوا يتهامسون. وبعد دقائق معدودة دخل فيودر ميخائيلوفيتش دستويفسكي. نظر في الأرجاء، ثم اختار مائدة تنتصب وسط موائد السياسيين. جلس إليها، ثم أخرج من حقيبته شطيرة منزلية، قضمها ببطء ريثما انتبه إليه النادل، وجاء ليقف جوار كتفه الأيسر. 

طلب منه فيودر ميخائيلوفيتش أن يحضر طبقاً فارغاً، وأن يعد له شرابه المعتاد. وعند عبارة «الشراب المعتاد» ارتبك النادل، فانتبه إليه فيودر ميخائيلوفيتش، وفطن إلى أنه يرتاد الحانة للمرة الأولى، فقال أنه سيتريث بطلب الشراب إلى حين، وراح يفكر بالسبب الذي جعله يظن أنه دخل حانته المعتادة. 

أتى فيودر ميخائيلوفيتس على شطيرته، ثم وضب على الطبق شرائح من اللحم المقدد والجبن المملح، التي أحضرها معه من البيت. ثم عاد يستعرض المكان من جديد، فرأى أنه في غير مكانه، ولكن تملكه شعور القارئ الذي يمسك بكتاب جديد، فطلب شراباً، وراح يصغي في ذاكرته إلى لحن قديم يتردد مع وقع خطوات وأصوات بشرية وضحكات عابثة في ليلة عيد أبيض مليء بندف الثلج. 

لاحظ فيودور ميخائيلوفيتش، بينما هو يحتسي شرابه بأناة، أن يوسف فيساريونوفيتش ستالين ينفث دخان غليونه ببطء، في لوحة على الجدار، بينما هو يلعب الورق مع بطرس الأكبر، والقيصر ايفان الرهيب يخدمهما بتواضع على المائدة. 

كان ثمة شيء ما غامض في يوسف فيساريونوفيتش، كما بدا في اللوحة؛ ليس لأنَّ اللوحة تشبه في أسلوبها ريشة فاسيلي بيروف صاحب أشهر بورتريه خلده هو.. فيودور ميخائيلوفيتش. 

لا، كان شيئاً في يوسف فيساريونوفيتش نفسه! 

لم يعرف فيودور ميخائيلوفيتش ما هو ذلك الشيء على وجه التحديد. ولكنه أدرك أن ألكسندر سولجنيتسين، الذي كان من الممكن أن ينوب عنه في زمن ستالين المتأخر، فشل في إدراك هذا الشيء بالذات. وأن سولجنيتسين الذي حاول أن يستدرك أمره في أواخر عمره، لم يصل هناك، إلى تلك النقطة التي تستجلي الغموض في اللوحة المليئة بالإيحاءات الروسية الغامضة. 

في الأثناء، راح نادل النضد يقلب بين القنوات التلفزيونية، فأدرك فيودور ميخائيلوفيتش أن عجلة الزمن دارت إلى وقت متقدم على نحو مذهل، وأن أوروبا لم تعد منتجعاً للطبقة الوسطى الروسية، وأضحت معسكراً للجيش الأميركي. 

وهنا، انتابه فضول تجاه المذكرات التي كتبتها ابنته ليوبوف فيودروفنا، المولودة في دريسدن الألمانية والمتوفاة في بولسانو الايطالية، على أمل أن يفهم لماذا يرى الأوروبيون في كل حكم روسي ديكتاتورية ما، ولماذا تختار معارضة روسية في القرن الحادي والعشرين أن تشتم المدعو فلاديمير بوتين بوصفه «قيصراً»، في حين أن قطيعتها مع التراث الفكري الروسي لا تترك لها مجالاً سوى أنْ «تترحم» على مجمل الحكم القيصري. 

كانت هذه دائرة من الأفكار المزعجة التي لم يكن يحب فيودور ميخائيلوفيتش أن يواجهها. ذلك شيء يعيده إلى الإنخراط العميق بالسياسة في وقت ارتاح فيه إلى تأمل الأعماق الإنسانية. الأعماق الإنسانية التي دفعته إلى وضع ما تيسر في يد المتسول الذي مرّ بمائدته للتو.. 

المتسول ضخم الجثة، صاحب اللحية المسترسلة كعبارة في درس اللغة تسعى لإعطاء أمثلة على كل الحالات النحوية. المتسول الذي يشبه فلاحاً روسياً معدماً لم ينل حظه من الحياة ولا العدالة، لدرجة أنه يشبه ليف تولستوي.. 

- يا للهول، ألم يكن هذا ليف نيكولايفيتش نفسه..!؟ 

هتف فيودور ميخائيلوفيتش، وكرر هتافه مرة بعد مرة. ولكن أحداً من السياسيين المحيطين به لم يعبأ بتساؤله، بينما لم يسمعه أحد من الأدباء المنزوين حول مائدة منعزلة.. 

لم يعرف فيودور ميخائيلوفيتش لليوم لِـمَ كان عليه أن يواصل التساؤل طوال الوقت حول هوية المتسول الذي مر بمائدته، رغم علمه اليقين بأنه كان فعلاً ليف نيكولايفتش تولستوي. 

ولكني أعرف تماماً لماذا مرّ بتجربة النكران هذه..! 

إنه ببساطة لو أقرّ بأن ذلك المتسول كان ليف نيكولايفيتش، لوجب عليه أن يقر أنه لم يكن، في الحانة، فيودور ميخائيلوفيتش دستويفسكي الكاتب، ولكن فيودور دستويفسكي القاتل المحترف، وهذا سيضطره للتفكير بمهمته التي قادته إلى تلك الحانة الطارئة، وأن يتساءل لِـمَ جاء إليها؟ 

أليقتل سياسياً أم أديباً، ومن على وجه التحديد!؟ 


* مجرد سوفيتي عتيق.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال