جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

ياسر قبيلات ▣
أناقة أخي جاك الذي لا تغفر له أميركا محاولته تغييرها
كان الكتاب الأميركيون، في النصف الأول من القرن الماضي، يحرصون على تعميد تجاربهم الأدبية بسيرة حياة أوروبية، وعلى الخصوص في باريس. ولسبب ما، لم يكن جاك لندن بحاجة لهذه العمادة.

سبب ذلك، يحدد علاقته بأبرز هؤلاء: همنغواي!

لقد أسرف همنغواي في الحديث عن دور غيرتروود شتاين مستظلاً بتهذيب لغته. وهذه الـ«مجاملة» من هيمنغواي، الذي يهدد نقاده الأدبيين في نيويورك بقبضته، مفهومة ومعلومة، ويحتاج شرحها مقالاً مستقلاً. لكن أسباب تجاهل أو نسيان أو تناسي همنغواي الإشارة إلى جاك لندن، فهذا أمر يحتاج إلى كِتاب سميك.

جال لندن الذي دفع استياء أميركا منه إلى محاولة هجران الرواية، إلى الترفيه، قبل أن تصطدم الولايات المتحدة بأرواحه التالية (فيتزجيرالد وهيمنغواي ودوس باسوس)، التي حاولت الولايات المتحدة مقاومتها بالانكباب المرضي على السينما..

نلاحظ دائماً، وبدهشة، أن الكتاب الأميركيين «تبعثروا» في أوروبا. وننسى أن الرواية كانت حتى ذلك الحين فناً أوربياً رغم التجارب والأسماء الأميركية الكبيرة في القرن التاسع عشر. وأن أميركا «المنعزلة» عن العالم كانت تتهيأ لكي تُري العالم معنى «التواصل الفعال»!

أميركا دخلت القرن الأدبي العشرين بموهبة كبيرة متفجرة، وكاتب فلتة، استجر بأعماله غضب بلاده على نفسه، وعلى الرواية والأدب كله، فمنعت كتبه ولعنه رؤساؤها، وامتدت هذه اللعنة طويلاً إلى درجة أن روزفلت نفسه تذكر أن يخصه بلعناته في أواخر الثلاثينات، بعد عقد ونصف من وفاة ذلك الكاتب «المخرب».

ذلك الكاتب «المخرب» كان أخي جاك لندن، بالغ الأناقة!

جاك لندن كان أنيقاً في الصور الرسمية وحسب، أما في حياته العادية فكان ابن دنيا. وفي سيرته مكافحاً معفراً بالتراب، مثل عامل خانه القدر، وثائر غدر به التاريخ وانتصرت عليه الطبيعة.

وهنا، يمكن قراءة قصص جاك لندن التي يقدم فيها محاولته الفذة لتوضيح صراع الإنسان مع قوانين الطبيعة من خلال قياس الجهد البشري مقارنة بقوتها، وتحكي عن ملاكمين (تذكروا همنغواي) يحسبون مقدار ما يتلقون من ضربات، وما يوجهون منها مقارنة بعدد اللقيمات التي تسنى لهم أن يأكلوها، أو من خلال تتبع تائه في القطب يحسب كم تبقى له من السعرات الباعثة للحرارة ليعيش.

لم يتعامل جاك لندن، في أدبه، مع الإنسان بأفكار الإنسان الواهمة عن نفسه، ولا بالخضوع للمعتقدات التي ولدت في البيئة التي صنعها الإنسان لنفسه (المجتمع). بل تحدث عنه باعتباره مجرد كائن في الطبيعة. أي عن حقيقته كحيوان غريزي، خلق غابته الخاصة (المجتمع)، وأعاد إنتاج غريزته الحيوانية الواعية (الأخلاق) وأفرغ نوازعه نحو شروط السيطرة المسبقة في قالب إجرائي متماسك (القانون).

وبعد وفاة جاك لندن ستشتهر امرأة ثورية وتدير العقول «بقولها»: «الاشتراكية أو البربرية»!

ولن تذكر هذه المرأة الألمانية من قريب أو بعيد جاك لندن، ولا أن هذه الأطروحة كلفته حياته وأعصابه وروحه، وأنه كان اشتراكياً مبكراً منذ العاشرة من عمره، يدقق في صفحات الماركسية ويدرس كتابات ماركس الأخرى وكانط ونيتشه وسبنسر، وكرس نشاطه السياسي المكلف وإرثه الأدبي الضخم ليؤكد أطروحته الأساسية بفكرتها الصريحة: على الإنسان أن يتجه نحو الاشتراكية أو فعليه أن يقبل حقيقة أنه مجرد حيوان.

كانت هذه المرأة مرتاحة إلى أن كلامها تم أخذه على محمل الفكرة الأصلية. لكنها لم تنتبه إلى أن جاك لندن، الذي توفي في العام 1916 قبل الثورة الروسية العظمى، كان أذهل لينين باكراً بطروحاته، وحاز إعجاب تروتسكي العارم، وأدار رأس بوخارين، بل أن روايته «العقب الحديدية» أشعلت في مكسيم غوركي شعلة خارقة جعلته يكتب رواية «الأم» الشهيرة.

كان جاك لندن بلشفياً تماماً قبل ثورة أكتوبر التي مات قبلها بعام!

وهو في هذا يشبه بيتهوفن الذي سبق زمانه، وأيقن مبكراً أن الحكْم الملكي لم يعد له مكان إلا في المتاحف وصفحات كتب التاريخ، وطمح إلى تغيير يقيم حكماً جمهورياً. هذا قبل أن تكون هناك أية جمهورية في التاريخ الحديث!

وخلافاً لكل «الأولاد» الأميركيين الذين تبعثروا في أوروبا، وولدت مواهبهم الأدبية بعد وفاته، لم يكن جاك لندن يبحث عن أي عمادة. كان مشغولاً باعتقاده أنه يمكن أن يكون جزءاً من تغيير ثوري عاجل ومحتوم في أميركا. وهذه مجازفة كتبت السطر الأخير في سيرته الذاتية (وهو يستحق التأمل): قيل إنه انتحر في الأربعين. وقيل مات من «شدة الإجهاد العصبي والانهيار الروحي والكحول».

أتاح زمن جاك لندن له أن يعتقد أنه قادر على تغيير أميركا. في حين أن زماننا لا يتيح لنا حتى مجرد التفكير بمحاولة الانتقال بعقول حلفائنا من التحشيد للجهاد والآخرة إلى فكرة النضال والوطن!

أما همنغواي، الذي فاتني الحديث عنه، فهو مثلنا جميعاً حينما نهرب من صلب المسألة: هو يحول القضية إلى حلبة ملاكمة، ونحن نحولها إلى معركة تتطلب جنوداً لا يفكرون. ويكون هذا سلوكنا في الواقع وليس فكرة لرواية نكتبها.. كما قد يكون الحال مع همنغواي، نفسه.

كان أخي جاك حقيقي الأناقة!
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال