جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

الكسندر ساليتسكي 
ترجمة: ياسر قبيلات ▣

يقدّم هذا المقال، المنشور في العديد مِنْ وسائل الإعلام الروسيَّة، تصوّراً واقعيّاً للمشكلات الأساسيّة التي تواجه مجموعة «بريكس». وأهميَّته هي في أنَّه صادر عن ألكسندر ساليتسكي، الخبير الاقتصاديّ المختصّ بالصين، والذي يحمل رتبة كبير خبراء في «معهد الاقتصاد العالميّ والعلاقات الدوليّة» التابع لـ«أكاديميَّة العلوم الروسيَّة»، كما أنَّه واحدٌ من الأسماء الكبيرة في مجاله.
«المترجم»
كشف المؤتمر الدوليّ «بريكس: آفاق التعاون والتنمية»، الذي عقد في موسكو في أوائل ديسمبر (كانون الأوَّل) 2013 تحت رعاية وزارة التنمية الاقتصاديَّة، وبرنامج الأمم المتّحدة الإنمائيّ، والأكاديميَّة الروسيَّة للتجارة الخارجيَّة، عن وجود عددٍ من المقترحات المثيرة للاهتمام، ولكنَّه أظهر في الوقت نفسه أنَّ الفكرة حول ظواهر مثل «العولمة» و«تعدّد الأقطاب» وما إلى ذلك، غالباً ما تكون غامضة للغاية.

ولادة بريكس (بدأتْ بمثلَّث «روسيا - الهند - الصين») تعود إلى «الاستدارة الشهيرة فوق الأطلنطي»(1)، التي قامت بها طائرة رئيس الوزراء الروسيّ يفغيني بريماكوف في عام 1999، وإلى الشعور بالحاجة إلى وضع حدود للعولمة (بالشكل الذي حاول الغرب فرضه في نهاية القرن العشرين) في السياسة وما رافقه من زيادة حادَّة في الانتقادات لجوانبها الاقتصاديَّة لا سيّما بعد أزمات 1997-1998.

وعليه، ينبغي علينا، ربَّما، أنْ نتَّفق على تعريف الطبيعة الأصليَّة لـ«بريكس» كنوع من «الإجماع السلبيّ» (2). أي نشوء الرفض الجماعيّ، لما بدا للكثيرين في مطلع هذا القرن، أنَّه عالم أحاديّ القطب. البلدان الطرفيَّة الكبيرة وشبه الطرفيَّة لم تظهر رغبة في أنْ تصبح معتمدة كليّاً على جوهر النظام العالميّ (هي أكبر مِنْ أنْ تعتمد عليه). وهذا «الجوهر»، لم يكن قادراً على فرض مثل هذا الاعتماد، وعلى الارجح، ليس مِنْ قبيل الصدفة أنَّه تحوَّل إلى العنف (قصف يوغوسلافيا في عام 1999).

وكما أظهرت السنوات التي مرَّتْ منذ ذلك الحين، فإنَّ الموازنة الحقيقيَّة والمفيدة لأحاديَّة القطب تأتي مِنْ خلال إعادة تصميم معمار العالم بأسلوب متعدّد الأقطاب. وهذه صيغة لا ترفض العولمة بحدّ ذاتها، لكنَّها لا تقبل بها بنسختها الغربيَّة، مِنْ جهة، وتواجهها بانتقاد جماعيّ (بما في ذلك مِنْ جهات في الغرب نفسه)، ومن ناحية أخرى – بتعزيز السيادة الوطنية للدول الكبرى غير الغربيَّة و/ أو التجمّعات الإقليميَّة بمشاركة هذه الدول.

لقد جرى تشكيل تعدّد المراكز في القرن الجديد على خلفيَّة النجاح الاقتصاديّ الكبير في دول البريكس، فضلاً عن تباطؤ النموّ والأزمة في البلدان المتقدّمة. وفي نفس الوقت، زيادة دور بريكس في الاقتصاد والسياسة العالميين، على نحوٍ بات ملحوظاً، لاسيّما بعد الأزمة 2008 - 2009، ولكنّ هذا لا يعني أنَّ هذه الدول باتت قادرة على إحداث تغيير جذريّ في النظام العالميّ القائم. ولكنها فقط قادرة على تحسينه (إنها أقلّ مِنْ أنْ تحدث تغييراً، ولكنَّها كبيره بما يكفي لتحسينه).

وبالتالي، يمكن تعريف الهدف الرئيسيّ لهذه الدول بالرغبة في الحفاظ على النموّ الاقتصاديّ لبلدان بريكس، بدرجة كافية لمعالجة البنية التحتيّة الحيويّة، والمعضلات الاجتماعيّة والتكنولوجيّة والبيئيّة. وتفرض فرص هذا النموّ التركيز على تعزيز تعدّد الأقطاب في النظام العالميّ. ويُفهم مِنْ دعوة تعدّديَّة الأقطاب هنا، بطبيعة الحال، الحفاظ على الهويَّة المستقلَّة لبلدان بريكس.

هذه الفردانيَّة بلا معنى دون تنفيذ المشاريع الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة الخاصَّة بهذه الدول. لذلك، واحدة من المعضلات الرئيسيَّة التي تواجه واضعي استراتيجيَّة التعاون الاقتصاديّ بين بلدان بريكس ينبغي أنْ تكون استنباط حلول خاصَّة بكلّ بلد. ويتوجَّب أنْ لا تلبّي هذه الحلول فقط زيادة حجم الروابط (التجارة، والاستثمار، الخ) بين البلدان المشاركة، بل وضمان قدرتها المستدامة على التطوّر بشكل مستقل (sustained independence). هذا الهدف تفرضه ظروف بلدان بريكس نفسها: وعلى ما يبدو، فإنَّ أيّاً مِنْ هذه البلدان لن تكون في المستقبل المنظور عضواً في أيّ منظومة تكامل إقليميّ مع الغرب (الإجماع السلبيّ نفسه).

ومع ذلك، هناك في وضع دول البريكس حالة من التوافق الإيجابيّ. التنمية المستقلّة لهذه الدول بحاجة إلى دعم حقيقيّ متعدّد المراكز، وبالتالي تعزيز دورها كقوى إقليميّة مسؤولة. بينما يمثّل النموّ الاقتصاديّ في بلدان بريكس معطى هام بالنسبة لجاراتها من الدول الصغيرة، التي لا تمتلك غالبا أسواقاً بديلة لمنتجاتها. وبالعلاقة مع هذه الدول بالذات يجد مبدأ التكامل والإقليميّة معناه - بما يتعلّق بدول البريكس.

العلاقات بين دول البريكس نفسها (اثنتان منها بمقياس إمكاناتها تتفوَّق على أيَّة تجمّعات إقليميّة معروفة) تستحقّ المزيد من الاهتمام في مجالات أخرى. على سبيل المثال، التنسيق على أساس الثقة للبرامج طويلة الأجل والتنمية المتوسّطة الأجل. وأيّة أفكار مثمرة لا تنتقص من العلاقات الفرديّة مع الشركاء الإقليميين، وامكانيّة العمل الجماعيّ في الاطار الدوليّ، الخ.

المحدّدات المفاهيميّة الرئيسيّة في استراتيجيّة تنمية التعاون الاقتصاديّ لبلدان بريكس تتضمَّن نوعان من المسلَّمات. المسلَّمة الأولى تقول إنَّ العولمة التي سوف تستمرّ وهي مهمّة للتعاون في بلدان بريكس «تتخلَّف» هناك. وبالتالي – فإنَّ هناك حاجة لتوفير كل أنواع المقترحات حول الأفضليَّات المشتركة، والبحث عن «نوع جديد من العولمة».

ومع ذلك، فإنَّ المسلَّمات حول حتمية استمرار العولمة ليست بعيدة عن دائرة النقاش. وهناك شعور بأنَّ هذه العمليَّة قد تبدأ بالتباطؤ أو حتَّى تتوقَّف تماماً، لدى وصولها إلى منتهاها. وتدلّ على ذلك البيانات حول حركة الاستثمار المباشر في السنوات الأخيرة، والبطء الكبير في ديناميّات التجارة الدوليّة، التي باتت إلى ما يقرب من الثلث تتكوّن من التداول المزدوج في سياق حركة البضائع في سلاسل القيمة العالميَّة، وتمثّل، وفقاً لتقديرات مختلفة، نحو 60-80 % من التجارة العالميَّة (أليس هذا حدّاً أقصى؟).

ويكتب مؤلّفو تقرير تجارة وتنمية الأونكتاد (2013) بشكلٍ مباشر وصريح عن استحالة العودة إلى استراتيجيّات ما قبل الأزمة والتوجّه نحو التصدير بسبب ركود الطلب في البلدان المتقدّمة. ويرون البديل حصراً في تنمية الطلب المحليّ والإقليمي في الاقتصادات الناشئة، وتحفيز قطاع الصناعة المحليَّة العاملة في هذه الأسواق. وفي سياق هذا الفهم هناك العديد من برامج البلدان المتقدّمة (insoursing، reshoring)، وهي تشبه في الواقع مبدأ إحلال الواردات.

وهناك عامل فاعل آخر في إخماد العولمة. والحديث هنا يدور حول نسبة استهلاك الخدمات المتزايدة في سياق التنمية الاقتصاديَّة. ومع ذلك، فإنَّ جزءاً كبيراً من الخدمات (على عكس المنتجات) بسبب ارتباطها باللغة الوطنيَّة، والثقافة المحليَّة.. الخ، لا يمكن أنْ تدخل في حركة التداول العالميَّة. وليس من المستبعد أنَّنا نقف على الحدود بين موجتين كبيرتين من تطوّر الاقتصاد العالميّ، المترمكزة في المرحلة الأولى، ليس على التنمية من الخارج، ولكن من الداخل. إذ حتَّى في مشروعي الولايات المتحدة العابرين للمحيط، يمكننا أنْ نرى الرغبة في النأي بالنفس عن عدد من الاتجاهات العالميَّة.

ربَّما يكون واحداً من الأسباب التي أدَّت إلى اضمحلال العولمة ثغرات كبيرة جداً في تنمية المناطق داخل كلّ بلد على حدة، ويتجسَّد هذا بتباين كبير في بلدان بريكس نفسها على وجه الخصوص. لذلك فإنَّ الاستعجال بتعزيز التعاون داخل البريكس، وقيادة هذا التعاون عبر سكة قطار «العولمة» القديمة نفسها، ليس إلزاميّاً، بل ويمكن أنْ يكون ضارّاً.

بالإضافة إلى ذلك، تعني «العولمة الجديدة» في داخل البريكس مدخلاً تفضيليّاً نحو الصين مِنْ قبل الأعضاء الآخرين في المجموعة، على الرغم من حقيقة أنَّ عواقب التوسّع في العلاقات الاقتصاديَّة الخارجيَّة بالنسبة لهذه البلدان لم تتمّ دراستها بشكل كاف - نظراً لحداثة هذه الظاهرة والقدرة التنافسيَّة العالية، إذا لم نقل القاسية، لهذه البلدان. ولا يعرف شركاء الصين، على سبيل المثال، خطط هذا البلد في مجال السياسة النقديَّة. وربّما يجدر من خلال البريكس مناقشة هذه القضايا الحسّاسة، والتفكير بالفعل بسبل اضافيَّة لحماية التنمية، والتركيز على الأسواق المحليَّة.

المعضلة المفاهيميَّة الثانية التي نواجهها لدى وضع استراتيجيَّة للتعاون الاقتصاديّ في مجموعة بريكس تتمثَّل في الفكرة حول ضرورة انشاء هيكل تنظيميّ لهذه المنظَّمة، موازٍ لمختلف أنواع المؤسَّسات العولميَّة. ومن المستبعد أنْ تكون هذه الازدواجيَّة مبرَّرة.

في الوقت الذي نتقاسم فيه الإستياء مِنْ أداء بعض المؤسّسات العالميَّة، وخصوصاً الماليَّة، يمكن أنْ نطرح أسئلة أخرى. فلنقل، ألا يمكن أنْ تنتزع بهذا المسؤوليَّات الملقاة على عاتق المؤسَّسات العولميَّة القائمة؟

سؤال آخر: هل من الممكن أنْ يمثّل انشاء هيكل مواز فرصة للتغلّب على الفجوة بين الهياكل المتداخلة للقطاعين الماليّ والحقيقيّ من الاقتصاد؟ فهذه الفجوة بالذات يعترف بها معظم الخبراء باعتبارها الخلل الرئيسيّ الموجود في العديد مِنْ بلدان النظم الماليَّة الائتمانيَّة.

ولسدّ هذه الفجوة يعتقد خبراء الأونكتاد، على سبيل المثال، إنَّ من الضرورة بمكان القيام بمراجعة جذريَّة لدور البنوك المركزيَّة في التنمية، وحرمانها على وجه الخصوص، مِنْ وضعيَّتها المستقلَّة.

يمكن بناء التوافق الإيجابيّ على التعاون الاقتصاديّ في بلدان بريكس، وأيديولوجيّتها ومعايير اختيار المشاريع المحدّدة، بنجاح مِنْ خلال تعزيز الاستقلاليَّة الوطنيَّة، والحدّ من الفجوة (بما في ذلك بين «البوّابات» الوطنيَّة للعولمة والمناطق الطرفيَّة الداخليَّة). ومن المفيد كذلك الدعم الجماعيّ للبلدان العضو بما يتناسب مع الخطط المنفردة للأعضاء، مثل مشروع الشرق (الروسيّ) الذي تتبناه موسكو، ومشروع إعادة موضعة الغرب (الصينيّ) الذي تتبنَّاه بكين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) 24 آذار/ مارس 1999، وبينما كان رئيس الوزراء الروسيّ يفغيني بريماكوف، محلّقاً فوق المحيط الأطلنطي متوجّهاً في زيارة رسميَّة إلى الولايات المتّحدة، أدار طائرته فوق المحيط، وعاد إلى موسكو، احتجاجاً على قصف يوغوسلافيا. وتلك الحادثة أخذت اسم «الاستدارة فوق الأطلنطي».

(2) هذا التعبير الموفَّق يعود إلى العالم البرازيليّ ريناتو باومان.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال