جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣

أصدرتْ واشنطن أمر العمليَّات، فانتظم أتباعها في الصفوف وانطلقوا بلا سؤال أو جواب لتنفيذ الأمر.

العلاقة بين واشنطن وأتباعها هي نظام عسكريّ صارم؛ حيث تجب على المرؤوس طاعة الرئيس بلا جدال.. حتَّى لو كان تنفيذه لأوامر رئيسه يعني هلاكه. ولا يشذّ عن هذه الصيغة حتَّى حلفاء واشنطن في العواصم الأوروبيَّة الاستعماريَّة العريقة.
نعم، صدرتْ الأوامر، فاصطفّ العناصر وضبّاط الصفّ والضبّاط وقادة الأركان.. الخ، وقالوا: «حاضر سيِّدي»، مِنْ دون أنْ يدروا إلى أين سينتهي بهم المطاف ولا ماذا سيكون الهدف التالي.
وكثيراً ما كان الهدف هو عنصر آبق؛ أو على الأقلّ، عنصر لم يلتزم بتنفيذ الأوامر بدقَّة أو انتهت الحاجة إليه فأصبح تعطّله خطراً. فقبل ثلاثة عقود من الآن، كانت واشنطن قد قرَّرتْ أنَّه يجب تعبئة كتائب «الجهاد الإسلاميّ» (التي تمَّ تفريخها من «الإخوان المسلمين»، برعاية السي. آي. أيه)، وتدريبها، ودعمها، وتعزيزها بالخبراء، والترويج الإعلاميّ الواسع لها، لكي تقاتل حكومة أفغانستان التقدّميَّة والاتّحاد السوفييتيّ.

وقد صدع الأتباع، آنذاك، في مختلف أنحاء العالم العربيّ، لهذا الأمر. وحتَّى أنور السادات الذي كان قد أعلن للتوّ أنَّ عهد الحروب قد انتهى وأنَّه آن الأوان لعهد السلام بين العرب وبين «إسرائيل» رأيناه يلحس كلامه هذا ويشارك في التعبئة والدعم والدعاية للحرب في أفغانستان!

وما إنْ تحقَّقت الأغراض التي كانت تنشدها واشنطن مِنْ تلك الحرب، وأصبح الذين أسماهم رونالد ريغان «المجاهدين مِنْ أجل الحريَّة» متعطِّلين عن العمل، وبدأوا يستديرون ببنادقهم نحو مشغِّليهم السابقين، حتَّى أصدرتْ واشنطن أوامرها بملاحقة هذه العناصر المتمرّدة وتأديبها وتصفية الخطرين منها. فكانت تلك بداية ما سمِّي «الحرب على الإرهاب».

ولكن، حتَّى في ظلّ بدء الحديث عن «الحرب على الإرهاب»، تمكَّنت واشنطن من استخدام الإرهابيين، باسم الإسلام أيضاً، لتمهيد السبل أمام حلف الأطلسيّ ليقوم بتفكيك يوغسلافيا.
لذلك، يستغرب كثيرون (وهم محقّون في ذلك)، كيف لا تتعلَّم تلك الأدوات التي لا تكفّ عن مقاتلة خصوم واشنطن بالوكالة عنها، مراراً وتكراراً، مع أنَّها (الأدوات) لا تحصد في كلّ مرَّة سوى الخيبة والخسران والتنكّر لخدماتها!
السبب هو أنْ عيونها قد حُجِبَتْ بأغطية جلديَّة سميكة، وطُمِس على قلوبها وعقولها.
ثمَّ رأينا واشنطن وأتباعها في السعوديَّة والباكستان يطلقون فجأة ما عُرِف لاحقاً بـ«طالبان»، لتحتلّ المدن الأفغانيَّة واحدة في إثر الأخرى، بينما الكلّ يتساءل: مِنْ أين جاءت «طالبان» هذه؟

ثمّ سرعان ما أصبح رأس «طالبان» مطلوباً مِنْ رعاتها السابقين. فواشنطن تستفيد بأدواتها الإرهابيَّة على الوجهين: أوّلاً بفعلها الإرهابيّ الموجَّه ضدَّ خصومها؛ وثانياً، ببعض رصاصاتها الطائشة التي تُوجَّه لها فتتَّخذها ذريعة لتحقيق بعض أهدافها ومآربها المبيَّتة.

وفي هذه الحالة، لا يكون «قصاصها» مقصوراً على مطلقي تلك الرصاصات، وحدهم، أو مَنْ قد تكون لهم علاقة بهم؛ بل يتعدَّاهم إلى مَنْ لا علاقة لهم بذلك. فعلى سبيل المثال، لم تكتفِ واشنطن، بعد حادثة تدمير برجي نيويورك التي اُتُهِمَتْ بها «القاعدة»، بغزو أفغانستان بذريعة ملاحقة الإرهاب والاقتصاص منه؛ بل احتلَّت العراق أيضاً بهذه الذريعة نفسها!
ومنذ حوالي أربع سنوات، أطلقت واشنطن فرانكشتاين الإرهاب، القديم الجديد، المتقنّع بالإسلام، ليصفِّي حساباتها (وحسابات «إسرائيل») المزمنة، مع سوريَّة، باسم المطالبة بالحريَّة والديمقراطيَّة (!)؛ ودعمته، وسلَّحته، وساندته سياسيّاً، وسخَّرت وسائل إعلامها الهائلة للترويج له.

ولم يحل دون ذلك أنَّ «جبهة النصرة» و«داعش»، اللتين تدور الحرب عليهما الآن، كانتا هما العمود الفقريّ لقوى الإرهاب المقاتلة في سوريَّة؛ ولكن حين أصبحتْ فظائعهما تفوق كلّ إمكانيّات التستّر عليها، وتجاوزتْ أهدافهما المخطَّطات المرسومة لها، اختلقت واشنطن، بالتعاون مع السعوديَّة، ما سُمِّي «الجبهة الإسلاميَّة»، وصنَّفتاها على أنَّها معارضة معتدلة! مع أنَّ أفكار تلك الجبهة وممارساتها لا تختلف عن أفكار وممارسات «داعش» و«النصرة»؛ بل إنَّها، حتَّى هذه اللحظة، لا تزال تتحالف علناً مع «النصرة».
ويجدر بنا هنا أنْ نتذكَّر ما يلي: عندما بدأ الجيش العربيّ السوريّ يحقِّق إنجازاتٍ عسكريَّة نوعيَّة متتالية، قبل أشهر، وأصبح واضحاً أنَّ الإرهاب قد بدأ يندحر بصورة منتظمة، أعلنت واشنطن أنَّها ستزوِّد «المعارضة السوريَّة» بأسلحةٍ نوعيَّة. وفجأة رأينا «داعش» تجتاح الموصل، وتُسلّمُ لها أسلحة قطاعاتٍ كبيرةٍ من الجيش العراقيّ. وعلى الفور، وأمام عدسات الكاميرات، اتجِّهت تلك «الأسلحة النوعيَّة» إلى سوريَّة.

وفي الوقت نفسه، بدا واضحاً أنَّ مشروع تقسيم العراق الذي كان نائب الرئيس الأميركيّ جو بايدن قد طرحه، والذي كان رئيس الوزراء العراقيّ السابق (نوري المالكيّ)، مع كلّ عيوبه وسوءاته، قد رفضه، أصبح، على يد «داعش»، أمراً واقعاً؛ حيث أصبح العراق، تماماً كما خطَّط  له بايدن، منقسماً إلى ثلاث أشلاء؛ أحدها شيعيّ، والآخر سنِّيّ، والثالث كرديّ.
والآن، تأتي واشنطن إلى المنطقة، بكامل عدّتها الحربيَّة، متذرِّعةً بجرائم «داعش» وأفعالها الهمجيَّة، وهي تأمل أنْ يؤدِّي ذلك إلى إطلاق يديها المكبَّلتين بالفيتو الروسيّ الصينيّ المزدوج والمكرَّر، لتفعل بسوريَّة ما حيل بينها وبينه حتَّى الآن.

وأتباع واشنطن (خصوصاً العرب منهم)، وحلفاؤها، يقفون معها في كلّ الأحوال وبكلّ شيء ولا يسألون؛ ولذلك، لا يهمّها أنْ تقول لهم، مرَّةً، إنَّ هذا الطرف  «ثائر مِنْ أجل الحريَّة» فناصِروه، ثم لا تلبث أنْ تقول لهم إنَّه إرهابيّ فقاتِلوه، ثمَّ تعود فتقول لهم إنَّه «ثائر» فناصِروه.. الخ.

وهكذا..
-        إلى الخلف در.. إلى الأمام سر..

-        حاضر سيِّدي!
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال