جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣

1979/9/8


     من يمين الناظر إلى الصورة:
 سعود قبيلات، الرفيق نبيل الجعنينيّ (شيوعيّ)، الرفيق سالم شطرات* (مِنْ فتح)
موعد النوم المُتَّفق عليه في غرفتنا هو الثانية عشرة ليلاً. بعدها يتوقَّف السهر الجماعيّ والأحاديث بصوتٍ عالٍ. وهذا النظام ناتج عن اتّفاق داخليّ بين سكّان الغرفة أنفسهم. ولذلك، تختلف مواعيد النوم أو الصحيان وأنظمة الحياة مِنْ غرفةٍ إلى أخرى في الشبك، بل وفي السجن عموماً. أمَّا موعد الصحيان النهائيّ في غرفتنا فهو الثامنة صباحاً، ولا يجـوز بعدها – عُرفاً – أنْ يستمرَّ أحدٌ بالنوم. ومِنْ حق أيّ رفيق أنْ ينام باكراً في المساء، لكن بعد أنْ يتعشَّى، وليس مِنْ حقه في هذه الحالة أنْ يعترض على سهر الآخرين وما يسبِّبه مِنْ تنغيصٍ لنومه، إلى أنْ يحين موعد النوم الرسميّ في الثانية عشرة.. بعدها مِنْ حق أيّ رفيق أنْ يسهر أيضاً، لكن شريطة أنْ لا يتسبَّب سهره بإزعاج النائمين، كما أنَّ مِنْ واجبه أنْ يستيقظ صباحاً في الموعد المحدَّد.. بغضّ النظر عن مدّة سهره.
الآن الساعة تعدَّت الثانية عشرة ليلاً، وفي البرش المجاور لا يزال «نهار» سهراناً يكتب شيئاً ما. يليه زياد عمر وقد جلس في برشه يحضِّر دروساً في اللغة الإنجليزيَّة؛ حيث أنَّه يشرف على دورة للسجناء في هذا المجال. وفي الجهة الأخرى، أرى «عمران السبع» يقرأ ويكتب في الوقت نفسه. . ثمَّ هناك حسام نصري ورشود الجفَّال يجلسان متجاورين ويتحدَّثان بصوتٍ خفيض. أمَّا حسن، فأراه منكبّاً على تدوين شيءٍ ما في دفتره.. بينما يتردَّد خافتاً، مِنْ مذياعٍ صغير، صوتُ صباح فخري: يا مال الشام يللا يا مالي.. طال المطال يا حلوة تعالي. 
أمَّا في الخارج، فالأشجار العالية، الَّتي تحدَّثتُ عنها أمس، يداعبها ريحٌ خريفيٌّ هو الأوَّل مِنْ نوعه منذ جئتُ إلى هنا. وهو ما يبعث في نفسي نوعاً رقيقاً من الحزن.. حيث أنَّ مشاعري في مثل هذا الطقس تصبح مرهفةً جدّاً.
وفي هذه اللحظة أفكِّر بأنَّني عشتُ حياتي بعمق.. وربَّما لهذا أجدني، بل ويجدني آخرون، أكبر مِنْ عدد سنوات عمري الحقيقيّ. نعم، أنا ما زلتُ في الثالثة والعشرين مِنْ عمري، لكنَّني أحسُّ أنْ زمناً طويلاً قد انقضى منذ فتحتُ عينيَّ على الحياة. والَّذين لا يعرفون عمري الحقيقيّ يتفاجؤون عندما يعرفونه، ويقولون مستغربين: لكنَّك تبدو أكبر مِنْ ذلك بكثير!
أستطيع القول إنَّ الحياة لم تمنحني فرصةً كافية لالتقاط الأنفاس ومراجعة الذات؛ فكانت هناك دائماً حالة من التسارع واللهاث تسيطر على حياتي، لا سيِّما في السنوات الأخيرة. لكنَّ هذا منحني، بالمقابل، القدرة على تذوّق بهجة الحياة بعمق، والتعرّف على أجمل المشاعر وأرهفها، الأمر الذي يمنحني شعوراً قويّاً بإنسانيتي.
الريح في الخارج ما زال يزأر. وقبل قليل جاء الرفيق نايل محمود، وهو رئيس منتخب لجميع لجان السجن.. وفي العادة يتأخَّر في الخارج بعد إغلاق الأبواب لمتابعة قضايا السجناء والعمل على حلِّها.
لقد جاء نايل وهو يشكو مِنْ برودة الطقس، أنا أيضاً – المسرور بموقع «برشي» المطلّ، والمتفاخر به حتَّى يوم أمس – بدأتُ أشعر بالبرد العابر إليَّ مِنْ خلل القضبان.
جاري «نهار» يحدِّثني هذه الأيَّام عَنْ قريته في الكرك. وقد شوَّقني بحديثه لزيارتها بعد الخروج من السجن.
واليوم هدأتْ حدَّة المناوشات بيني وبين حسن.. وحين رآني أعقد «معاهدة صداقة وحسن جوار» مع عمران السبع – بعد مناوشات طالت بيننا كذلك – قال إنَّه يشكُّ في إمكانيَّة استمرار هذه المعاهدة طويلاً.. غير أنَّه في أجواء الصلح تلك، ما لبث أنْ عرض عليَّ مشروعاً مماثلاً. لكن لمَّا كانت مناوشاتي معه تتَّسم بطابع أكثر عمقاً، دعوته إلى تأجيل البحث في هذا الأمر إلى إشعارٍ آخر.
غداً في السادسة صباحاً، سيخرج إلى ساحة السجن، للمرَّة الأولى، فريق «الأسد المرعب» الَّذي أسَّسه رفيقنا العزيز «نهار». وتنحصر أهداف هذا الفريق في ممارسة رياضة التمارين السويديَّة الصباحيَّة وإشاعتها بين سجناء الشبك رقم (1). وقد وعدتُ «الرفيق المؤسِّس» (وهو أيضاً الأمين العامّ للفريق) بأنْ أكون واحداً من المنتسبين إلى فريقه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*لطول المدّة التي مرَّتْ على التقاط هذه الصورة، لستُ متأكِّداً تماماً مِنْ أنَّ الجالس مع الرفيق نبيل الجعنينيّ (ومعي) هو الرفيق سالم الشطرات وليس سواه؛ فأرجو المعذرة إذا ما حدث أيّ خطأ في هذا المجال.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال