جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣

كانت أمّ كلثوم واحدة مِنْ ثلاث رموز فنيَّة وفكريَّة وسياسيَّة وكفاحيَّة وأدبيَّة صاغتْ وجدان كاتب هذه السطور في مرحلة مبكِّرة مِنْ حياته.


وكان في مقدِّمة هذه الرموز، الثائر الأرجنتينيّ الأمميّ آرنستو تشي غيفارا؛ حيث قرأتُ آنذاك يوميَّاته في جبال السيرا مايسترا في كوبا في أثناء مشاركته في الثورة التي قادها فيدل كاسترو ضدّ الديكتاتور الكوبيّ باتيستا الذي كان عميلاً للولايات المتَّحدة.


أمَّا الرمز الثالث الذي أثَّر في نفسي بقوَّة، فكان الأديب الأميركيّ الشهير آرنست همنغواي؛ حيث قرأتُ له، في تلك الفترة نفسها، روايته الشهيرة «لمن تُقرع الأجراس» التي تتحدَّث عن الحرب الأهليَّة الإسبانيَّة. وأذكر أنَّني ما إنْ فرغتُ مِنْ قراءتها حتَّى حاولتُ أنْ أكتب على منوال بعض المشاهد المؤثِّرة فيها. وكانت تلك – كما أذكر – هي المحاولة الأولى لي في الكتابة.


كنتُ، آنذاك، لا أزال فتىً صغيراً في الصفّ الأوَّل الإعداديّ، وقد أثَّرتْ قراءتي ليوميَّات غيفارا ورواية همنغواي بصورة عميقة في نفسي ووجداني؛ فأصبح غيفارا هو مثالي الثوريّ والغيفاريَّة هي الطريق الثوريّ الأقرب إلى نفسي؛ وهذا بينما لم يعد بإمكاني بعد قراءة همنغواي أنْ أقرأ أيَّ نوع من الكتابة الميلودراميَّة، أو الرومانسيَّة المبتذلة، أو المثقلة بالزخارف اللغوية والكلمات المفخَّمة، أو التي تعتمد أسلوب المباشرة الفجَّة، أو التي يكون الراوي فيها كليّ القدرة والاطِّلاع، أو التي يظهر فيها صوت المؤلِّف مِنْ دون أنْ تقتضي ذلك الضرورات الفنيَّة.


لذلك وجدتني أوفِّر مصروفي المدرسيّ لأذهب إلى مدينة مادبا في نهاية كلّ أسبوع فأشتري مِنْ مكتبة «فراس» (التي كان يملكها التربويّ والمؤرِّخ الدكتور سامي النحَّاس) كلّ ما أعثر عليه فيها مِنْ كتب همنغواي، وسواه، المترجمة إلى العربيَّة. وأذكر أنَّني قرأتُ آنذاك بتأثّر عميق: «وداعاً أيُّها السلاح»، «موت في الظهيرة»، و«ستشرق الشمس أيضاً».. الخ، لهمنغواي؛ وقرأتُ «المراهق» لدستويفسكي، و«تراس بولبا» لغوغول.. الخ.


وفي الفترة نفسها، تعرَّفتُ على صوت أمّ كلثوم؛ في البداية لفت نظري الاهتمام الغريب الذي كان يوليه الناس لحفلاتها الشهريَّة ولمتابعة أغنياتها التي كانت تذاع عصر كلّ يوم وفي الليل أيضاً. ولكنَّني عندما حاولتُ أنْ أسمعها بدتْ لي أغنياتها في البداية مملَّة ولا تغري بالمتابعة. إلا أنَّني استمررتُ في المحاولة رغبة منِّي في معرفة السرّ الذي يجعل كثيراً من الناس معجبين بصوتها. وشيئاً فشيئاً بدأتْ إيقاعات وجداني تتناغم مع إيقاعات ذلك الغناء الجميل المشغول بمهنيَّة عالية مِنْ قبل ملحِّنين وموسيقيّين كبار ومغنية مبدعة وذكيَّة وذات خامة صوتيَّة مميَّزة. بعد ذلك، ولسنواتٍ طويلة، أصبحتْ مواعيد سماع أمّ كلثوم مواعيد مقدَّسة بالنسبة لي.


وفي تلك الفترة نفسها، كما أذكر، بدأ نوع من الصداقة الوطيدة والرابطة الفكريَّة الراديكاليَّة يتشكَّل بيني وبين مجموعة مِنْ شباب القرية، وأصبحنا نلتقي يوميّاً تقريباً، لنستمع إلى صوت أمّ كلثوم ولنتبادل الأفكار الجريئة حول الأدب والإنسان و"الوجود والعدم" والحياة الاجتماعيَّة.. الخ.


كان كبيرنا وأكثرنا جرأة في ذلك الوقت شاب متخرِّج حديثاً مِنْ مدرسة الربَّة الثانويَّة الزراعيَّة ويبحث عن عمل؛ هو ضيف الله فهد (الشيخ ضيف الله في ما بعد؛ حيث أصبح فجأة، بعد سنوات، محسوباً على التيَّار الدينيّ)؛ وصالح فليِّح الذي كان في ذلك الوقت طالباً في مدرسة مادبا الثانويَّة، يتيم الأب. وكنَّا نلتقي في بيته المكوَّن مِنْ غرفة واحدة ونمكث ساعاتٍ طوال ونحن نتجادل ونتحاور ونستمع إلى صوت أمّ كلثوم.


وكان صالح، كما ضيف الله، يكتب الشعر؛ حيث كان الأوَّل يكتب الشعر العموديّ بينما كان الثاني يكتب الشعر الحديث. وبالإضافة إلى هذا فقد تميَّز ضيف الله بقدرته على اختلاق القصص الخياليَّة المبهرة وسردها علينا بأسلوب آسر. وما لبثتْ تلك الخاصيَّة أنْ أصبحتْ عدوى انتقلتْ إليَّ وإلى صالح؛ حيث أصبح كلٌّ منَّا يبتكر قصصه الشفهيَّة الخاصَّة ويسردها على الآخرين، خصوصاً ونحن نتمشَّى عصر كلّ يوم في أطراف القرية.


وكان مِنْ أعضاء تلك المجموعة أيضاً عبد الله عبد المعطي الذي كان أيضاً طالباً في مدرسة مادبا الثانوية، وكان فكِهاً جداً ومرحاً عندما يقتصر الحضور على أعضاء المجموعة، أمَّا بوجود الآخرين فكان ينقلب إلى شخصٍ محافظٍ شديد العبوس ومفرط الرصانة.


وأذكر أيضاً أنَّنا في جولاتنا المعتادة، عصر كلّ يوم، بعدما نفرغ من الحديث والجدال وسرد الحكايات المختلقة، كان يحلو لنا أنْ نحوِّل أصواتنا إلى آلات موسيقيَّة فنعزف بها معاً بعض المقطوعات الموسيقيَّة الفوضويَّة بادئين بمستوى صوتيّ منخفض ثمَّ متدرِّجين شيئاً فشيئاً إلى أنْ نبلغ أعلى مستوىً صوتيّ نستطيع الوصول إليه. ثمَّ نعود بالتدريج إلى خفض أصواتنا إلى أنْ نصل إلى أدنى مستوى صوتيّ نستطيع الوصول إليه، ثم نعود إلى التدرج في رفع الأصوات.. وهكذا إلى أنْ يصيبنا الإعياء.


وفي هذه اللقاءات المنتظمة، كانت تدور بيننا حوارات فكريَّة جريئة، نحاول بها أنْ ندخل مناطق فكريَّة جديدة، وأنْ نتخلَّص مِنْ قيود المسلَّمات التي لا معنى لها ومِنْ بلاهة البداهة، وأنْ نفتح مغاليق الذهن، ونطلق سراح الخيال. بيد أنَّ بعض تلك الحوارات كان يتسرَّب بصورة مشوَّهة إلى الآخرين في القرية؛ الأمر الذي أثار ردود فعلٍ حادَّة مِنْ قبل بعض المحسوبين على التيَّار الدينيّ، وكان عددهم قليلاً آنذاك.


وتصاعد العداء مع استمرارنا في حواراتنا، تلك، إلى حدّ أنْ خطيب الجامع خصَّص إحدى خُطب الجمعة لمهاجمة مجموعتنا وأفكارها التي اعتبرها خطرة وتجب محاربتها ومحاربتنا إلى أنْ نتخلَّى عنها.


وانبرى بعضهم لدعوتنا إلى جلسات حوارٍ مطوَّلةٍ، هدفُها إقناعنا بعدم صواب طريقتنا في التفكير المتحرِّرة من جميع الضوابط والقيود المعتادة، وحثِّنا على العودة عنها إلى ما كانوا يرون أنَّه هو الطريق السليم.


أمَّا بالنسبة لي فقد اعتقد جدّي ـ وكانت تربطني به علاقة محبَّة عميقة وصداقة متينة ـ أنَّ سماعي المتواصل لأمّ كلثوم هو السبب في اتِّجاهاتي الفكريَّة المزعجة تلك، كما أنَّ ذلك كان - في تصوّره - يلهيني عن الاهتمام بواجباتي المدرسيَّة ويفسد طباعي الشخصيَّة. ولذلك فقد أصبح إصراري على الاستمرار في سماع غناء أمّ كلثوم مثار جدلٍ ومشادّاتٍ متواصلة بيني وبين جدِّي لمدَّة طويلة بعد ذلك.


لا أزال أذكر حتَّى الآن بعض التفاصيل المتعلِّقة بحفلات أمّ كلثوم الشهريَّة الشهيرة التي كانت تبثّها الإذاعات المصريَّة على الهواء مباشرة بعد الساعة العاشرة مِنْ ليل أوَّل خميس مِنْ كلّ شهر. وكانت الحفلة تستمر حتَّى الساعات الأولى من الصباح.


كنتُ آنذاك (قبل تعرّفي على المجموعة التي أشرتُ إليها) أضع جهاز الراديو بجانب فراشي الممدود على الأرض مباشرة، وأنتظر بلهفة بدء حفلة أمّ كلثوم، حيث تنتقل الإذاعات المصريَّة قبل ذلك بوقتٍ غير قليل إلى البثّ مباشرة مِنْ مسرح قصر النيل. ويظلّ المذيع طوال الوقت يتحدَّث عن أمّ كلثوم وعن الأغنية الجديدة التي من المتوقَّع أن تغنِّيها، وعن الأغنيات الأخرى القديمة التي من الممكن أنْ تعيد غناءها أيضاً، محاولاً أنْ يعبِّئ بكلامه المتواصل وقت المستمعين المنتظرين والمتلهِّفين في مختلف بقاع العالم العربيّ لسماع صوت أمّ كلثوم، إلى أنْ تنفرج الستارة عن كوكب الشرق في النهاية وتظهر على المسرح؛ عند ذاك، كان الانفعال يطغى على صوت المذيع وتتسارع كلماته ويعلو صوته ويحتدّ وتضجّ سمَّاعات المذياع بالتصفيق الحادّ مِنْ قبل الجمهور المحظوظ الحاضر في قاعة مسرح قصر النيل، ويبدأ الموسيقيّون دوزنة آلاتهم، وهو أمر مثير للأعصاب ويزيدها تحفّزاً.


وبعد وقتٍ كأنَّه الدهر، تشرع الفرقة الموسيقيَّة (الفرقة الماسيَّة بقيادة أحمد فؤاد حسن) بالعزف. وكانت المقدِّمات الموسيقيَّة لأغاني أمّ كلثوم تمثِّل دائماً حدثاً فنيّاً مميَّزاً؛ حيث كان كبار الملحنين الذين يضعون الألحان لتلك الأغاني يتبارون في ابتكار مقدِّماتها الموسيقيَّة لتخرج بأجمل شكلٍ ممكن وتنطوي على أفكار موسيقيَّة جديدة وعميقة وتكشف عن جهد إبداعيٍّ واضح.


وعندما كانت أمّ كلثوم تتقدَّم في اللحظة الموسيقيَّة المناسبة إلى الميكروفون، وهي ممسكة بمنديلها الشهير، لتبدأ شدوها، كان يعلو التصفيق مِنْ جديد عبر سمَّاعات الراديو. وسرعان ما تبدأ الحفلة، فتبدأ المتعة، وتُرهَف الأسماع والأحاسيس، وتتدفَّق الخواطر والصور الجميلة على مخيِّلة الإنسان، ويتقدَّم الوجدان ليكون هو المهيمن على الإنسان في تلك الأوقات الاستثنائيَّة الجميلة.


وفي ما بعد، حين تعرَّفتُ على المجموعة التي أشرتُ إليها، تنازلتُ عن طقوسي الخاصَّة تلك في سماع أمّ كلثوم لصالح طقوس مشتركة للمجموعة ككلّ؛ إذ كنَّا نلتقي في بيت صديقنا صالح ونجلس معاً ونستمع معاً إلى ذلك الغناء الفاتن ونحن مسحورين به منشدّين إلى نغماته.
ومع استمرار السماع والمتابعة، أصبحتُ أعرف كمّاً كبيراً من المعلومات عن أمّ كلثوم وغنائها وأغنياتها وملحِّنيها وكاتبي كلماتها. ومِنْ دون جهدٍ يُذكَر، وجدتني أحفظ معظم تلك الأغاني الطويلة، وأمتلك القدرة على معرفة اسم كلٍّ منها ومَنْ هو ملحِّنها وكاتب كلماتها.. ما إنْ أسمع مطلع مقدِّمتها الموسيقيَّة.


ومع الزمن، أصبحتُ أميِّز أساليب الملحِّنين بعضها عن بعض. وقد وجدتُ في النهاية أنَّ أقربهم إلى نفسي، وأكثرهم قدرة على فهم صوت أمّ كلثوم وتوظيفه فنيّاً بصورة جيدِّة، والأكثر تطابقاً في مشروعه الفنيّ مع مشروعها، هو رياض السنباطيّ.


وسرعان ما أصبح رياض السنباطيّ، بالنسبة لي، أسطورةً حيَّة، ورحتُ أهتمّ بمتابعة أخباره، وأحاول أنْ أجمع كلّ ما يتوفّر من المعلومات عنه؛ إلا أنَّني ما لبثتُ أنْ واجهتُ مشكلة مستعصية في هذا المجال؛ ذلك لأنَّ رياض السنباطيّ كان منعزلاً تماماً عن الوسط الفنيّ والإعلاميّ، ولم يكن يدلي بأيَّة أحاديث صحفيَّة أو تلفزيونيَّة أو إذاعيَّة.


كان الجانب الوحيد المكشوف فيه للناس هو فنّه، وما عدا ذلك فلا شيء يتسرَّب عن حياته الخاصَّة أو عن شخصيَّته. ومع ذلك فإنَّ أهمّ أغاني أمّ كلثوم التي يحبّها الناس ويعرفونها بها هي مِنْ ألحان رياض السنباطيّ. ويكفي أنْ أشير هنا إلى بعض أسماء تلك الأغاني: «الأطلال»، و«رباعيَّات الخيَّام»، و«غُلبت أصالح»، و«أروح لمين»، و«الحبّ كدا»، و«يا ظالمني»، و«سهران لوحدي»، و«جدّدت حبَّك ليه»، و«قصَّة الأمس»، و«نهج البردة»، و«سلوا كؤوس الطلا»، و«وُلِد الهدى» و«أراك عصيَّ الدمع»، و«أذكريني»، و«أغار مِنْ نسمة الجنوب»، و«شمس الأصيل»، و«عودّت عيني على رؤياك»، و«ذكريات»، و«هجرتك»، و«لسَّه فاكر»، و«فاكر لمَّا كنت جنبي»، و«يللي كان يشجيك أنيني»، و«هلّت ليالي القمر»، و«حسيبك للزمن»، و«دليلي احتار»، و«أقول لك أيه»، و«سلوا قلبي»، و«أقبل الليل».. الخ.


كان أوَّل ألحان رياض السنباطيّ لأمّ كلثوم، كما هو معروف، هو أغنيتها الشهيرة «على بلد المحبوب». ومن الواضح أنَّ هذه الأغنية بطابعها الفلكلوريّ تختلف كثيراً عن النمط الأكثر تركيباً وتطوّراً الذي اتَّبعه رياض السنباطيّ، وعُرِفَ به، في تلحينه في ما بعد.


ومِنْ ألحانه الأولى المشهورة لغير أمّ كلثوم أغنية «ليه يا بنفسج» لصالح عبد الحيّ. وقد تميَّز رياض السنباطيّ بشكلٍ خاصّ بالقدرة على تلحين القصائد المكتوبة بالعربيَّة الفصيحة؛ حيث كانت الكلمات الجزلة والقديمة وحتَّى المنسيَّة أيضاً تتحوَّل في ألحانه إلى أنغام رقيقه جدّاً وجميلة إلى حدٍّ فاتن وسلسة على نحوٍ يثير الدهشة.


ولقد استطاع رياض السنباطيّ أنْ يجمع بصورة تثير الإعجاب ما بين نزعته التجديديَّة القويَّة وبين تمسّكه الصارم بأصول الموسيقى العربيَّة وهويَّتها الفنيَّة الخاصَّة؛ كما جمع أيضاً بالمهارة نفسها ما بين النزعة الرومانسيَّة بتدفّقها العاطفيّ وبين التركيب اللحنيّ شديد التعقيد. ولقد نوَّع في المقامات واستطاع في الوقت نفسه أنْ يستثمر الطاقة التطريبيَّة للموسيقى العربيَّة إلى المدى الذي لم يصل إليه موسيقيّ عربيّ آخر قبله، ولكنَّه أيضاً استثمر الطاقة اللحنيَّة للمقامات الخالية من التطريب إلى أقصى مدىً أيضاً.


بيد أنَّ الإعلام (وكان الإعلام اللبنانيّ، وقتها، هو المهيمن على المستوى العربيّ كلّه) ظلم رياض السنباطيّ كثيراً، ولم يلقِ أضواء كافية على دوره في مسيرة أمّ كلثوم ومستوى انجازاته وخصائص فنِّه.


ومن الواضح أنَّ المشروع الفنيّ لرياض السنباطيّ قد تركَّز مع الزمن بشكل كامل على صوت أمّ كلثوم، ولذلك فعندما توفِّيت عام 1974 توقَّف السنباطيّ تقريباً عن العمل، ولم تظهر له أيَّة أعمال جديدة ذات شأن بصوت أيٍّ من المغنِّين والمغنِّيات الذين كانوا موجودين آنذاك. وبالتالي، فيمكن القول إنَّه مات فنيّاً مع الموت الجسديّ لأمّ كلثوم رغم أنَّه رحل فعليّاً بعدها بسبع سنوات.


الملحّن الآخر المهمّ الذي كنتُ أحبّه مِنْ ملحِّني أمّ كلثوم هو محمَّد القصبجيّ، صاحب المشروع التجديديّ الأكبر في ذلك الزمن بعد سيِّد درويش، وهو أستاذ كلّ مِنْ رياض السنباطيّ ومحمَّد عبد الوهَّاب وفريد الأطرش. كما تأثَّر بمدرسته التجديديَّة آخرون من الجيل اللاحق، مِنْ أبرزهم محمَّد الموجيّ.


ومحمَّد القصبجيّ هو الذي نقل أمّ كلثوم من الغناء بمصاحبة "التخت الشرقيّ" البسيط إلى الغناء بمصاحبة فرقة موسيقيَّة حديثة ومتطوِّرة، ومن الإنشاد الدينيّ إلى الأغاني العاطفيَّة. كما أنَّه أعاد تثقيفها فنيّاً وعرَّفها بقواعد الموسيقى وأصولها وبالمقامات وبأصول الغناء الحديث.. الخ. 


وقد عُرِف محمَّد القصبجيّ بشغفه بالتجديد إلى حدّ المغامرة، وكان منفتحاً جدّاً على التجارب والأنواع الموسيقيَّة الأجنبيّة على اختلاف مدارسها واتِّجاهاتها. ومِنْ ذلك أنَّه جعل أمّ كلثوم تجرِّب أداء الغناء الأوبراليّ البعيد تماماً عن نمط غنائها ذي النزعة الكلاسيكيَّة الشرقيَّة. وقد فشلتْ هذه المغامرة فشلاً ذريعاً كما هو معروف.


وألحان القصبجيّ لأمّ كلثوم كثيرة ويأتي ترتيبها العدديّ في المرتبة الثانية بعد ألحان رياض السنباطيّ، ومِنْ أبرزها وأهمِّها أغنية "رقّ الحبيب" التي تتميَّز بأنَّها مشغولة جيِّداً وتنطوي على أفكار موسيقيَّة ولحنيَّة متطوِّرة وباهرة.


وأذكر أنَّني قرأتُ، في فترة مبكِّرة مِنْ حياتي، تصريحاً لأمّ كلثوم قالت فيه بأنَّها عندما تكون لوحدها وترغب بترديد شيءٍ مِنْ غنائها لنفسها فإنَّها تردِّد على الأغلب المقطع التالي مِنْ أغنية «رقّ الحبيب»:


"مِنْ كترِ شوقي سبقتِ عمري    وشفت بُكرَهْ والوقتِ بدري"


ولم يقتصر نجاح القصبجيّ، كما هو معروف، على ألحانه لأمّ كلثوم؛ بل إنَّه تجاوزها إلى فنَّانات أخريات؛ حيث تشهد على ذلك ألحانه الكثيرة الجميلة لليلى مراد وأسمهان، على سبيل المثال.


وسرّ جمال ألحان القصبجيّ هو أنَّها تجمع ما بين الطابع التجديديّ وبين العمق وبين الرومانسيَّة بطاقتها الشعوريَّة الإيجابيَّة البعيدة عن الميلودراميَّة والصخب الوجدانيّ الفارغ. كما أنَّها، بالإضافة إلى ذلك، ألحان سلسة ومتدفِّقة، رغم أنَّها مشغولة جيّداً. وقد أُشتُهر القصبجيّ أيضاً بجهده المثابر والدؤوب والمبدع لتكريس البعد التعبيريّ في الغناء والموسيقى العربيّين.


الملحِّن الثالث المهمّ مِنْ ملحِّني أغاني أمّ كلثوم الذي أحببته هو الشيخ زكريَّا أحمد؛ وكان شديد التمسّك بأصول الموسيقى العربيَّة وهويَّتها الخاصَّة. ولكنَّه برأيي لم يكن محافظاً كما حاول البعض أنْ يصنِّفه؛ إذ قدَّم في إطار اتِّجاهه هذا فنّاً عميقاً ومتطوِّراً ومختلفاً؛ بحيث أصبحتْ له مدرسته الفنيَّة المميَّزة. وكانت ألحان زكريَّا أحمد تتميَّز بالرومنسيَّة الرقيقة، وبشحنتها العاطفيَّة العالية؛ لكنَّها بالمقابل كانت مشغولة جيِّداً أيضاً، كما أنَّ شحنتها العاطفيَّة ورومنسيتها ليست مجانيَّة ولا مبتذلة، بل مبرَّرة فنيّاً بشكل جيّد وبصورة احترافيَّة، كما أنَّها معزَّزة بأفكار موسيقيَّة ولحنيَّة عميقة ومبتكرة.


لهذا، فألحان زكريَّا أحمد لا تقبل من المستمع ما هو أقلّ من الاندماج الوجدانيّ الكامل بها وتَمثُّلِ شحنتها العاطفيَّة الهائلة التي تلامس حدود اللاوعي بما يشبه مفعول الأحلام. لذلك فليس مصادفة أنَّ إحدى أبرز الأغاني التي لحَّنها لأمّ كلثوم وأجملها هي أغنية "حلم" التي تروي أيضاً قصَّة حلم.


وتتميَّز ألحان زكريَّا أحمد، بالإضافة إلى هذا كلّه، بالخفَّة والرشاقة والقدرة بشكل مميَّز على التعبير عن المشاعر المتناقضة بصيغة لحنيَّة واحدة.


ولقد شكَّل الشيخ زكريَّا أحمد، مع الشاعر الشعبيّ المكافح أحمد بيرم التونسيّ، ثنائيّاً ملتزماً بالحياة الشعبيَّة المصريَّة الغنيَّة، ومندمجاً فيها، ومشاركاً بفعاليَّاتها المختلفة للكفاح ضدّ الاستعمار والاستغلال والاستبداد.


 وبسبب عمق جذور هذه المدرسة في حياة وتراث الشعب المصريّ، فقد تواصلتْ تأثيراتها وامتداداتها لزمنٍ طويل بعد رحيل أحمد بيرم التونسيّ وزكريّا أحمد. حيث رأينا سيِّد مكَّاوي، تلميذ زكريَّا أحمد، يواصل السير على خطاه بالتعاون مع الشاعر فؤاد حدَّاد، تلميذ بيرم التونسيّ النجيب؛ كما رأينا الشيخ إمام، أيضاً، وهو تلميذ آخر بارز لزكريَّا أحمد، يواصل النهج نفسه بالتعاون مع الشاعر أحمد فؤاد نجم، تلميذ بيرم التونسيّ وفؤاد حدَّاد.


ومساهمة زكريَّا أحمد في المشروع الفنيّ الضخم الذي تمحور حول أمّ كلثوم هي مساهمة مهمَّة وبارزة ومتعدِّدة النماذج. ومِنْ ألحانه المعروفة لأمّ كلثوم: «الأمل»، و«الآهات»، و«الأوِّلة في الغرام»، و«أهل الهوى»، و«حبيبي يسعد أوقاته»، و«الورد جميل»، و«غنِّي لي شوِّي شوِّي»، و«حلم»، و«أنا في انتظارك»، و«هوَّ صحيح الهوى غلاَّب».. الخ.


بعد هؤلاء الملحِّنين الكبار الثلاثة يأتي الملحِّنون الذين صُنِّفوا آنذاك تحت اسم «جيل الشباب»، وهم: كمال الطويل، ومحمَّد الموجيّ، وبليغ حمديّ. إنَّهم تقريباً أوَّل جيل فنيّ مِنْ خارج دائرة المشايخ، ودخل دائرة الفنّ بالاستناد إلى تحصيل علميّ حديث في المعهد العالي للفنون بالقاهرة.


مِنْ ألحان كمال الطويل المعروفة «والله زمان يا سلاحي» الذي أصبح النشيد الوطني المصريّ في عهد الرئيس جمال عبد الناصر.


ومِنْ ألحان محمَّد الموجيّ المعروفة: «للصبر حدود»، و«إسأل روحك».


 ومِنْ ألحان بليغ حمديّ المعروفة: «كلّ ليلة وكلّ يوم»، «وفات المعاد»، و«أنساك»، و«ألف ليلة وليلة»، و«سيرة الحبّ»، و«حبِّ أيه»، و«أنا وانت ظلمنا الحبّ»، و«بعيد عنَّك»، و«الحبّ كلّه»، و«حكم علينا الهوى».. الخ.


وبليغ حمديّ صاحب رؤية فنيَّة مميَّزة، وكان غزير الإنتاج ويتدفَّق حماساً لفنِّه ولتقديم أفكار لحنيَّة جديدة ومبتكرة. وقد عُرِف باهتمامه بالفلكلور وسعيه للاستفادة به وتطويره؛ حيث تعامل مع الفلكلور كخامة مهمَّة وظَّفها بصورة جديدة ومتطوِّرة في صياغة مشروعه الفنيّ التحديثيّ. ومعروف عنه أنَّه أقنع أمّ كلثوم، وهي رمز الكلاسيكيَّة الفنيَّة العربيَّة آنذاك، بأنْ تُدخل في أغانيها شيئاً مِنْ هذا الفلكلور المطوَّر.


وبالنسبة لهذا المشروع الفنيّ الكبير الذي تمحور حول أمّ كلثوم وقام بانجازه كلّ هؤلاء الموسيقيّين والملحِّنين والشعراء الكبار، فإنَّني أرى الآن أنَّه كان يمثِّل محاولة كبرى وجريئة لخلق كلاسيكيَّة فنيَّة عربيَّة خاصَّة ومتطوِّرة.


وقد جرتْ في هذا السياق تطويرات فنيَّة هائلة للموسيقى والغناء العربيّين. ومثَّلتْ تلك التجربة خطوة واسعة لتعزيز جهد سيِّد درويش الهادف إلى تحرير الموسيقى والغناء العربيّين مِنْ التأثيرات التركيَّة والعودة بالفنّ إلى روح الشعب وتراثه وقيمه الفنيَّة، كما أنَّها ساهمتْ في إخراج الفنّ مِنْ أروقة القصور الفارهة إلى الحياة الواسعة والغنيَّة للشعب، وكرَّستْ الأساليب والتقنيات الفنيَّة الحديثة في الموسيقى والغناء العربيّين، وأدخلت الفرق الموسيقيَّة الكبيرة الحديثة والمتطوِّرة إلى الأغنية العربيَّة.


لقد كان ذلك الجهد الفنيّ العظيم المشترك لكلّ أولئك الفنَّانين الكبار، رديفاً أساسيّاً لحركة النهضة (والتحرّر) العربيَّة الشاملة التي ازدهرتْ وتنوَّعتْ أشكالها وتعدَّدتْ تجاربها طوال ما يزيد على نصف القرن العشرين، بل لقد كان جزءاً أصيلاً مِنْ تلك الحركة. ولذلك، فعندما أصيبت حركة التحرّر العربيَّة بانتكاسة خطيرة خلال الثلث الأخير من القرن الماضي وتراجع مدّها، تراجعتْ معه جذوة الحركة الفنيَّة الهائلة تلك وانطفأتْ قبل أنْ تحقِّق كامل أهدافها.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال