جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣

بدأتْ ملامح الفرز للحركة السياسيَّة المصريَّة تظهر سريعاً، وكلّ طائر راح يتعرَّف على سربه ويلتحق به. وهذا طبيعيّ ويحدث دائماً في كلّ التحوّلات الثوريَّة؛ لذلك، أعتقد أنَّ "الإخوان" وظلالهم من "المش إخوانيين" سينسون قريباً كلّ ما قالوه عن البرادعيّ مِنْ مقذع القول؛ وربَّما يصبح البرادعيّ، مرَّةً أخرى، هو مرشَّحهم الوحيد للرئاسة، ليعود عبد الرحمن يوسف القرضاويّ (ابن مفتي الناتو ما غيره) ليكون منسِّق حملته الانتخابيَّة (أعني حملة البرادعيّ)، ويعود عصام العريان ليصفه (أعني البرادعيّ أيضاً) بـ"الشمعة التي أضاءت نفقاً مظلماً" ثمَّ يعود (اسمحوا لي بتكرار كلمة "يعود" كثيراً في هذا المقام؛ لأنَّها ضروريَّة هنا). أقول: يعود عصام العريان ليدعو "النخبة المصريَّة للعمل على بقاء هذه الشمعة (البرادعيّ) مشتعلة". أمَّا الدكتور رشاد بيّوميّ، عضو مكتب إرشاد "الإخوان المسلمين"، فيعود ليقول: "ارتباطنا بالبرادعيّ ارتباط مبادئ، حيث نرى أنَّ ما ينادي به جزء مِنْ آمالنا في الإصلاح السياسيّ وتحقيق الديمقراطيَّة". في حين يعود الدكتور محمَّد جمال حشمت، عضو مجلس شورى "الإخوان" ليقول: "إنَّ البرادعيّ أعطى آمالاً عريضة للشعب المصريّ في إمكانيَّة التغيير؛ لذلك من المهمّ الالتفاف حوله والتفاعل مع ما يطرحه". ويعود القياديّ "الإخوانيّ" صبحي صالح، ليدحض أقوال المشكِّكين، فيؤكِّد  أنَّ البرادعيّ هو مرشّحهم للرئاسة؛ تماماً كما كان قد قال في أوائل نيسان 2011 في اجتماعٍ جماهيريٍّ حاشد في سوهاج، ويعود البرادعيّ ليردّ التحيَّة بأحسن منها؛ فيصف حركة "الإخوان المسلمين"، بانَّها "المعارضة الوحيدة الفعَّالة في مصر". ويقول أيضاً "إنَّ قادتها أوضحوا له أنَّهم لا يسعون إلى إيجاد دولة دينيَّة، ولكن دولة مدنيَّة تقوم على القيم الإسلاميَّة". وعندما قرَّر "الإخوان"، في اللحظة الأخيرة قبيل الانتخابات، ترشيح واحدٍ منهم للرئاسة، تنحَّى البرادعيّ جانباً ولم يرشِّح نفسه؛ لكنَّهم نسيوا تلك الواقعة (أو تناسوها) تماماً؛ فقالوا، في معرض هجومهم المكثَّف عليه مؤخّراً: كيف يصبح هذا الرجل نائباً لرئيس مصر المؤقَّت وهو لم يتجاوز في عدد الأصوات التي حصل عليها في الانتخابات الرئاسيَّة النصف مليون صوت! (وهذه ربَّما كانت المرَّة الأولى التي يحصل فيها رجل على نصف مليون صوت وهو لم يرشِّح نفسه).
على أيَّة حال، حين تتعامل الحركة السياسيَّة بمرونة شديدة مع المبادئ والقيم والأخلاق، ويكون الثابت الوحيد لديها هو الوصول إلى السلطة بأيّ ثمن، فإنَّه يُتَوقّع منها كلّ شيء، بما في ذلك اقتراف الكذب في كلّ لحظة، كما هو الحال مع كذبة أصوات البرادعيّ. وهذه الكذبة، بالذات، تذكِّرني بنكتةٍ شهيرة تتحدَّث عن أحد الكذّابين المحترفين الذي راح يروي لبعض جلسائه، بأسلوب مسهب ومثير، كيف أنَّه ذهب ذات يوم للصيد فاصطاد غزالاً وحمله على ظهره واضعاً أحد فخذيه على كتفه الأيمن والفخذ الآخر على كتفه الأيسر.. وعندما بلغ هذه المرحلة من القصَّة، دخل على المتسامرين رجلٌ آخر، فقاموا له، ورحَّبوا به، وأجلسوه بينهم. وبعدئذٍ، طلبوا مِنْ محدِّثهم أنْ يكمل قصَّته، لكنَّه، لسوء حظِّه، كان قد نسي ما كان يرويه لهم؛ فسألهم قائلاً: ما آخر ما رويته لكم من القصَّة؟ قالوا: كنت تقول إنَّك وضعتَ فخذاً على كتفك الأيمن والثاني على كتفك الأيسر. فقال: نعم، نعم، هذا صحيح. ثمَّ شرع يحدِّثهم بطلاقة عن قصَّة أخرى مختلفة تماماً لا نستطيع أنْ نسردها هنا.
ونعود، الآن، لنقتبس، ما قاله ماركس في كتابه "الثامن عشر مِنْ برومير بونابرت"، وهو بالمناسبة كتابٌ ممتع وعميق يتحدَّث عن رئيس وصل إلى السلطة عبر صندوق الاقتراع لكنَّه عمل كلّ ما بوسعه مِنْ أجل إقامة نظام ديكتاتوريّ مستبدّ بدلاً مِنْ أنْ يواصل البناء على قواعد الديمقراطيَّة: "يقول هيغل في مكانٍ ما إنَّ جميع الأحداث والشخصيَّات العظيمة في العالم تظهر، إذا جاز القول، مرَّتين. وقد نسي أنْ يضيف: المرَّة الأولى كمأساة والمرَّة الثانية كمسخرة".
ونستدرك، هنا، قائلين: هذا عندما تتعلَّق المقارَنة بشخصيَّات مِنْ وزن نابليون الصغير، مثلاً، وعمّه نابليون بونابرت؛ فكيف يكون الحال، إذاً، عندما تتعلَّق بتكرار أحداث أبطالها مِنْ وزن عصام العريان ومحمَّد البرادعيّ (ومحمَّد مرسي).
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال