جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣

أنا مدمن جدّاً، هذه الأيَّام، على متابعة قنوات الشبكات الفضائيَّة المصريَّة. والمشكلة هي أنَّني أضطرّ للسهر كلّ ليلة حتَّى الصباح وأنا أتنقَّل بينها: سي. بي. سي؛ القاهرة والناس؛ المحور؛ النهار؛ دريم؛ الحياة؛ أون تي في؛ النيل؛ القاهرة؛ المصريَّة؛ التحرير؛ وصدى البلد.. الخ؛ ومحطَّات المحافظات والأقاليم: الصعيد، والاسكندريَّة، والدلتا، والقنال، وطيبة، ومصر الزراعيَّة.. الخ. 


لقد نشأتُ في طفولتي على محطَّات الإذاعة المصريَّة في عهد الزعيم العربيّ الخالد جمال عبد الناصر: البرنامج العامّ، والبرنامج الثاني، والشرق الأوسط، وصوت العرب.. الخ؛ كانت تلك المحطَّات تقود، آنذاك، حركةً ثقافيَّة عارمة، وتنشر مبادئ وقيم ثوريَّة وتنويريَّة رفيعة. لذلك، كنتُ أسهر حتَّى ساعة متأخِّرة من الليل، أيضاً، لمتابعة برامجها، فأستمتع بما أسمعه منها، وأستفيد بما تبثّه مِنْ معلومات قيّمة وأفكارٍ عميقة وثقافة رفيعة.

ثمَّ، فجأة، بعد سياسات السادات التراجعيَّة عن مبادئ ثورة تمّوز (يوليو) الناصريَّة، انتهت الحفلة، وأُسدِلَت الستارة. وعندما ذهبتُ إلى مصر، للمرَّة الأولى، مع عائلتي، عام 1998، رحتُ أبحث، في القاهرة والاسكندريَّة، عن الأماكن التي تعرَّفتُ عليها وأحببتها بواسطة الإذاعات المصريَّة؛ لكنَّني لم أجدها. وبعد سقوط حسني مبارك بثلاثة أيَّام كنتُ في القاهرة مجدّداً، فدعاني صديقي الأديب المصريّ المعروف محمّد سلماويّ (رئيس اتِّحاد كتّاب مصر والأمين العامّ للاتِّحاد العامّ للأدباء والكتّاب العرب) لحضور لقاء للكتّاب والأدباء والمثقَّفين المصريين مع شباب انتفاضة 25 كانون الثاني (يناير) في مقرّ اتَّحاد كتّاب مصر. وصلتُ متأخِّراً قليلاً، فجلستُ في القاعة، وكان شباب الثورة على المنصَّة يحيطون بسلماويّ، ورحتُ ألتقط صور فيديو لكلّ ما كان يدور حولي وكلّ ما كان يُقال، إلى أن انتهى المتحدّثون مِنْ أحاديثهم، وعندئذٍ، فوجئتُ بسلماويّ يدعوني إلى المنصَّة لإلقاء كلمة ارتجاليَّة في الحضور. فوجدتني أتحدَّث، بعفويَّة وسلاسة وتدفّق عن الحدث العظيم الذي مثَّلته انتفاضة كانون الثاني (يناير). ولقد قلتُ كلاماً كثيراً، في هذا المجال، لكنَّه كان حارّاً وصادقاً؛ وأتذكَّر، بشكلٍ خاصّ، أنَّني قلتُ: منذ سنوات وأنا آتي إلى مصر، فأبحث عن صورتها الجميلة المشرقة التي انطبعتْ في مخيَّلتي منذ أيَّام طفولتي؛ لكنَّني لم أكن أجدها، وهذه المرَّةً، فقط، ما إنْ وصلتُ مطار القاهرة مع وفدٍ نقابيّ أردنيّ، حتَّى وجدتها؛ حيث اُستُقبِلنا، عند بوَّابة الخروج، بالورود؛ فقد كُنّا الوفد الوحيد من العالم العربيّ وسواه الذي خاطر بالذهاب إلى القاهرة في تلك الفترة. وعندما ذهبنا إلى فندق سميراميس العريق، فُتِح الفندق مِنْ أجلنا، وبدأ العاملون، بعد وصولنا، بتنظيف الطبقة الكثيفة من الغبار، التي كانت تغطّي رخام بهوه. كان الناس، آنذاك، مستبشرين ومتفائلين، وكان الجميع يتمسَّح بشباب الثورة، بما في ذلك "الإخوان المسلمون"، الذين دعونا إلى الغداء في نادٍ على النيل وبدوا فخورين بأنَّهم استضافوا اثنين مِنْ شباب الثورة (كانا شابّاً وفتاة يساريّين، وكانت الفتاة "سافرة") للحديث إلينا عن دوريهما في الانتفاضة.

بعد ذلك، عندما التفّ "الإخوان" على المسار الثوريّ المبشِّر لانتفاضة 25 كانون الثاني (يناير)، وتعاملوا كما لو أنَّ الناس لم يخرجوا إلى الشوارع ويبذلوا كلّ تلك التضحيات الفادحة إلا ليمكِّنوا "الإخوان المسلمين" من السلطة ويتيحوا لهم الانفراد بها بدلاً من مبارك وجماعته.. وعلى نحوٍ أسوأ بكثير. عندئذٍ، انطفأ كلّ شيء.. تماماً كما حدث في عهد السادات؛ بل أسوأ أيضاً؛ لكنَّ الشعب المصريّ العظيم.. شعب سيّد درويش وأمّ كلثوم وعبد الحليم حافظ وجمال عبد الناصر ونجيب محفوظ وأحمد عرابي وشهدي عطيَّة الشافعيّ وسواهم من الكبار، هو شعبٌ حيّ ومتحضِّر وقد عرف طريقه وامتلك زمام أمره؛ لذلك، سرعان ما خرج إلى الشوارع لاستعادة مساره الثوريّ والسير على طريق حريَّته وتقدّمه واستقلاله.

والمشكلة أنَّني، الآن، أسهر حتَّى ساعة متأخِّرة من الليل في متابعة الفضائيَّات المصريَّة؛ حوارات كثيرة راقية وعميقة، وأداء إعلاميّ حِرَفيّ متفوِّق، وروح وطنيَّة (وقوميَّة) واعية. وكثيراً ما يُستعاد عبد الناصر، بإجلالٍ كبير، في هذه المحطَّة أو تلك. وكثيراً ما أسمع كلاماً عن العزَّة الوطنيَّة والتمسّك الشديد بالاستقلال والتحرّر، في سياق خطاب مدنيّ متحضِّر؛ فأشعر أنَّ مصر تقود قطار الحضارة والكرامة العربيَّة مجدّداً؛ فأهتف مِنْ أعماق قلبي: عاشت مصر.. عاشت مصر.

ثمَّ أرى (وأسمع) الهجمة الظالمة التي يشنّها البعض لدينا على الإعلام المصريّ؛ فأندهش.. خصوصاً أنَّ هؤلاء أنفسهم يأخذون رواية الإعلام "الإخوانيّ" ورواية الجزيرة، بكلّ جدّيَّة ويبنون مواقفهم عليهما. فهل أنا بحاجة للتعريف بالإعلام "الإخواني" وبالجزيرة؟

أشقّاؤنا المصريّون مشغولون، هذه الأيَّام جدّاً بأنفسهم، فخورون إلى أبعد حدّ بمكانة بلدهم العظيمة التي أعادوا اكتشافها، ومصمِّمون على عدم العودة إلى الوراء مهما كان الثمن؛ لذلك – وهذا مِنْ حسن الحظّ - فإنَّهم لا يسمعون شيئاً، البتَّة، من طنين الدبابير البائس والمتخلِّف الذي يُثار خارج بلادهم.. ضدَّهم وضدّ انتفاضتهم العظيمة.

أكاد أُشفق على الذين يقفون ضدّ مصر، في نهوضها الثوريّ الحاليّ العارم؛ فمعركتهم، هذه، خاسرة.. لا محالة.
تعليق واحد
إرسال تعليق

  1. عديمو المبادئ، مزدوجو المعايير...

    في ميدان التحرير ثورة شعبية مباركة، أما ملايين رابعة العدوية فلا شرعية لهم عندكم حتى لو رفعوا أعلامكم الحمراء القبيحة.

    تعادون الإسلام السياسي في مصر و الأردن و سوريا، و تُسَخرون أقلامكم لخدمة الإسلام الصفوي.

    عجيبٌ أمركم!

    ردحذف

إعلان أسفل المقال