جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣
يتأثَّر الإنسان بشخصيَّات معيَّنة في مراحل مختلفة مِنْ حياته، وقد تكون هذه الشخصيَّات مِنْ أقربائه أو مِنْ بلده؛ شخصيَّات معروفة في محيطها الاجتماعيّ المحدود فقط، ولكنّها ذات تأثير مميَّز في هذا المحيط.. وحتَّى لو كان تأثيرها على شخص واحد فإنَّ هذا لا يقلِّل مِنْ قيمته الإنسانيَّة؛ وشخصيَّات عامَّة ذات قيمة وطنيَّة أو إنسانيَّة.. ولها تأثير على عدد كبير من الناس.

وبالنسبة لكاتب هذه السطور، فقد تحدَّث في أكثر مِنْ مقابله مع صحف محليَّة أو عربيَّة، وفي أكثر مِنْ مقالة له، عن التأثير العميق لثلاث شخصيَّات إنسانيَّة في حياته وكتابته ووجدانه: جَدّه، المرحوم موسى دعّاس القبيلات، والثائر الأمميّ العظيم آرنستو تشي غيفارا، والكاتب الأميركيّ آرنست همنغواي. أثَّر بي جدّي بتفكيره المنطقيّ، وحجَّته القويَّة، وأسلوبه المميَّز في سرد الحكايات المستندة إلى وقائع حقيقيَّة، ونبذه للخرافات  وقصصها وادِّعاءات الناس بشأنها؛ رغم أنَّه لم يكن يقرأ ويكتب ولم يذهب في حياته إلى مدرسة.

كان جدِّي "حَجيجاً" بمصطلحات القضاء العشائريّ، أي محامٍ بلغة القضاء المدنيّ. وكانت له صولات وجولات في الدفاع عمَّن كانوا يوكِّلونه للدفاع عنهم، يعتمد فيها على قوَّة المنطق، ولباقة الحديث، ومتانة السرد القصصيّ وطرافته، وسعة الخيال، وشدَّة الفراسة. 

أمَّا همنغواي، فقد سحرني أسلوبه المميَّز في كتابة الروايات والقصص، المعروف بـ "تكنيك جبل الجليد العائم"، حيث أنَّ ما يظهر مِنْ ذلك الجبل فوق سطح الماء هو خُمْسُه أمَّا الباقي فهو مختفٍ تحت السطح، ومن المفروض أنْ يوحي الجزء الصغير الظاهر بالجزء الكبير المخفيّ. 

ولقد أثار همنغواي إعجابي وبهرني بأسلوبه، ذاك، منذ أوّل رواية قرأتها له وهي "لمن تُقرع الأجراس"، وكان ذلك في مرحلة مبكِّرة مِنْ حياتي. 

وأعتقد الآن أنَّ ما تعوَّدتُ عليه مِنْ أسلوب جدّي في سرد الحكايات الذي يركِّز على الوصف الخارجيّ للحدث وأماكنه، وللشخصيّات، والظروف، والأحوال، والذي يضعك في الجوّ الشعوريّ للموقف الحكائيّ بدلاً مِنْ أنْ يحدِّثك عنه أو يصفه وصفاً مباشراً أو يكتفي بتسميته.
وهذه نفسها بعض خصائص أسلوب همنغواي. 

أمَّا غيفارا، فقد فُتِنتُ بإخلاصه الشديد لمُثُله الثوريَّة، وبمأثرته البطوليَّة، وبأمميَّته الحقيقيَّة، وبنكرانه لذاته، وزهده بالمناصب وبمغريات الحياة. 

كان غيفارا، بعد انتصار الثورة، الرجل الثاني في الدولة الكوبيَّة، وواحداً مِنْ أبرز صانعي انتصارها. ومع ذلك ترك مناصبه الرسميَّة الرفيعة، وذهب إلى الكونغو (في إفريقيا)، بلد القائد التقدّميّ المعروف باتريس لوممبا، الذي اغتالته السي. آي - أيه ونصَّبتْ بدلاً منه عميلها الدمويّ (المجاهد الذي سينتصر ثمَّ ينتصر مِنْ دون أنْ يستطيع أحد إيقافه)، موبوتو سيسي سيكو.. الخ، ليشارك في الثورة هناك ضدّ الهيمنة الأميركيَّة وأدواتها.

وعندما وجد قائد تلك الثورة مجرَّد شخص "منقوع بالوسكي"، ولا أمل منه، غادر الكونغو إلى بوليفيا في أميركا اللاتينيَّة. وهناك قاد مجموعات ثوريَّة مسلّحة لمحاربة الهيمنة الإمبرياليَّة في ذلك البلد، إلى أنْ تمكَّن الأميركيّون مِنْ أسره وهو مصاب في معركة غير متكافئة بين قوّاته محدودة العدد والعدّة، وقوّاتهم بأعدادها الكبيرة وأسلحتها المتطوِّرة، ثمَّ أعدموه وأخفوا قبره، الذي ظلَّ مكانه لغزاً حتَّى أواخر تسعينيّات القرن الماضي؛ حيث تمَّ العثور عليه ونقل جثمانه، في مشهدٍ مؤثِّرٍ جدّاً، إلى كوبا وأعيد دفنه، باحتفالٍ كبير، في مدينة سانتا كلارا التي كان قد قاد فيها واحدةً مِنْ أبرز المعارك الفاصلة في الثورة الكوبيَّة.

ولي قصَّة في كتابي "بعد خراب الحافلة" اسمها "بيت الطفولة القديم"، كُتِبَت بتأثير الحالة الشعوريَّة التي بعثها في نفسي ذلك الحدث المؤثِّر، رغم أنَّها في الظاهر لا علاقة لها به. 

وهكذا، فأنا لم أدخل الكتابة الأدبيَّة مِنْ باب ما كان يُسمَّى بـ"الواقعيَّة الاشتراكيَّة"، أو "الواقعيَّة الجديدة"، بل مِنْ باب واقعيَّة همنغواي، الأكثر رحابة والأكثر شكّاً ونقديَّة، وبالتالي، فقد كانت، برأيي، أكثر ثوريَّة في المجال الأدبيّ. 

ولم أتعرّف في بداياتي على التفكير الماركسيّ مِنْ خلال صيغته الستالينيَّة، كما كان شائعاً، بل مِنْ خلال أطروحات اليسار الجديد، وخصوصاً أطروحات غيفارا وكاسترو. 

وثمَّة قصَّة لي بعنوان "صدق حيويّ"، وهي موجودة في كتابي "الطيران على عصا مكنسة"، الصادر عام 2009، أتحدَّث فيها عن هذه الشخصيّات الثلاث التي كان لها تأثير حاسم في حياتي منذ طفولتي المبكِّرة.
أكتب ذلك بمناسبة مرور ذكرى ميلاد غيفارا الأسبوع الماضي (14 حزيران)، حيث احتفل بهذه الذكرى كلّ من الارجنتين، بلده الأصليّ، وكوبا التي شارك في ثورتها وكان مِنْ أبرز قادتها، وبوليفيا التي قاتل مِنْ أجل تحرّرها وأُستُشهد على أرضها.. 

سمعتُ  بغيفارا لأوَّل مرَّة في طفولتي المبكِّرة في قريتي (مليح)، وهناك قرأتُ يوميَّاته التي تتحدَّث عن الثورة الكوبيَّة.. ابتداء مِنْ تجميع حلقاتها الأولى في المكسيك، ثمَّ انطلاق كفاحها في جبال السيرامايسترا وزحفها الظافر لاحقاً على بقيَّة الأراضي الكوبيَّة إلى أن استولت على العاصمة هافانا وطردت حاكمها الفاسد والمستبدّ، عميل الأميركان، باتيستا. كانت كوبا في عهد باتيستا عبارة عن وكر للدعارة والقمار للأميركيين، وأصبحتْ في عهد الثورة رمزاً للاستقلال والأمل بالنسبة لأميركا اللاتينيَّة كلّها وبالنسبة للعالم الثالث، الذي يعاني من التبعيَّة، بوجه عامّ.

ومِنْ ضمن القيم الأخرى التي تعلّمتها مِنْ غيفارا (ومِنْ لينين، أيضاً) أنَّ العداء للإمبرياليَّة هو البوصلة الصحيحة للمناضل الثوريّ الماركسيّ. وربَّما لهذا السبب بالذات (العداء للإمبرياليّة) أصبح غيفارا، خلال العقدين الأخيرين، أيقونة إنسانيَّة فاتنة تجد لها تمثيلاتٍ ورموزاً في مختلف أنحاء العالم وبمختلف الأشكال والنماذج. إذ، بعد انهيار الاتّحاد السوفييتيّ، كشفت الإمبرياليَّة وجهها البشع تماماً، متوهّمةً أنَّ بإمكانها إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء؛ إلى النمط الرأسماليّ المتوحّش الذي كان سائداً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وأفكاره الليبراليَّة المعادية للديمقراطيَّة والمفتقرة للعدالة؛ حيث من المعروف أنَّ الماركسيَّة انبثقتْ مِنْ ذلك الواقع الظالم، بالذات، ومثَّلتْ الردّ الأقوى والأعمق عليه.

ما قاتل مِنْ أجله غيفارا ورفاقه، بدأ يتحقّق خلال العقدين الأخيرين في عددٍ غير قليل مِنْ بلدان أميركا اللاتينيّة عبر صناديق الاقتراع. وتُدرك شعوب تلك المنطقة أنَّه لولا كفاح غيفارا ورفاقه الباسل لما كانت قد وصلتْ إلى لحظة انتصارها، تلك، سلميّاً. ولذلك، فإنَّ تاريخ كفاحه، وأمثولته، موضع تقديرٍ كبير هناك. يكفي أنَّ بوليفيا، البلاد التي أُستُشهد غيفارا على أرضها، انتخبتْ تلاميذه في الكفاح ومريديه، وعلى رأسهم إيفو موراليس، حكّاماً لها. 

ولذلك، ولأنَّه أصبح يمثِّل قيمةً إنسانيَّة تتجاوز حدود البلدان والثقافات والأعراق والجنسيّات، شنّ أتباع الليبراليَّة الجديدة هجوماً شرساً عليه وعلى ما يمثِّله. وقد نُشِر، لكاتب هذه السطور، قبل سنوات قليلة، مقالان في "الرأي الثقافيّ"، ردّاً على اثنين مِنْ هؤلاء (أدونيس، وماريو فارغاس يوسا)، ومنطق تفكيرهما الأحاديّ واللاتاريخيّ.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال