جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣
الرفيق أبو خليل
شرَّفني رفيقي القديم المناضل الكبير الدكتور يعقوب زيَّادين بكتابة كلمة الغلاف الأخير لكتابه الجديد "لو عادت بي الأيَّام"، الذي صدر قبل أشهر؛ وتالياً أقدّم النصّ الذي كتبتُه لهذا الغرض والذي اختار الناشر قسماً كبيراً منه ووضعه على غلاف الكتاب:

سمعتُ باسم الرفيق الدكتور يعقوب زيَّادين للمرَّة الأولى في قريتي، وكنتُ آنذاك لا أزال فتىً يافعاً وفي بداية انجذابي للفكر الثوريّ. وتكرَّستْ صورته في ذهني كنموذج حي للمناضل الثوريّ الحقيقيّ. وفي ما بعد، تشرّفتُ بالتواصل مع الرفيق أبي خليل مِنْ قُرْب في اللجنة المركزيَّة للحزب الشيوعيّ الأردنيّ، حيث كان آنذاك عضواً في كلّ من اللجنة المركزيَّة للحزب ومكتبه السياسيّ، ولكنَّه كان الأكثر بروزاً مِنْ بين رفاقه، خارج الحزب، والأكثر صلةً بالناس بمختلف فئاتهم ومختلف توجّهاتهم. كما عملتُ معه أيضاً بصورة حثيثة عندما شغل منصب الأمين العامّ للحزب. 

وفي كلّ الأحوال، عرفتُ في أبي خليل المناضل الثوريّ الصلب والشجاع والمبدئيّ، شديد الإيمان بقضيَّته والذي يكرّس لها وقته وكلَّ جهده. ومع كلّ رصيده الكفاحيّ المشرّف وكلّ ما يتمتّع به مِنْ سمعةٍ طيِّبة لدى محبِّيه وخصومه على السواء، فقد كان الرفيق أبو خليل (ولا يزال) إنساناً بسيطاً وشديد الطيبة، محبّاً لرفاقه وأصدقائه، ودوداً في تعامله مع الناس، ومنفتحاً على ممثلي مختلف التيّارات والاتِّجاهات. ولكنّه، في الوقت نفسه، شديد التمسّك بكرامته والدفاع عنها مهما كان الثمن.

وممّا يثير المزيد من الإعجاب به والاحترام والتقدير له أنَّ هذا الإنسان الكبير، هذا الرمز الوطنيّ والقوميّ والأمميّ الذي نعتزّ به، لا تزيده السنون، والإحباطات، والانتكاسات، والمحن، إلا مضاءً في ثوريَّته وثباتاً على مبادئه. ولذلك، فإنَّه وهو يحثّ الخطى نحو التسعينيّات مِنْ عمره الذي نتمنَّى أنْ يمتدّ ويمتدّ، يواصل التعبير عن مواقفه ومبادئه السياسيَّة بلا كللٍ ولا ملل؛ فكثيراً ما نراه في الاجتماعات العامَّة والنشاطات المتعلِّقة بالقضايا الوطنيَّة والقوميَّة. كما أنَّه حريص بصورة لافتة على إبداء رأيه بوساطة الكتابة تجاه كلّ الأحداث والتطوّرات المتَّصلة بها. 

وكتاب الرفيق أبي خليل، هذا، وهو الرابع الذي يصدر له في حدود علمي، يأتي ليكون سجلّاً حقيقيّاً لمواقفه وآرائه بشأن الأحداث والتطوّرات العامّة. وكان كتابهُ "البدايات" مِنْ أوائل كُتُب المذكِّرات التي كُتِبَتْ عن كفاح الحركة الشيوعيَّة العربيَّة، وهذا تعبير عن شعوره العميق بالمسؤوليَّة تجاه هذه الحركة وتجاه دوره البارز فيها.

وانطلاقاً من الشعور بالمسؤوليَّة ذاته فقد كان الرفيق أبو خليل دائماً أكثر الشيوعيين العرب تفعيلاً لمبدأ النقد الذاتي وتفاعلاً معه. فلطالما وجّه مثل هذا النقد تجاه تجربته وتجاه تجربة حزبه وتجاه تجربة الحركة الشيوعيَّة العربيَّة والعالميَّة. ومع ذلك (وربَّما لذلك)، فإنَّ موقفه مِنْ مبادئه وقيمه الثوريَّة لم يختلّ ولم يتزحزح، حتَّى بعدما انهار الاتِّحاد السوفييتيّ وانهار في إثره الكثيرون. ذلك لأنَّه كان دائماً ثوريَّاً حقيقيّاً صادقاً يعبِّر عن موقفٍ حرٍّ ومستقلّ، ولكنَّ هذا لم يكن يمنعه من الالتزام بأصول العمل الحزبيّ الجماعيّ، بل ولم يكن يمنعه من الإصغاء إلى آراء رفاقه وأصدقائه، حتَّى مَنْ يصغرونه منهم سنّاً بسنوات كثيرة، وأنْ يغيِّر رأيه بالاستناد إلى ملاحظاتهم وآرائهم إذا وجد أنَّها صائبة. 

والبُعد الإنسانيّ حاضرٌ دائماً لدى الدكتور زيَّادين، سواءٌ أكان ذلك في موقفه من الناس عموماً وملاحظته المرهفة لأشكال عذابهم وقهرهم، أو تعاطفه العميق مع رفاقه وأصدقائه وحبّه لهم، أو نظرته إلى المناضل الثوريّ كإنسان مِنْ لحم ودمّ وليس ككيانٍ مصمَتٍ أصمّ.

وبالاستناد إلى هذا الموقف الإنسانيّ نفسه، لم يكن أبو خليل يخجل بالاعتراف بنقاط ضعفه، سواء أكان ذلك عن طريق الكتابة أم عن طريق الحديث المباشر مع الرفاق والأصدقاء والناس عموماً. 

وفي هذا السياق، فإنَّ أكثر ما يشدّ قارئ  كتاب أبي خليل الأوَّل "البدايات" حديثه عن معاناته بعد خروجه مِنْ سجن الجفر والتحاقه بزوجته وأولاده في برلين حيث وجد نفسه غريباً بينهم كما هو حال حياته في إطار ذلك المجتمع المختلف عن مجتمعه، وشعر بأنَّه بلا أهميَّة وفائض عن الحاجة، ولكنَّه لم يستسلم لهذا الشعور المؤلم، ودافع بضراوة عن نفسه وعن علاقته بأسرته. 

وهكذا هو حال أبي خليل الآن، حيث انهار أو استسلم كثيرون، أمَّا هو فلا يزال متمسّكاً بالأمل في أنَّ قيم الخير والعدل والحقّ التي تمثِّلها الشيوعيَّة ستنتصر في النهاية مها كانت النكسات والاحباطات.

إنَّ هذا الإنسان الفذّ والكبير، فخرٌ لنا ولبلادنا ولكلّ الأحرار والثوريين حيثما وُجِدوا. فله منّا كلّ المحبّة والتقدير والاحترام وتمنِّياتنا بدوام الصحّة والعافية.
تعليق واحد
إرسال تعليق

  1. شكرا لك على هذه المقالة الرائعة والتي تعبر عن التقدير بالعرفان لمثل هذه الشخصيات الوطنية الانموذجشكرا لك مرة اخرى استاذي العزيز

    ردحذف

إعلان أسفل المقال