مُنى مصبِّح القبيلات ▣
فِي أُغْنِيَة "بِِقْطُفْلَكْ بَسْ هَالْمَرَّهْ، هَالْمَرَّهْ بَس"، تَتَسَلَّلُ إِلَيْنَا فَيرُوزُ، لَا كَصَوْتٍ جَمِيلٍ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا كَفَيْضٍ مِنْ مَعَانِي الْحُبّ.
الْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْأُغْنِيَة، لَا يُصَرَّحُ بِهِ مُبَاشَرَةً، بَلْ يُهْمَسُ هَمْسًا مِنْ خِلَالِ فِعْلٍ بَسِيطٍ: قَطْفِ زَهْرَةٍ.
هَذَا الْفِعْلُ الرَّمْزِيُّ يُغْنِي عَنْ كُلِّ الْكَلِمَاتِ؛ كَأَنَّهُ اخْتِصَارٌ مُكَثَّفٌ لِعَلَاقَةٍ، لِذَاكِرَةٍ، وَلِأَلَمٍ دَفِينٍ.
"بِِقْطُفْلَك" هُوَ فِعْلُ عَطَاءٍ، لَكِنَّهُ لَيْسَ عَطَاءً مُتَكَرِّرًا، بَلْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَطْ. "هَالْمَرَّهْ بَس"، تَقُولُهَا وَتُؤَكِّدُهَا، وَكَأَنَّهَا تَعْرِفُ أَنَّ الْحُبَّ لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ أَحْيَانًا.
قَطْفُ الزَّهْرَةِ هُنَا لَا يَعْنِي مُجَرَّدَ هَدِيَّةٍ؛ بَلْ هُوَ تَضْحِيَةٌ؛ اقْتِطَاعُ جُزْءٍ مِنَ الْجَمَالِ لِإِيصَالِهِ إِلَى مَنْ تُحِبُّ.. حَتَّى وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْجَمَالُ سَيَمُوتُ بِمُجَرَّدِ قِطَافِهِ.
وَهُنَا يَكْمُنُ التَّنَاقُضُ الْفَلْسَفِيُّ: الْحُبُّ يُرِيدُ أَنْ يَمْنَحَ، لَكِنَّ الْعَطَاءَ نَفْسَهُ قَدْ يُفْسِدُ مَا يُعْطَى. كَالزَّهْرَةِ، حِينَ تُقْطَفُ، تَفْقِدُ جُذُورَهَا.
هَذَا الْقِطَافُ لَيْسَ عَشْوَائِيًّا؛ إِنَّهُ اخْتِيَارٌ وَاعٍ، لِفِعْلٍ صَغِيرٍ مُحَمَّلٍ بِمَعْنًى كَبِيرٍ. "شِيْ زَهْرَهْ حَمْرَا"، تَقُولُ. وَاللَّوْنُ الْأَحْمَرُ، هُنَا، لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ، فَهُوَ لَوْنُ الْحُبِّ، الدَّمِ، الْقَلْبِ، وَرُبَّمَا الْوَدَاعُ.
وَفِعْلُ "بَسْ" هُوَ الَّذِي يُوقِعُ هَذِهِ الْحَرَكَةَ، يُعْطِيهَا إِطَارَهَا الزَّمَنِيَّ الْأَخِيرَ. هُوَ لَا يَقُولُ "أُحِبُّكَ"، فَقَطْ؛ بَلْ، أيضاً، "هَذِهِ آخِرُ مَرَّةٍ أُعَبِّرُ فِيهَا عَنِ الْحُبِّ".
"بُكْرَهْ بَس"، تَضَعُ الْمَوْعِدَ فِي الْغَدِ، وَلَيْسَ الْيَوْمَ. وَهَذَا أَيْضًا غَنِيٌّ بِالْمَعْنَى: كَأَنَّهَا تُؤَجِّلُ الْمُوَاجَهَةَ، تُؤَجِّلُ الْعَطَاءَ، تُؤَجِّلُ حَتَّى الْفَقْدَ.
"بُكْرَهْ"، لَيْسَتْ زَمَنًا فَقَطْ؛ بَلْ، أيضاً، مِسَاحَةٌ نَفْسِيَّةٌ لِلْهُرُوبِ الْمُؤَقَّتِ، لِلْأَمَلِ الْقَصِيرِ، لِلْوَعْدِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ إِنْ كَانَ سَيَتَحَقَّقُ.
الْجَمَالُ الْمُؤَقَّتُ، الْعَابِرُ، الْهَشُّ، هو كَمَا الْعَلَاقَاتُ؛ كَمَا الْمَشَاعِرُ الَّتِي لَا تَجِدُ مَكَانًا تَعِيشُ فِيهِ طَوِيلًا.
حِينَ تَقُولُ فَيرُوزُ: "بِِقْطُفْلَك شِيْ زَهْرَهْ حَمْرَا"، فَهِيَ لَا تَمْنَحُ زَهْرَةً فَقَطْ؛ بَلْ تَمْنَحُ لَحْظَةً، تَمْنَحُ ذَاكِرَةً سَتَذْبُلُ كَزَهْرَةٍ، لَكِنَّهَا لَنْ تُنْسَى.
"بِِقْطُفْلَك بَسْ هَالْمَرَّهْ" لَيْسَتْ أُغْنِيَةً عَنِ الْحُبِّ فَقَطْ؛ بَلْ أيضاً عَنْ مَحْدُودِيَّتِه، عَنِ الْحَنِينِ الَّذِي لَا يَجِدُ طَرِيقَةً لِيَعِيشَ، فَيُتَرْجَمُ بِفِعْلٍ رَمْزِيٍّ عَابِرٍ.
فَيرُوزُ لَا تُغَنِّي الزَّهْرَةَ، بَلْ تُغَنِّي الْحَيَاةَ الَّتِي نَمْنَحُهَا لِلْآخَرِينَ رَغْمَ عِلْمِنَا بِزَوَالِهَا؛ تُغَنِّي عَنِ الْحُبِّ الَّذِي لَا يَصْرُخُ، بَلْ يُهْمَسُ: "هَالْمَرَّهْ بَس" - وَكَأَنَّهَا تَقُولُ لَنَا، بِبَسَاطَةٍ جَارِحَةٍ: إِنَّهُ، حَتَّى أَعْذَبُ المشَّاعِرِ، لَا تُمْنَحُ إِلَى الْأَبَدِ.