جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

مُنى مصبِّح القبيلات ▣

Love Me Today and Forget Me Tomorrow: Reflections on the Fragility of the Human Heart.


"حِبْنِي اليوم... وِنْساني بُكرا "

جُمْلةٌ موجِعَةٌ، تَمُرُّ كما لو أنَّها شتيمةٌ ناعمةٌ أو وصيةٌ متعبَة. لكن، مَنْ يُنْصِت لها جيداً، يسمعُ خلفَها صرخةً وجوديّةً، واعترافاً مُرّاً بأنَّ الحُبَّ ـ حتى الحُبّ ـ لا ينجو من الزوال.

نحنُ مخلوقاتٌ تمشي على خيطِ الوقت، نحملُ قُلوباً تُضْرَمُ فيها العواطفُ بسرعة؛ لكنها، أيضاً، تُطفأُ بسهولة. نُحِبُّ اليومَ بجنون، ونغادرُ غداً بصمت. نَعِدُ، في لحظةِ نشوةٍ، ألَّا نفترق، ثُمَّ نحذفُ الرسائلَ ونَحْجِبُ الوجوهَ كأنَّ شيئاً لم يكن.

"حِبْنِي اليوم وِنْساني بُكرا " ليست دعوةً للخِذْلان؛ بل هي وعيٌ مسبقٌ به. كأنَّ المتكلمَ يقول: أعرفُكَ... أعرفُ أنكَ ستتغير، كما كل شيء؛ فدعنا نحيا اللحظةَ كما لو أنَّها الومضةُ الأخيرةُ؛ بلا أوهامٍ؛ بلا مستقبلٍ مُعَلَّقٍ على وهمِ الاستمرارِ.

الحُبُّ، في هذه العبارة، لا يُطلَب كأبدية؛ بل كلحظةٍ كاملةٍ، ناضجةٍ، مُشْبَعَةٍ بالحضور.. لحظةٍ لا تَشْحَذُ الغدَ، بل تعترفُ أنَّه قد لا يأتي، أو قد يأتي على هيئةِ غريبٍ لا يعرفُ كيف يَتَهَجَّى اسمكَ الذي كان يَهمسُ به ذات مساء.

في "حِبْنِي اليوم وِنْساني بُكرا " شيءٌ مِنَ العبثِ، وشيءٌ مِنَ الحكمةِ؛ شيءٌ مِنْ مرارةِ العابرينَ الذين تعبوا مِنَ الوعودِ الطويلةِ، واكتفوا مِنَ الحُبِّ بالقَطْرَةِ التي تَروي دونَ أَن تُغْرِق، وبالدفءِ الذي لا يُلهبُ. فيها نُضْجُ مَنْ تَعَلَّمَ أنَّ الحُبَّ ليس مشروعاً للاستحواذِ؛ بل فِعْلُ عطاءٍ مؤقتٍ، لا يربطُه ضمانٌ، ولا يُثْبِتُه توقيعٌ.

هي ليست استسلاماً، بل تمردٌ ناعمٌ على وَهْمِ الاستمراريّةِ.

ففي عالمٍ يصدأُ فيه الحُبُّ تحتَ وطأةِ التَّكرارِ؛ وفي زمنٍ يَفرغُ فيه المعنى مِنْ كثرةِ الاستخدامِ، يُصبِحُ أجملَ ما في العاطفةِ أنْ تكونَ حاضرةً بكامِلِها في اللحظةِ؛ بلا تخطيطٍ، بلا أملٍ، بلا خوفٍ مِنَ الغدِ.

ربّما هي فلسفةُ المتألِّمِين الذين أحبّوا بصدقٍ ثُمَّ أُهْمِلوا، فصاروا أكثرَ حذراً، وأقلَّ تصديقاً، لكنهم لا يزالونَ يُحِبُّون، فقط بشروطٍ أكثرِ وعياً، وأكثرِ قسوة.

وقد تكون هذه العبارة، أيضاً، نداءً صامتاً للمُحبّ "لا تعدني... فقط كن هنا، الآن. أمسكني بعينيك، أنصِت إلى قلبي، وامنحني حضوركَ الكامل. أما غداً؟ فدعه للرياح، أو للنسيان..... "

"حِبْنِي اليوم وِنْساني بُكرا".. إنَّها، أيضاً، عبارةٌ مؤلمة، فيها شُبهةُ يأسٍ، أو تجربةٌ قديمةٌ علَّمت صاحبَها أنَّ "الغدَ" خائنٌ محترفٌ. ربما قيلت بعد خذلان، بعد أنْ ثبتَ أنَّ الذاكرةَ ليست مأوىً صالحاً للحُبِّ، وأنَّ مَنْ أَحَبَّكَ بالأمسِ، قد يمرُّ بك اليومَ دون أنْ يُسَلِّم.

إنها ليست يأساً؛ بل حكمةُ المغلوبين على قلوبهم.

وفي النهاية...

نحن لا نخافُ مِنَ الحبّ، بل مِنْ تَغَيُّرِ مَنْ نُحبُّ؛ مِنْ تَبَدُّلِ ملامحِه حين يَبْتَعِدُ؛ مِنْ بُرودةِ يديهِ حين يصبحُ الآخَرُ مجردَ ذكرى.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال