جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣
الاشتراكيَّة وثورة أُكتوبر.. بعد انهيار الاتّحاد السّوفييتيّ
تقوم المقاربة الأكثر رواجاً لانهيار الاتّحاد السَّوفييتيّ على النَّظر إليه كإعلانِ فشلٍ مدوٍّ ومطلق لثورة أكتوبر (تشرين الأوّل) السّوفييتيّة. وبعد ذلك، لا يبقى للباحث أو الدَّارس إلا استعادة المفاصل الأساسيّة لتاريخ الاتّحاد السّوفييتيّ (وثورة أكتوبر/تشرين الأوَّل) وترجمتها إلى لغةٍ ملائمة لهذا السِّياق. 

المقاربة التي أتقدَّم بها هنا تقوم على النَّظر إلى ثورة أكتوبر/تشرين الأوّل بوصفها جزءاً مِنْ سياقٍ تاريخيٍّ طويل وتدشيناً له، وليس بوصفها حدثاً طارئاً ومقحماً على التَّاريخ ومعزولاً عن سياقه. 

وإذا تجاوزنا بنظرنا حدود اللحظة التَّاريخيّة الَّتي نعيشها الآن. ونظرنا إلى التَّاريخ نظرة بانوراميّة شاملة وليس كمَشاهِد متناثرة لا صلة بينها. فإنَّنا سنرى أنَّ المسار الَّذي دشّنته ثورة أكتوبر (تشرين الأوّل) لا يزال يتفاعل وأنَّ جدول الأعمال المطروح على البشريّة لا يزال في خطوطه الرَّئيسة هو نفسه. 


لحظة موت أم لحظة ولادة؟ 

في مسرحيّة «ماركس في سوهو»، للكاتب والمؤرِّخ الأميركيّ هوارد زِن، الَّتي نُشِرَتْ وعُرِضَت في أواسط تسعينيّات القرن الماضي.. أي بعد انهيار الاتّحاد السّوفييتيّ، يقول ماركس المستعاد في المسرحيّة: «كنتُ أقرأ صحفكم (...). تدَّعي كلُّها أنَّ أفكاري قد ماتت! لا جديد في هذا. ما فتئ أولئك المهرِّجون يردِّدون هذا منذ أكثر مِنْ مائة سنة. ألا تتساءلون: ما الَّذي يجعل مِنْ إعلان موتي مراراً وتكراراً شيئاً ضروريّاً بالنِّسبة لهم؟». 

وهذا ينطبق أيضاً على الموقف من الاتّحاد السوفييتيّ وثورة أكتوبر (تشرين الأوّل) الاشتراكيّة.. إذ لا يزال كمّ هائل من الكلام يُكتَب أو يٌقال أو يُعرَض مصحوباً بالصّور الثَّابتة والمتحرّكة، في سياق المسعى المثابر والدَّؤوب لتأكيد موت كلّ القيم والمبادئ والأفكار التي ارتبطت بهما. وفي النِّهاية، تصل ترجمة تلك الجهود الحثيثة إلى الجهلاء والسُّذج، مِنْ أتباع هذا الفريق، على النَّحو التَّالي: الشّيوعيّة ماتت في بلادها؛ فلماذا تواصلون التَّمسّك بها؟ 

حسناً! إذا كانت الشّيوعيّة قد ماتت، فلماذا تشغلون بالكم بها إذاً؟ ولماذا يصيبكم الانفعال والتَّوتّر كلّما ذُكِرَ اسمها؟ 

وبعد انهيار الاتّحاد السّوفييتيّ، لم يعد إعلان دفن الشّيوعيّة حكراً على أعدائها التَّقليديين، بل أُضيف إليهم جيشٌ من «الشّيوعيين التَّائبين» الَّذين يرطنون بمفردات ماركسيّة ويلوون أعناق المفاهيم الماركسيّة، لكي يقولوا إنَّ الشيوعيّة ماتت (بل والماركسيّة أيضاً). 

ينطبق على هؤلاء قول تروتسكي: «.. وعندما يتبدَّل الرِّجال، فإنَّهم كثيراً ما يتخلّون عن المفاهيم بسهولة أكبر ممَّا يتخلّون عن الكلمات الَّتي اعتادوا عليها». 

وهؤلاء «التَّائبون» لا يتركون ذريعةً سانحة، مهما كانت تافهة، إلا واستخدموها ضدّ الشّيوعيّة. أُنظروا، على سبيل المثال، كيف تعامل عددٌ مِنْ مَنْ كانوا يُعتبَرون شيوعيين بارزين (وأحدهم كان قائداً بارزاً في الحركة الشّيوعيّة العربيّة)، مع وصيّة بليخانوف المزعومة. لقد قفزوا عن كلّ ثرثراتهم السَّابقة في شأن التَّفكير العلميّ والأساليب العلميّة، وتعاملوا مع «الوصيّة» المزعومة تلك كوثيقة صحيحة لا يرقى إليها الشَّكّ، واستخدموها – مِنْ دون أنْ يرفّ لهم جفن – لإعلان بطلان أفكار لينين والطَّعن في شرعيّة ثورة أكتوبر (تشرين الأوّل). 


آراء في شأن انهيار الاتّحاد السّوفييتيّ 

كُتِبَ الكثير عن الانهيار الكبير والمدوِّي للاتِّحاد السّوفييتي، ولكن معظم تلك الكتابات صيغ بلغةٍ أيديولوجيَّة تتوخَّى تعزيز تصوّراتٍ مسبقة. وسنصنِّفها هنا على النَّحو التَّالي: 


أ - رأي منظّري الغرب الرّأسماليّ 

وجد منظِّرو الغرب الرّأسمالي، في انهيار الاتّحاد السّوفييتيّ، فرصتهم السَّانحة لتصفية حسابهم الطَّويل مع ثورة أكتوبر (تشرين الأوّل) والشّيوعيّة، فشنّوا حملة أيديولوجيَّة مكثَّفة هدفها ليس فقط الشَّماتة بعدوٍّ انهزم، ولكن أيضاً تعزيز الموقف المعنويّ والسِّياسيّ للنِّظام الرَّأسماليّ العالميّ، وإحباط أيّ تفكير، أو أمل، لدى شعوب العالم الثَّالث أو فقراء المراكز الرَّأسماليَّة، بإمكانيَّة التَّغيير والخلاص من الظّلم الاجتماعيّ والسِّياسيّ والاقتصاديّ الَّذي تمثِّله الرَّأسماليَّة

وهكذا سارع منظِّرو البنتاغون إلى الإعلان بصيغة دراماتيكيّة أنَّ الرَّأسماليّة بصيغتها المتوحِّشة هي نهاية التَّاريخ. ولكي تكتمل هذه الأطروحة، بحثوا عن نمطٍ آخر من الصِّراع ليحلّ محلّ الصِّراع الطَّبقيّ ويلغيه؛ فتوصَّلوا إلى ما أسموه صراع الحضارات. وفي طريقهم إلى ذلك، اضطرّوا للوقوع في مغالطة كبرى؛ بتسميتهم الثَّقافات حضارات! 

والواقع أنَّ العالم الآن (وحتَّى عندما كان الاتِّحاد السّوفييتيّ، بمنظومته الاشتراكيّة، قائماً) يخضع لهيمنة حضارة واحدة هي الحضارة الرَّأسماليَّة

أمَّا النَّظر إلى التفاوت في التَّطوُّر بين المجتمعات على أنَّه تعبير عن حضارات مختلفة، فهو ينمّ إمَّا على جهل أو على سوء نيَّة. فالتَّفاوت قانون أساسيّ مِنْ قوانين الرَّأسماليَّة، سواء أكان ذلك على مستوى البنية الاجتماعيَّة الاقتصاديَّة للمراكز الرَّأسماليَّة نفسها، حيث يتمّ تهميش (وإقصاء) فئات اجتماعيَّة معيَّنة، أو على مستوى النِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ ككلّ؛ حيث يتمّ إقصاء شعوب بكاملها وتهميشها. 

ومثلما أنَّ التفاوت الاجتماعي في الدَّولة الواحدة لا يصنع نظامين اجتماعيّين مختلفين، بل نظاماً واحداً يقوم على الانقسام والتَّفاوت الطَّبقي، فكذلك الأمر في ما يتعلَّق بانقسام النِّظام الدَّولي إلى مراكز وأطراف

وفي واقع الأمر، فإنَّه حتَّى الاتِّحاد السّوفييتي نفسه، على ما كان بينه وبين الغرب مِنْ تناقض وصراع محتدم، لم يكن يمثِّل سوى حالة تمرُّد كبرى في إطار النِّظام، وليس نظاماً آخر. فالعالم بمجمله كان – آنذاك – مثلما هو الآن، محكوماً بقوانين الرَّأسماليَّة وليس بأيّ قوانين أخرى. 


ب - رأي التَّائبين 

الشّيوعيّون الَّذين قفزوا إلى خندق الليبراليّة وأداروا ظهورهم لمبادئهم السَّابقة ولرفاق الأمس، بنوا موقفهم على أساس الاستنتاج بأنَّ التَّجربة كلّها، والفكرة بمجملها، إنَّما هي خطأ تاريخيّ. إذ لو لم تكن كذلك لكسبت الصِّراع. 

وهذا تفكير انتهازيّ نفعيّ؛ يعتقد أصحابه أنَّ الحقّ دائماً مع الفريق الكاسب، ويعتبرون أنَّ المعيار الحقيقيّ لصحَّة الأفكار هو كسبها للصِّراع، أمَّا إذا لم تكسبه، فهي على خطأ ولا تستحقّ أن يتبنَّاها أحد ويدافع عنها. والموقف الصَّحيح، في هذه الحالة، هو القفز إلى الخندق الآخر والشّروع بالقتال منه ضدَّ رفاق الأمس. 

ولو كان هذا التَّفكير صحيحاً، لكان التَّاريخ قد انتهى منذ زمنٍ طويل.. وبالتَّحديد، منذ حَسْمِ أوَّل حالة صراع شهدها المجتمع البشريّ. ولَمَا حدث بعد ذلك أيُّ تطوُّرٍ ولما حدث أيُّ تغيير. ولكان أبطالٌ تحتلّ أسماؤهم مكانةً رفيعة عبر الأزمنة والأمكنة.. مثل سبارتاغوس، على سبيل المثال، ويوسف العظمة وسواهما، مجرَّد حمقى أخطأوا التّقدير ولم يعرِفوا مِنْ أين تؤكل الكتف! 

ويكفي أن نستعيد وقائع تاريخ الرَّأسماليَّة نفسها، لنتأكَّد مِنْ خطأ مثل هذا التَّفكير؛ إذ أنَّها احتاجت إلى حوالي خمسة قرون لتصل إلى الوضع الَّذي وصلت إليه الآن. وفي أثناء ذلك، تعرَّضت للكثير من الانتكاسات والتَّراجعات الَّتي بدا معها أنَّ التَّاريخ قد رجع نهائيّاً إلى الوراء. 

ولنتذكَّر أنَّ الثَّورة البورجوازيَّة في فرنسا، قد جرى الانقضاض عليها من الإقطاعيَّات الأوروبيَّة الحاكمة، آنذاك، وأعيد آل بوربون إلى عروشهم في أوروبّا، بالقوَّة، لفترة من الزَّمن. بل، أكثر مِنْ ذلك، فإنَّ نابليون بونابرت نفسه، الَّذي كان قد حمل راية الثَّورة إلى أصقاع أوروبا المختلفة، سرعان ما انقلب على مبادئ الثَّورة وأعلن نفسه إمبراطوراً‍. كما أنَّ انتفاضات 1848 انتهت بصعود أشخاصٍ هزيلين مِنْ مثل نابليون الصَّغير إلى سدّة السّلطة. 

ومِنْ ناحية أخرى، نسي «الشّيوعيون التَّائبون» (وأرادوا لسواهم أن ينسى) أنَّ هذا النَّوع من الرَّأسماليَّة الَّذي أصبحوا متحمِّسين له الآن، كان موجوداً مِنْ قَبل، وأنَّ وجوده قاد إلى الكثير من الحروب والمجاعات، واستدعى الكثير من الثَّورات والأفكار والنَّظرات المضادَّة له، وأنَّ الماركسيَّة وثورة أكتوبر (تشرين الأوَّل) 1917، كانت مِنْ أهمّ المحاولات وأبرزها للردّ على مظالم النِّظام الرَّأسماليّ

إنَّ أهمّ ما يتجاهله هؤلاء وأولئك، هو أنَّ انهيار الاتِّحاد السّوفييتيّ أعاد المشكلة إلى أصلها، ووضع البشريَّة، مِنْ جديد، أمام جدول أعمالٍ قديمٍ لم يتمّ إنجاز أهمّ بنوده بعد. 


ج - أطروحة الخلل البنيويّ 

يرى كثيرون مِنْ ناقدي ثورة أكتوبر (تشرين الأوّل) والاتّحاد السّوفييتيّ أنَّ الثَّورة كانت منذ البداية تعاني مِنْ خللٍ بنيويّ، ينسبه بعضهم إلى اللينينيّة حصراً، ويتجاوز بعضهم الآخر لينين ليحمّل المسؤوليّة على الماركسيّة. إنَّ مَنْ يقولون ذلك يقفزون عن الحقائق الأساسيّة المعروفة التَّالية: 

أوَّلاً، الضّغوط الهائلة الَّتي واجهتها ثورة أكتوبر (تشرين الأوّل) والدَّولة السّوفييتيَّة، منذ البداية، وكانت ذروتها التَّدخُّل العسكريّ الَّذي قامت به 14 دولة إمبرياليّة ضدّ الثَّورة ودولتها الوليدة. وحين فشل هذا التَّدخُّل، تمَّ فرض العزلة شبه التَّامَّة على الاتّحاد السّوفييتيّ؛ 

ثانياً، العدوان النازيّ الغاشم والواسع على الاتّحاد السّوفييتيّ في الحرب العالميّة الثَّانية. وفي بداية الحرب، راهن كثيرون في الغرب على أنَّ هتلر سيتمكَّن من القضاء على الدَّولة السّوفييتيَّة المتمرِّدة، غير أنَّها صمدت، كما أنَّ هتلر وسَّع مِنْ نطاق هجومه ليشمل دول غرب أوروبا، وخصوصاً فرنسا وبريطانيا؛ 

ثالثاً، بعدما وضعتْ الحربُ أوزارها، وجد الاتِّحاد السّوفييتيّ نفسه مستنـزَفاً، ومدنه مدمَّرة، وقد خسر عدداً ضخماً مِنْ أبنائه في الحرب (حوالي ثمانية وعشرين مليون إنسان). وبالإضافة إلى هذا، جابهته حقيقة أخرى غير سارَّة؛ فالولايات المتَّحدة كشفت في أواخر الحرب عن امتلاكها للقنبلة النَّوويَّة مِنْ خلال تجريبها الإجراميّ لتلك القنبلة على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيَّتين. الأمر الذي فرض عليه، رغم الإنهاك الشَّديد الَّذي أصابه بسبب الحرب، بَذْل أقصى جهوده، ومسابقة الزَّمن، مِنْ أجل امتلاك تكنولوجيا القنبلة النَّوويَّة وتصنيعها؛ 

رابعاً، بأسرع مِنْ ما كان متوقَّعاً، عاد الغرب إلى استخدام نبرة العداء لحليفه السَّابق في الحرب. وقد دشَّن هذه المرحلة رئيس الوزراء البريطانيّ الأسبق ونستون تشرتشل في العام 1946 بخطابه العدائيّ الشَّهير الَّذي اعتبره المؤرِّخون شارة البدء لانطلاق شرارة «الحرب الباردة»؛ 

خامساً، خرج الاستعمار من الكثير مِنْ بلدان العالم الثَّالث بعدما استنزفها وتركها قاعاً صفصفاً، وقد تولّى الاتّحاد السّوفييتيّ مساندة تلك البلدان لتتجاوز وضعها الصَّعب على حساب إمكاناته المحدودة وعلى حساب رفاهيّة شعبه. وما إنْ رفع كثير مِنْ تلك البلدان رأسه قليلاً، حتَّى أدار ظهره للسّوفييت وارتمى في أحضان الاستعمار الجديد ليواصل هذا الأخير نهب ثرواته. 


د - رأي الشّيوعيين في مسألة انهيار الاتّحاد السّوفييتيّ: 

بعضهم ألقى المسؤوليَّة على الغرب، واعتبر أنَّ كلّ ما حدث إنَّما هو نتيجة لمؤامرة كبرى حاكتها الدَّوائر الرَّأسماليَّة. وهذا التَّحليل، إضافة إلى كونه غير دقيق، فهو، قبل ذلك وبعده، غير ماركسيّ. فالماركسيَّة، مع أنَّها لم تغفل دور المؤامرة في التَّاريخ، إلا أنَّها لا تفسِّر التَّحوُّلات الكبرى بكونها نتيجة لسلسلة من المؤامرات. المؤامرة قد تكون عاملاً مساعداً، ولكن الشَّرط الأوَّل والحاسم لنجاحها هو وجود ظرف موضوعيّ يدفع بهذا الاتِّجاه. 

البعض الآخر رأى أنَّ ما حدث كان سببه وجود أخطاء وانحرافات عن النَّظريَّة الصَّحيحة. الأمر الَّذي يذكِّر ببعض ملامح الخطاب الدّينيّ. وعلى أيّة حال، ماركس لم يضع تصوُّراً متكاملاً لكيفيَّة بناء الاشتراكيَّة، بل ركَّز جلّ عمله على نقد الرَّأسماليَّة. وبناء عليه، فإنَّ تحصيل المعرفة الحقيقيّة ببناء الاشتراكيّة إنَّما يُكتَسَب من العمل في بنائها. 

وهناك مَنْ حاول ويحاول أن يفهم بصورة موضوعيَّة طبيعة التَّجربة وحدودها التَّاريخيّة؛ ما الَّذي أنجزته من الأهداف الَّتي تبنَّتها وما الَّذي لم تسعفها حدودها التَّاريخيّة لإنجازه، وما هي المهامّ المطروحة على جدول أعمال التَّاريخ الآن.. الخ. 


جدول أعمال التَّاريخ وجدول أعمال الثَّورة 

التَّاريخ مليء بالمفارقات الَّتي تحدث عادة بخلاف وعي القوى الفاعلة فيه وإرادتِها. فكثيراً ما كانت الخطط والتَّصوُّرات والأهداف شيء وما يتحقَّق في النِّهاية مِنْ مجمل النَّشاط المبذول في إطار ظرف تاريخيّ محدَّد شيءٌ آخر. 

وذلك لأنَّ النَّاس، حين ينخرطون في العمل مِنْ أجل صناعة تاريخهم، لا يصنعونه مِنْ لا شيء، بل مِنْ مكوِّنات الواقع الاقتصاديّ الاجتماعيّ السِّياسيّ الثَّقافيّ الَّذي يعيشونه وضمن آفاقه ومحدِّداته. كما أنَّهم لا يصنعونه في سياقٍ منفصل عن زمانه، أو منبتّاً عن ما سبقه؛ بل إنَّهم، في أثناء صناعتهم له، يكونون هم أنفسهم مادَّته ووقوده. وبناء على ذلك، فإنَّهم لا يستطيعون النَّظر إليه ومراقبة خطّ سيره مِنْ خارجه، وإنَّما فقط مِنْ خلال نافذة العربة الَّتي يستقلّونها فيه، والزَّاوية الخاصَّة في تلك النَّافذة الَّتي يطلّون منها، واعتماداً على اتِّجاه نظرهم، ومستويات إدراكهم، وأنماط تفكيرهم، وتباين مصالحهم، واختلاف أهوائهم. 

يقول ماركس: «إنَّ النَّاس يصنعون تاريخهم بأنفسهم، ولكنَّهم لا يصنعونه على هواهم. إنَّهم لا يصنعونه في ظروف يختارونها هم بأنفسهم بل في ظروف يواجَهون بها وهي معطاة لهم من الماضي....». 

ويضرب مثلاً، على ذلك، بقوله: «إنَّ شعباً بأكمله (يقصد الشَّعب الفرنسيّ في زمن نابليون الصَّغير) كان يتصوَّر أنَّه قد سرَّع عن طريق الثَّورة تطوّره يجد نفسه فجأة يرجع إلى عصرٍ انقرض» 

ويوضّح قائلاً: «بدا أنَّ الدَّولة قد عادت إلى أقدم أشكالها حسب – إلى السَّيطرة البدائيَّة عديمة الحياء، سيطرة السَّيف والقلنسوة الكهنوتيَّة». 

وقال سان جوست: «إنَّ قوَّة الأشياء تقودنا، على ما يبدو، إلى نتائج لم تخطر لنا في البال». 

وبرأي سمير أمين فإنَّه «لا توجد قوانين تحدِّد مسار التَّاريخ قبل حدوثه بالفعل». 

وفي حالة ثورة أكتوبر (تشرين الأوّل)، الَّتي نحن بصددها، فقد كانت الخطَّة الأولى، أو المعلنة على الأقلّ، هي المباشرة بتدشين مرحلة الانتقال إلى الاشتراكيَّة، ولكن ما تمَّ الحصول عليه في النِّهاية هو رأسماليّة الدَّولة الوطنيّة (بذاتها)

ويبدو أنَّ لينين قد أدرك، مبكِّراً، أنَّ التَّجربة السّوفييتيّة الوليدة تسير في طريق التَّحوّل إلى رأسماليَّة دولة وطنيَّة بذاتها (أي رأسماليّة دولة وطنيّة خاضعة بالكامل للضَّرورة التَّاريخيّة)؛ فوضَعَ الخطّة الاقتصاديّة الجديدة «نيب» مِنْ أجل التَّحوّل إلى مسارٍ يقود إلى بناء رأسماليَّة دولة وطنيَّة لذاتها؛ أي رأسماليّة دولة وطنيّة مسلّحة بوعي الضَّرورة التَّاريخيّة، فتتطوّر وفق برنامجٍ واعٍ ومدروس، يهدف في المدى البعيد (في الحالة السّوفييتيّة) إلى وضع الأسس والقواعد اللازمة للانتقال إلى الاشتراكيّة

غياب لينين المبكِّر أحبط هذه العمليَّة المهمَّة قبل وصولها إلى غاياتها المنشودة. إذ اعتقد قادة الحزب والدَّولة أنَّ الـ«نيب» قد استنفذت أغراضها وحان الوقت لوقفها والشّروع في بناء الاشتراكيّة. ولكن ما تمَّ بناؤه فعلاً في النِّهاية هو – كما أشرنا سابقاً – رأسماليّة الدَّولة الوطنيّة بذاتها. وترتَّب على ذلك أنَّه تمَّ التَّعامل مع رأسماليّة الدَّولة الوطنيّة – نظريّاً وتطبيقيّاً – على أنَّها هي الاشتراكيّة

وحين يغيب الوعي بمسار التَّاريخ، تُصبح تحوّلاته عمياء وتخبط خبط عشواء. بالنَّتيجة، وقع الاتِّحاد السّوفييتيّ، بعد سنين طويلة، في براثن قوىً اقتصاديَّة وسياسيَّة رثَّة، وسرعان ما وجدت هذه القوى نفسها في تناقض تناحريّ مع علاقات الإنتاج الخاصّة برأسماليّة الدّولة الوطنيّة. وهذه القوى، بالذَّات، هي الَّتي دفعتْ الاتّحاد السّوفييتيّ في النِّهاية إلى الانهيار؛ لكي تتطابق البنية الفوقيّة للدّولة مع بنيتها التَّحتيّة ولتصبح علاقات الإنتاج معبِّرة بلا قيود عن مصالح تلك الفئات الرثَّة الَّتي كانت مسيطرة. 

وبرأيي، ربّما كان هذا يفسِّر التَّحوّل الانفجاريّ والمدمّر والمنفلت الَّذي حدث للدَّولة السّوفييتيّة، كما شهدناه في أوائل تسعينيّات القرن الماضي. 

بخلاف ذلك، سار التَّطوّر التَّاريخيّ للصّين؛ لأنَّ القيادة السِّياسيَّة الصّينيَّة حقَّقت سيطرة واعية ومبكِّرة على التَّحوُّلات الضَّروريَّة وأدارتها بصورة مأمونة تحت إشراف الحزب الشّيوعيّ.. فتمّ التَّحوّل، في الوقت المناسب، مِنْ نمط رأسماليّة الدَّولة الوطنيّة بذاتها إلى نمط رأسماليّة الدَّولة الوطنيّة لذاتها، الأمر الَّذي أدَّى إلى تجنُّبُ الوقوعِ في قبضة القوى الاقتصاديَّة والسِّياسيَّة الرَّثَّة والوصول إلى الحالة الانفجاريّة الَّتي انتهى بها الاتّحاد السّوفييتيّ


هل كان فشلاً مطلقاً؟ 

ينظر خصوم ثورة أكتوبر (تشرين الأوّل) إلى حصيلتها باعتبارها تمثِّل فشلاً مطلقاً. فهل هذه نظره منصفة ودقيقة؟ 

للإجابة على هذا السّؤال، نلفتُ النَّظر إلى الحقائق المهمّة التَّالية: 

كان التَّمتّع بحقّ الاقتراع، في العديد من البلدان الأوروبيَّة، قبل ثوة أكتوبر (تشرين الأوّل)، مقصوراً على الأثرياء وأصحاب الأملاك، في حين كان سواهم محرومين منه؛ كما كانت المرأة محرومة منه أيضاً في مختلف أنحاء أوروبّا والغرب؛ والأمر نفسه كان ينطبق على الأقليَّات العرقيَّة في بعض تلك البلدان (الزّنوج، في الولايات المتَّحدة، على سبيل المثال). 

وفقط، بعد قيام الاتِّحاد السّوفييتيّ، اُضطرّت الدّول الغربيّة لجعل حقّ الاقتراع حقّاً عامّاً غير مشروط بامتلاك الثَّروة أو العقار، ومنحته للمرأة أيضاً؛ تمَّ ذلك في الولايات المتَّحدة، على سبيل المثال، في العام 1918، وفي فرنسا في العام 1945، وفي سويسرا في العام 1971. وبعد ذلك، انتشر هذا الحقّ في مختلف أنحاء العالم. 

وتجدر، هنا، ملاحظة أنَّ المرأة السّوفيتيَّة كانت قد حصلتْ على الاعتراف بحقوقها السِّياسيَّة والاجتماعيَّة المختلفة منذ العام 1917؛ بل إنَّها، آنذاك، تبوَّأت منصب الوزارة لأوَّل مرَّة في التَّاريخ؛ حيث تسلَّمت الثَّوريَّة الشَّهيرة ألكسندرا كولنتاي أهمّ وزارة في حكومة الثَّورة الأولى الَّتي ترأسها لينين؛ وهي الوزارة التي أُسندتْ إليها مهمَّة إدارة التَّحوّلات الاشتراكيَّة في جميع أنحاء البلاد السّوفيتيَّة. ومِنْ هنا، يمكن فهم مبادرة الولايات المتَّحدة لمنح حقّ التَّصويت للنِّساء في السَّنة التَّالية (1918)؛ 

هذه العدوى تكرَّرتْ، لاحقاً، لدى المراكز الرَّأسماليَّة الدوليَّة، في مختلف المجالات، بما فيها المجال الاقتصاديّ الاجتماعيّ؛ حيث جاءت السِّياسة الاقتصاديَّة «الكنزيَّة»، في الولايات المتَّحدة، وسياسة ما أسماه سمير أمين «التَّحالف الاشتراكيّ الدِّيمقراطيّ»، في أوروبّا الغربيَّة، كردّ فعل على تحدّي المنافسة السِّياسيَّة والاقتصاديّة مع الاتِّحاد السّوفييتيّ؛ 

في المجال الثَّقافيّ، أطلقتْ ثورة أكتوبر (تشرين الأوَّل) ثورةً هائلة في الآداب والفنون والفكر ومختلف الجوانب الثَّقافيّة، على مستوى العالم كلّه. وآثارُ هذه الثَّورة لا تزال ممتدّة؛ 

كرَّست الثَّورة، على المستوى العالميّ، العديد من الحقوق الإنسانيَّة والاجتماعيَّة والقيم والأفكار التَّقدميَّة؛ 

بالتَّوسّل بالخطاب الاشتراكيّ، تحرَّر العديد مِنْ بلدان العالم الثَّالث، ومِنْ ضمنها بلدان عربيَّة، مِنْ ربقة الاستعمار والتَّخلّف والتَّبعيَّة، وسار على طريق الاستقلال والتَّنمية الوطنيَّة.. حتَّى إنْ كان بعض تلك البلدان قد عاد لاحقاً فوقع في وهدة التَّبعيَّة

لذلك كلّه، ما إن انهار الاتِّحاد السّوفييتيّ، حتَّى استعادت المراكز الرَّأسماليَّة الدَّوليَّة بيدها اليمين ما كانت قد قدَّمته مِنْ تنازلاتٍ ثانويَّة بيدها اليسار، وعادت إلى صيغتها السَّابقة الأكثر تعبيراً عن جوهرها الحقيقيّ (أعني الليبراليَّة المتوحِّشة). 

وبالمجمل، مثَّلت ثورة أكتوبر (تشرين الأوّل) السّوفييتيّة وارتداداتها، اختراقاً مهمّاً للنِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ يؤشِّر إلى المستقبل المنشود، كما أنَّها صنعتْ دولتين عظميين؛ إحداهما كانت قبل ذلك متخلِّفة ونصف مهمَّشة (روسيا) والأخرى كانت مستعمَرة ومفكَّكة (الصِّين). 
ـــــــــــــــــــــــــــــ

25- 11 - 2017

(كانت هذه مساهمتي، في التَّاريخ المشار إليه، في احتفاليّة الحزب الشِّيوعي الأردنيّ بالذِّكرى المائة لثورة أكتوبر الاشتراكيّة. وقد قدَّمتها بناء على دعوة كريمة من الرِّفاق في الحزب)
تعليق واحد
إرسال تعليق

  1. صحيح ان غياب لينين المبكر عن الحكم وموته كان مشكلة، لكن الجميع بمن فيهم لينين كانوا قد اخذوا على عاتقهم مسؤوليات كبيرة، فيما لم يكن لهم تلك الخبرة بإدارة شؤون الدولة وكما كان هناك مشاكل أساسية بحاجة الى حلول سريعة مثل الحرب العالمية الأولى ومسائل القوميات وإدارة مساحة شاسعة مثل روسيا. ويضاف الى ذلك ان السيناريو الموجود في توقعات الجميع بما في ذلك لينين وستالين هو ان الثورات ستكون في المانيا وبريطانيا او الثورة لعالمية وكان حلم "الولايات المتحدة الإشتراكية الأوروبية" يراود الجميع، وليس تروتسكي وحده.
    ولذلك أعفاء لينين من التخبط ورمي المسؤولية على من خلفوه بعد ذلك فيه ظلم، لأن "الشيوعية الحربية" و"السياسة الإقتصادية الجديدة" كانتا أيضا أخطاء او كان لها أثار سلبية كبيرة. يعني كان هناك خطأ كبير في الشروع بالسياسة الإقتصادية الجديدة مباشرة بعد الشيوعية الحربية، فقد هرب العديد من أصحاب رأس المال خلال الشيوعية الحربية وأصبحوا أعداء للسلطة الجديدة، والسياسة الإقتصادية الجديدة أعطت الحرية لطبقات نفوذها جاء من الحالة السابقة من الفوضى والشيوعية الحربية ممن اخترفوا التهريب والمضاربة السمسرة.
    ومن الطبيعي ان تكون أفكار لينين في توزيع الأرض وسلطة العمال على المعامل وكهربة روسيا ومحو الأمية نظريا سهلة، لكن تطبيقها واجه الكثير من المشاكل والتي حلتها القيادة اللاحقة بشكل جيد وبغض النظر عن ان كان ذلك في الطريق للإشتراكية او رأسمالية الدولة. وهو جزء مما تتحدث عنه انت لناحية منجزات ثورة اكتوبر لناحية منح الحق في الإنتخاب والمساهمة في الحياة السياسية، وبشأن حق المرأة في الإنتخاب والتعليم الجامعي الذي كان ممنوعا للنساء وللطبقات الدنيا قبل الثورة/ وانجاز محو الأمية وكهربة روسيا والتصنيع وتحديد أيام وساعات العمل والحق في العطلة الإسبوعية وغيرها الكثير.




    ردحذف

إعلان أسفل المقال