جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة


يعقوب زيَّادين: المَلَكِيَّة المُطلَقَة هي المشكلة والباقي أعراض وتفاصيل..
مرّت الأيام ولن تعود. وأظلُّ أتذكّر أنّني وُلِدتُ مع ولادة إمارة شرق الأردن في 1921 على يد الاستعمار، وقبلها لم تكن الإمارة ولم تكن الدول، وكانت المنطقة المسمّاة بلاد الشام حالةً اجتماعيّةً واقتصاديّةً واحدة. تلك الأيّام، لم يكن عدد السكّان يتجاوز الربع مليون نسمة، تنتشر فيها الأميّة، وتحترف الرعي والزراعة، وفيها مدينتان أساسيتان هما السلط والكرك تتبعان دمشق.

قرارات ونضالات وطنيّة شُجاعة..

مرّت الأيام، ولم تبق الحال كما كانت، لكن الشهامة والنبل والقيم الحقيقيّة في الحريّة والتحرّر والوحدة، ظلّت هي الناظم الأساسيّ لتفكير الناس. فمِنْ مواجهة حملة محمّد علي باشا، بقيادة ابنه إبراهيم باشا الذي رغب بالاستحواذ على قلعة الكرك عام 1845، إلى حرب قدر المجالي ضدّ ظلم العثمانيين عام 1910، إلى مؤتمر 1928 الذي انعقد بشيوخِ عشائر قليل منهم كان يقرأ ويكتب، لكنّهم أصدروا قراراتٍ وطنيّةً شجاعةً. ولم ينسَ الناس هنا، المعارك التي خاضها العراقيون والسوريون والجزائريون، في مواجهة الاستعمارين الفرنسيّ والبريطانيّ والتحموا بها ماديّاً ومعنوياً، كما التحموا في النضال ضد المشروع الصهيونيّ وعدّوا ما سمّي لاحقاً «القضية الفلسطينية» قضيّتهم الأساسيّة.

وخاض الشعب بتنظيماته التقدميّة نضالاتٍ مِنْ أجل إنهاء المعاهدة الأردنيّة ـــــ البريطانيّة، وإزاحة القيادة البريطانيّة عن الجيش وتعريب تلك القيادة. كما خاض النضالات ضدّ حلف بغداد، وضدّ التبعيّة، وامتلأت المعتقلات في تلك الفترة (فترة الخمسينيّات والستينيّات) بالمناضلين. كان النضال جذريّاً ومبدئيّاً وواضحاً لا مناورة فيه. 

كان ذلك في الماضي. أنا الآن في أوائل العقد التاسع من عمري، أرى التحوّلات الثوريّة وانتفاضات الشعوب العربيّة، وأرى ما يحصل في الأردن.

من اليأس إلى الأمل..

يكثر الحديث اليوم، عن الغنى الفاحش لدى القلّة والفقر الساحق للأغلبيّة. ويكثر الحديث عن البطالة والجوع وغلاء الأسعار وارتفاع الضرائب وانعدام إمكانيّات الحصول على المعالجة الصحيّة، إضافة إلى الذلّ والإهانة التي تمارس على الناس، والتبعيّة والإلحاق بالقوى الدوليّة في ما يتعلّق بالقرار السياسيّ الخارجيّ والاقتصاديّ. كان هذا الوضع يدفع إلى التشاؤم والإحباط واليأس، خصوصاً في ظلّ غياب قوى سياسيّة قادرة على حشد الناس خلف برنامجها، وقادرة على النضال المبدئيّ لتحقيق ذلك البرنامج. لكنّ النخب الشبابيّة، التي برزت في تونس ثمّ في مصر ورفعت صوتها بالتغيير الجذريّ الكامل المتمثِّل بإطاحة النظام الحاكم وعدّه نظاماً غير شرعيّ لا يمثِّل الناس، أعادت إنتاج مرحلتنا التاريخيّة وقراءاتنا عنها كليّاً.

أثبتت الانتفاضات الشعبيّة أنّ الشارع العربيّ ليس شارعاً ميّتاً، كما كنا نظنّ في خضمّ اليأس والإحباط من قدرتنا على إنجاز التغييرات الجذريّة والكاملة. كذلك أثبتت أنّ الجماهير العربيّة تتشارك في آمال وطموحات واحدة، وذات سقف مبدئيّ واحد.
لماذا لم نفهم هذا في الأردن؟

الاهتمام بالتفاصيل بدل الجوهر

لم تفارق المعارضة الأردنيّة التقليديّة خمولها، منذ خروجها إلى العلن عام 1989. ولا تزال تدور في فلك مطالب ضئيلة وضبابيّة، تتمثّل بإصلاح سياسيّ مبهم، والسماح بالمهرجانات والتظاهرات، وتعديل قانون الانتخابات، وكأنّ المشكلة هي حرمان بعضهم مِنْ مقاعد الحكم أو البرلمان، وكأنّ لهذين وزناً في سياق التخريب والسلب المتعمَّدين لصلاحيّاتهما. أمّا المعارضات الجديدة، فهي على أهميّتها وارتفاع سقف مطالبها وحركتها عن المعارضة التقليديّة، لا تزال بعيدة، الى حدٍّ ما، عن عصب الموضوع ومحوره الاساسيّ، وتركّز على المظاهر لا على السبب.

المفصل الأساسيّ للتغيير..

ليس في نيّتي الخوض في تفاصيل مطلبيّة هامشيّة، ولا الخوض في مفاسد ونهب وسلب ارتكبها فلان أو فلان، ما يهمّني هو نقد التركيبة السياسيّة في الأردن والخلوص مِنْ هذا النقد إلى أمرٍ محدّد، هو المفصل الأساسيّ للتغيير. المشكلة السياسيّة في الأردن هي مشكلة هيكليّة كليّة، لا تكمن في الجزئيّات مثل قضايا الفساد الماليّ والانهيار الاخلاقيّ، الذي طال أشخاص وزراء ورؤساء وزارات، بل هي أعمق بكثير. وهي تتمثّل في كون منظومتنا السياسيّة تقوم على مفاهيم عفا عليها الزمن منذ القرن التاسع عشر: مَلَكِيَّة مُطلَقَة تدور في فلكها أجزاء النظام والدولة والسياسة والإدارة والقضاء والأمن والجيش وكلّ شيء، وبنَت آليّات عملها على أساس الوصوليّة والانتفاع والمحسوبيّة والحصول على أنواع المكافآت، حتّى غاب الولاء للشعب وخدمة الناس.

المشكلة الرئيسة هي أنّ الإرادة المَلَكِيَّة مطلقة تدور في فلكها كلُّ الإرادات الأخرى، لا مجال فيها لأيّ فصل حقيقيّ بين السلطات أو ذي معنى. وتنتج من المشكلة الرئيسة هذه مشاكل أخرى، بعضها يتجسّد في نصوص الدستور والقانون.

صلاحيّات مُطلَقَة وحصانة مُطلَقَة!

المادّة 26 من الدستور تقول: «تناط السلطة التنفيذيّة بالملك ويتولّاها بواسطة وزرائه»، والمادّة 35 تقول إنّ الملك يعيّن رئيس الوزراء ويقيله ويقبل استقالته ويعيّن الوزراء ويقيلهم ويقبل استقالاتهم بناءً على تنسيب رئيس الوزراء. وتقول المادة 98 «يُعيَّن قضاة المحاكم النظاميّة والشرعيّة ويعزلون بإرادة مَلَكِيَّة»، وتُعطي المادة 34 من الدستور المَلِك حقّاً مطلقاً في إصدار الأوامر بإجراء الانتخابات النيابيّة وحلّ مجلس النوّاب ومجلس الأعيان. كذلك يُعيّنُ المَلِكُ، بموجب المادة 36 من الدستور، مجلسَ الأعيان وهو النصف الفعليّ للبرلمان، المتكوِّن مِنْ مجلسين.

ورغم هذه الحقوق المطلقة، التي يعطيها الدستور لمنصب المَلِك، فهو يعفيه مِنْ أيَّة مسؤوليّة. فالمادة 30 من الدستور تقول إنّ المَلِكَ هو رأس الدولة وهو مصون مِنْ كلّ تبعة ومسؤوليّة. ومن المعروف أنّ مثل هذه المنظومة (صلاحيّات مطلقة وإعفاء تامّ من المسؤوليّة) تخالف أبسط مبادئ النظم السياسيّة الحديثة.

وإذا كان الدستور يعطي للمَلِكِ حمايةً من المساءلة القانونيّة، فإنّ قانون العقوبات يحميه ويحصّنه مِنْ أيّ نقد قد يُوجّه إليه، ويُحكَمُ بالسجن على منتقده بجريمة «إطالة اللسان».

واجهة تنفيذيّة وليس سلطة تنفيذيّة

إنّ الحكومة في الأردن ليست «النظام» على حقيقته، بل هي مجرّد واجهة تنفيذيّة، تقف عازلاً بين الناس وبين «الخطوط الحمراء»، والإرادة المَلَكيِّة لا تخضع للرقابة والشفافيّة. المواطنون محرومون مِنْ معرفة ما يخصّهم مِنْ أمور الحكم وأمور البلد، وصار معيار الوطنيّة هو خدمة النظام لا خدمة المواطن، وإرضاء النظام لا إرضاء الناس، حتّى صارت أبجديّات المنظومة السياسيّة والاجتماعيّة في البلاد هي مصالح القلّة والتنفيعات والوصوليّة والمحسوبيّة والفساد. وفي كلّ هذا تهميش للناس وجورٌ عليهم وسلب لإرادتهم.

المطلوب.. مثل بريطانيا وإسبانيا والسويد

لا جدال في أنّ المؤسّسة المَلَكِيَّة هي جزء أساسيّ من التركيبة السياسيّة للبلاد، ولا جدال في أن يكون لها دورها ومكانتها، وأن تتمأسس على النحو الصحيح، وعلى غرار مؤسّسات العرش في بريطانيا وإسبانيا والسويد، لذلك يكون الحل بإنجاز عقدٍ اجتماعيٍّ دستوريٍّ جديد، يعيد تصحيح الأمور، ويعيد الصلاحيّات كاملةً للناس.

الإثنين 21 آذار 2011
(جريدة «الأخبار» اللبنانيّة)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
توضيح:
عثرتُ، منذ مدَّة قريبة، بالصدفة، على هذا المقال المهمّ، منشوراً في جريدة «الأخبار» اللبنانيّة، وعنوانه الأصليّ هو «في أساس التغيير». فوجدتُ أنَّه - شأن كلام أبي خليل دائماً، وبخلاف ما درج عليه المشتغلون بالسياسة في الأردنّ - يشتمل على كلامٍ في الصميم، ويركِّز على الأساس وليس على الفروع، وعلى المتن وليس على الهوامش. وقد اجتهدتُ في تعديل عنوانه، لغرض النشر هنا، وصغته بما يتَّفق مع مضمون كلامه ونصّه، ووضعت له عناوين فرعيّة، وأبرزتُ، بتغميق اللون، بعض الكلمات وبعض الأسطر والفقرات، للفت الأنظار إلى بعض الأفكار الأساسيّة المهمّة الواردة فيه.
(س. ق).
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال