جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات 
فيروز.. أيقونة بلاد الشام والعرب والفنّ الرفيع
يُطلُّ الإيطاليّون، يوميّاً، مِنْ شرفات بيوتهم، ليواجهوا، معاً، قسوةَ الحَجْرِ الصحّيّ وتفشِّي وباء كورونا بينهم، بالغناء والموسيقى والتصفيق العالي الجماعيّ والطرق على أواني الطعام المعدنيّة وما إلى ذلك.. تأكيداً منهم على انتصارهم للحياة وتحدّيهم لأجواء الرعب التي نشرها الوباء في بلادهم وفي العالم. وهذا هو شأن الشعوب الحيّة في الظروف الصعبة.

طبعاً، هذا ليس بديلاً للإجراءات الطبيّة الصحيحة التي تقوم بها الطواقم الطبيّة المحترفة..

وبما أنَّنا دخلنا مرحلةَ الحَجْر الصحيّ الشامل، أَنشرُ هنا موضوعاً لي عن فيروز.. إحدى أبرز الظواهر المرتبطة بالحياة والمنتصرة لها وللجمال والحقّ والحريّة:

ثمَّة العديد من الأسئلة الضروريَّة التي تُضمرها ظاهرة فيروز..

ما هي هذه الظاهرة الفنيَّة الكبيرة؟

ولماذا نجحت كلّ هذا النجاح؟

وما هي الظروف الموضوعيَّة والذاتيَّة التي شكَّلت الأرضيَّة المناسبة لنشوئها وتطوّرها وارتقائها إلى المدى الذي بلغته؟

وما الجديد (والمختلف) الذي جاءت به وكرَّسته ظاهرتها؟

وسأحاول، تالياً، أنْ أتلمَّس بعض الإجابات التي آمل أنْ تكون شافية لهذه الأسئلة..

كانت البداية الحقيقيَّة لصعود فيروز في خمسينيَّات القرن الماضي، ثمَّ ازداد إسهامها الفنيَّ رسوخاً وتعمُّقاً في الستينيَّات. وكان ذلك العصر هو عصر التحرُّر الوطنيّ والاستقلال والثورات والتمرُّدات في العالم كلّه، ومِنْ ضمنه عالمنا العربيّ. وقد تلازمت مع هذه الثورات والحركات، ثوراتٌ أخرى كبرى في الفنّ والفكر والثقافة والعلاقات الاجتماعيَّة. وهذا ما اندرجت فيروز في إطاره منذ البداية، وخصوصاً بعدما التقتْ بالأخوين رحباني (عاصي ومنصور)؛ حيث مثَّل إنتاجها الفنيّ المشترك معهما ثورة حقيقيَّة في الفنّ العربيّ أدَّت إلى تجاوز الأغنيَّة العربيَّة (المصريَّة) التقليديَّة، التي كانت تتَّسم بالإطالة والتكرار والتطريب «الثقيل» والميلودراما، لتقديم أغنية بديلة (أو موازية) تتَّسم بالقصر وبالتركيز والتكثيف، وتحتوي في الوقت نفسه على جرعة طربيَّة ملائمة، كما أنَّها مشغولة بصورة جيِّدة، وتُعتَمَد فيها أساليب التوزيع الموسيقيّ الحديثة والمتطوِّرة، وتراعي الأسس العلميَّة الحديثة للغناء والموسيقى.

ولم يأتِ هذا مِنْ فراغ أو بلا سبب؛ بل كان تلبيةً لحاجة الفئات الوسطى، المدينيَّة منها بشكلٍ خاصّ، والمتعلِّمة والمثقَّفة بشكلٍ أخص، التي تزايد حجمها ودورها في ذلك الوقت بشكلٍ كبير.. ارتباطاً مع انتشار حركات التحرُّر والاستقلال التي اجتاحت العالم القديم على إثر ثورة تشرين أوَّل (أكتوبر) السوفييتيَّة، وبفضل التوازنات الدوليَّة الجديدة التي خلقتها تلك الثورة.

ففي سياق الانجازات التي حقَّقتها ثورات الاستقلال والتحرُّر، جرى توسُّعٌ هائل في نشر التعليم وتوفير وسائل التثقيف، وصعدت فئات شعبيَّة (قرويَّة ومدينيَّة) على سلَّم التقدُّم الاجتماعيّ، وبدأ دورها يظهر بوضوح في المدارس الثانويَّة والجامعات وفي الجيوش والمؤسَّسات الحكوميَّة والسياسيَّة والمعامل، وفي حقليْ الإنتاج الفنيّ والأدبيّ.. الخ، وبدأتْ تزحف إلى سدَّة السلطة، سواء أكان ذلك عن طريق الثورات أو الانقلابات أو عن طريق التكيُّف المدروس مِنْ قبل بعض الأنظمة المحافظة التي اختارت الاستجابة لتلك الموجة الثوريَّة الجارفة بهذه الطريقة.. لكي تستوعبها وتتمكَّن مِنْ تجاوزها بأقل قدر من الخسائر ومِنْ دون أنْ تفقد سلطتها أو هويَّتها.

وهذه الفئات الجديدة، نفسها، هي التي صنعتْ ثورةً في الشعر، والقصَّة، والرواية، والنقد الأدبيّ، والفكر، وفي المسرح، وفي الغناء. وهي نفسها التي نشأتْ معها ذائقة فنيَّة وأدبيَّة جديدة.

وبالتالي، فقد جاءت الثورات الفنيَّة والأدبيَّة تلبيةً لهذه الذائقة الناشئة، كما أنَّها بدورها ساهمت بتنمية الذائقة وتطويرها. وهذا ما عبَّر عنه فنّ فيروز والرحابنة بشكل خاصّ، مستنداً إلى التراث الفنيّ الشاميّ وإلى الثورة الفنيَّة العظيمة التي كان قد قام بها سيّد درويش في عشرينيّات القرن الماضي.

وهكذا، فقد ارتبطت الظاهرة الفنيَّة الرحبانيَّة الفيروزيَّة، منذ البداية، بفئات اجتماعيَّة واسعة وصاعدة ومتزايدة النفوذ والتأثير، وعبَّرت بصورة جيّدة وواعية ومتطوِّرة عن أحلام هذه الفئات وطموحاتها وعواطفها وأشواقها وتجاربها الإنسانيَّة وخبراتها الشعوريّة.. الخ. ولذلك، أصبحتْ الظاهرة الرحبانيَّة الفيروزيَّة ظاهرة فنيَّة كبيرة حقّاً.

ومِنْ ناحية أخرى، فقد نشأتْ ظاهرة فيروز والرحابنة في إطار التعبير عن الهويَّة  الشاميَّة العربيَّة.. على خلفيّة المشروع القوميّ السوريّ لأنطون سعادة[1]. وليس مصادفة أنَّ الأخوين رحباني قد قاما بمسحٍ واسعٍ للتراث الفنيّ الغنيّ لبلاد الشام، في لبنان وسوريا والأردن وفلسطين، في المدن والأرياف والبوادي، وقاما بإحيائه وتطويره بألحانهما وغناء فيروز.

كما يمكن القول أيضاً إنَّ ظاهرة فيروز والرحابنة نشأتْ في إطار المنافسة الفنيَّة (والسياسيّة) الإيجابيَّة بين مصر وبين بلاد الشام؛ حيث عبَّرت فيروز بقوَّة عن الهويَّة الفنيَّة الشاميَّة، وأصبحتْ بسرعة تُعتبر المنافِسة العربيَّة الوحيدة لأمّ كلثوم على استقطاب المستمعين والمهتمّين والمتابعين والمعجبين مِنْ شتَّى أقطار العالم العربيّ، إلى حدّ أنَّ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أبدى أسفه، لمحمَّد حسنين هيكل، مِنْ أنَّ فيروز ليست مصريَّة، وعَدَّ ذلك كواحدٍ مِنْ أخطاء التاريخ. حيث كان هو نفسه أحد أهمّ المعجبين بصوتها وبأسلوب غنائها. وقد طلب مِنْ هيكل الذي كان وزيراً للإعلام آنذاك، أنْ يولي عنايةً خاصَّة للمغنيَّة المصريَّة الشابة، والصاعدة آنذاك، عفاف راضي، ذات الصوت الأوبراليّ المميَّز، لعلَّها، برأيه، تكون فيروز المصريَّة.

وهنا، ثمَّة قصّة تروى عن هذا التنافس الشاميّ المصريّ، سمعتها بصيغ مختلفة لكن بالمعنى نفسه تقريباً، وقد اخترتُ إحداها لأنَّها مكتوبة، وتقول:

في أثناء الوحدة السوريّة المصريّة، سمع سعيد عقل الرئيس جمال عبد الناصر يخطب بالجماهير مِنْ على شرفة قصر المهاجرين في دمشق، وقد جاء في سياق كلامه عن الشام «إنَّه سيُدخلها التاريخ». الأمر الذي استفزَّ «عقل»، ودفعه إلى تذكّر قصيدةٍ له كتبها في أربعينيّات القرن الماضي بعنوان «سائليني يا شآم».. وتحديداً المقطع التالي منها:

«أهلُكِ التاريخُ من فُضْلَتِهِمْ
ذِكْرُهُمْ في عُرْوَةِ الدهْرِ وِسَامْ
أُمَوِيُونَ فإن ضِقْتِ بِهِمْ
أَلْحَقُوا الدنيا بِبُستانِ هِشامْ»

ثمّ اتَّصل بالأخوين رحباني، وكانا قد استعما هما أيضاً إلى خطاب عبد الناصر، واتَّفق معهما على انتقاء عددٍ مِنْ أبيات قصيدته تلك لتغنِّيها فيروز كردٍّ على تلك العبارة التي استفزّتهم. غنَّتها فيروز، وسرعان ما مُنِعَتْ في إذاعات «الجمهوريّة العربيّة المتَّحدة» (مصر وسوريا)[3].

وما أُختير مِنْ قصيدة سعيد عقل الطويلة «سائليني يا شآم» لتغنِّيه فيروز بألحان «الأخوين رحباني» هو المقاطع التالية:

«سَائِلِيني حينَ عَطَّرْتُ السَلَامْ
كيف غارَ الوَرْدُ واعْتَلَّ الخُزَامْ
وأنا لَوْ رُحْتُ أسْتَرْضِي الشَذَا
لانْثَنَى لُبنانُ عِطراً يا شَآمْ

ضِفَّتاكِ ارْتَاحَتَا في خَاطِرِي
واحْتَمَى طَيْرُكِ في الظنِّ وَحَامْ
نَقْلَةٌ في الزهرِ أمْ عَنْدَلَةٌ
أنتِ في الصَّحْوِ وتَصْفِيقُ يَمَامْ
أنا إنْ أَوْدَعْتُ شِعْرِي سَكْرَةً
كُنْتِ أنْتِ السَّكْبَ أوْ كُنْتِ المُدَامْ

رُدَّ لِي مِن صَبْوَتِي يا بَرَدَى
ذكرياتٍ زُرْنَ في لَيَّا قَوَامْ
لَيْلَةَ ارْتَاحَ لَنَا الحَوْرُ فَلَا
غُصنٌ إلّا شَجٍ أوْ مُسْتَهَامْ
وَجِعَتْ صَفْصَافَةٌ من حُسْنِهَا
وَعَرَى أغصانَها الخُضْرَ سَقَامْ
تَقِفُ النَّجمةُ عن دَوْرَتِها
عِنْدَ ثَغْرَيْنِ ويَنْهَارُ الظَّلَامْ

ظَمِئَ الشرقُ فَيَا شامُ اسْكُبي
واملأي الكأسَ لَهُ حتّى الجَمَامْ
أهلُكِ التاريخُ من فُضْلَتِهِمْ
ذِكْرُهُمْ في عُرْوَةِ الدهْرِ وِسَامْ
أُمَوِيُونَ فإن ضِقْتِ بِهِمْ
أَلْحَقُوا الدنيا بِبُستانِ هِشامْ
أنا لَسْتُ الغَرِدَ الفَرْدَ إذا
قُلْتُ طابَ الجَرْحُ في شَجْوِ الحَمامْ
أنا حَسْبِي أنَّني من جَبَلٍ
هُوَ بين اللهِ والأرض كلامْ
قِمَمٌ كالشمسِ في قِسْمَتِها
تَلِدُ النورَ وتُعْطِيهِ الأنامْ»

وفي هذا السياق نفسه، فقد ساهم الرحابنة وفيروز في نشر التراث الفنيّ الشاميّ في العالم العربيّ، كما أنَّهم جعلوا اللهجة اللبنانيَّة واسعة الانتشار ومحبوبة في مختلف البلاد العربيَّة. ومن المعروف أنَّ فيروز حتَّى عندما غنَّت لملحنين مصريّين، فقد كانت كلمات تلك الأغاني إمَّا بالعربيّة الفصيحة حسب طريقة لفظها الشاميَّة، أو بالعاميَّة اللبنانيَّة. على سبيل المثال: «سْهار بعد سْهار»، مِنْ ألحان محمَّد عبد الوهَّاب. ويُلاحَظ أيضاً أنَّ عبد الوهَّاب لحَّن تلك الأغنية بأسلوب الرحابنة. وأمَّا أغاني سيَّد درويش التي أعادت فيروز غناء بعضها (زوروني كلّ سنة مرَّة، على سبيل المثال)، فقد عدَّل الرحابنة كلماتها بحيث تنسجم مع أسلوب الكلام الشاميّ.

وإذا كانت هذه هي الظروف العامَّة التي ساهمت في خلق ظاهرة فيروز والرحابنة، فإنَّها لم تكن لتكفي وحدها؛ أي لو لم تتوفَّر معها الشروط الذاتيَّة الضروريَّة؛ كالوعي والثقافة والمقدرة الفنيَّة والمعرفة اللازمة.. الخ.

وهذه، كلّها، توفَّرتْ لدى فيروز والرحابنة، لحسن الحظ؛ حيث حصل كلٌّ من الرحابنة وفيروز على المعرفة العلميَّة المطلوبة في مجال الفنّ، وتوفَّرت لديهم الإرادة، كما أنَّهم امتلكوا الوعي، وامتلكوا القدرة الفنيَّة المميَّزة، وامتلكتْ فيروز، على الأخصّ، صوتاً جميلاً قويّاً، مرناً، صافياً، مرهفاً، ومساحته واسعة، كما امتلكتْ قدرةً باهرةً على الأداء وتطويع صوتها للتعبير عن المعاني المختلفة. وهذا هو الأهمّ؛ فالصوت خامة، ونجاح المغنِّي وتفوّقه يعتمدان على كيفيّة استخدامه لهذه الخامة.

وأكثر مِنْ ذلك، امتلك الرحابنة وفيروز المشروع الفنيّ المنبثق مِنْ ظروف عصرهم وظروف بلدهم، وإقليمهم، ومنطقتهم؛ فأخذوا على عاتقهم القيام بثورتهم الفنيَّة الهائلة في سياق ذلك العصر الثوريّ الذي نشأوا فيه، وغيَّروا تماماً شكل الأغنية العربيَّة ومضمونها، وارتقوا بمستوى الذائقة الفنيَّة العربيَّة؛ سواءٌ أكان ذلك في ما يتعلَّق بالموسيقى والغناء أم في ما يتعلَّق بكلمات الأغاني التي أصبحتْ، على يديهم، أكثر رقَّة وأكثر دقَّة في التعبير عن المشاعر والخبرات الإنسانيَّة، وأكثر رقيّاً في أساليبها التعبيريَّة ومعانيها.

وبالإضافة إلى الشعر الجميل الذي كان يكتبه الرحابنة لفيروز، فقد اعتمدت أيضاً على شعراء آخرين مميَّزين، مِنْ أبرزهم جوزيف حرب وسعيد عقل والأخطل الصغير وميشال طراد وطلال حيدر وآخرون.

إلا أنَّ النزوع الشاميّ القويّ والهويَّة الشاميَّة الواضحة للرحابنة وفيروز، لم يحجبا اتِّجاههم العروبيّ، القويّ أيضاً؛ فقد عبَّروا، بعمق وحرارة، عن الإنسان العربيّ، في كلّ مكان، كأفضل ما يكون التعبير.

تغنّوا (ومعهم الشاعر سعيد عقل) بمعظم الأقطار العربيَّة وعواصمها وحواضرها: بيروت ولبنان، ودمشق والشام، وعمّان والأردنّ، والقدس وفلسطين، والإسكندرية ومصر، وبغداد، وتونس، والكويت، والإمارات، ومكّة.. الخ. وكانوا أفضل مَنْ غنَّى للقضيَّة الفلسطينيَّة وعبَّر بعمق وحرارة عن مأساة الشعب الفلسطينيّ.

إلا أنَّهم، في المقابل، أبوا أنْ يتغنّوا بأشخاص الحكّام أو أنْ تتضمَّن أغانيهم عن العواصم العربيّة والبلدان العربيّة شيئاً عن حُكّامها (أو حتَّى مجرَّد إشاراتٍ إليهم). ورفضوا جميع الضغوط والإغراءات التي تعرَّضوا لها في هذا المجال.

وبالتالي، فقد صانوا فنَّهم من الوقوع في مستنقع الابتذال والامتهان، واختطوا تقاليد فنيَّة جديدة محترمة، تجعل من الفنَّان الحقيقيّ، إذا ما سار وفقها، موضع احترامٍ واسع وتقدير ومحبَّة من الناس، وتحول دون أنْ يكون ذيلاً للسياسيّ – صاحب النفوذ – وخادماً له، بل إنَّها تضع الفنَّان في موقع متقدِّم على السياسيّ، وتجعله يمتلك قوَّة معنويَّة كبيرة تفوق قوّته.

وهذا مدخل إلى عامل آخر من العوامل التي صنعت الظاهرة الفيروزيَّة الرحبانيَّة وميَّزتها عن سواها؛ ألا وهو عامل الشعور القويّ بالكرامة (الذي نرى أبسط مظاهره في وقفة فيروز الشامخة على المسرح)، وما ترتَّب على ذلك مِنْ ترسيخ صورة احترامٍهم لذاتهم وفنّهم، وصونهما من الانزلاق في مزالق الذلّ والمهانة؛ لذلك فقد رفضت فيروز، مراراً، الاستجابة لطلبات إقامة الحفلات الخاصَّة لبعض الحكَّام العرب، بمَنْ فيهم بعض زوَّار لبنان الذين أبدوا مثل هذه الرغبة للمسؤولين اللبنانيين. وقد تسبَّب ذلك في إحدى المرَّات في منع بثّ أغنياتها، في أجهزة الإعلام اللبنانيَّة الرسميَّة، لمدَّة من الزمن.

ومِنْ ناحية أخرى، فقد حافظت فيروز على دوام روح التجديد والتطوير في فنّها، بل إنَّها لم تخشَ خوض مغامرات فنيَّة جريئة في العقود الأخيرة، كما هو الحال في أعمالها المشتركة مع ابنها زياد. ولكن مِنْ دون الوقوع في الابتذال والتسطيح والشكلانيَّة والمجانيَّة. وهذه التجربة، بحدّ ذاتها، تحتاج إلى حديث طويل قد لا يتَّسع له المجال هنا.

وبعد، فهناك، في ظاهرة فيروز والرحابنة، الكثير مِنْ ما يمكن أنْ يُقال، إلا أنَّ مثل هذا التوسُّع يحتاج أيضاً إلى مقامٍ غير هذا المقام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] نشوء عدد من الأسماء الإبداعيّة المهمّة على ضفاف المشروع القوميّ السوريّ الذي أطلقه أنطون سعادة يشكِّل ظاهرة ملفتة تستحقّ الدراسة. ومِنْ هذه الأسماء: أدونيس، ومحمّد الماغوط، ويوسف الخال وآخرون.

 [2] اعتنت عفاف راضي بتطوير تأهيلها العلميّ في الموسيقى، فدرست البيانو في المعهد العالي للموسيقى في القاهرة «الكونسرفاتوار»، وحصلت على البكالوريوس بدرجة ممتاز، ثمّ حصلت على الماجستير، فالدكتوراه، من المعهد نفسه.

[3] شربل القطار، نقلاً عن سعيد عقل نفسه – جريدة «الشرق الأوسط» – الأربعاء 15 آب/أغسطس 2018 مـ رقم العدد [14505].
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال