جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣
المغربيّ الذي غيَّر العالم
مرَّتْ يوم أمس السبت 14 أذار 2020، الذكرى 137 لوفاة كارل ماركس. كان أصدقاؤه الأقربون يسمّونه «المغربيّ»، تحبُّباً، بسبب ميل بشرته إلى السمار. وقد أُضطُرَّ لتمضية معظم حياته خارج وطنه (ألمانيا)؛ حيث تنقَّل ما بين بلجيكا وفرنسا واستقرَّ في بريطانيا ومات (ودُفِن) هناك.

عاش «المغربيّ» في بريطانيا في جوٍّ من الفاقة الشديدة، التي لم يكن يخفِّف منها سوى مساعدات رفيقه فريدريك أنجلز. ومع ذلك، فقد تمكَّن مِنْ إنجاز ثروة فكريَّة هائلة غيَّرت التاريخ وتركتْ بصماتها العميقة على الفكر البشريّ بمجمله. وقد اعتبر العديد من المفكِّرين البارزين الماركسيّةَ فلسفة القرن العشرين؛ بل إنَّ جاك دريدا، الذي أمضى معظم عمره في العداء لها، رأى، بعد انهيار الاتِّحاد السوفييتيّ، أنَّ الماركسيّة هي فلسفة القرن الواحد والعشرين أيضاً، وألَّف كتاباً شهيراً بعنوان «أطياف ماركس» عبَّر فيه عن استمرار حضور ماركس..

أهمّ التحوّلات السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة والثقافيّة والفنيَّة التي حدثتْ في القرن العشرين تأثَّرتْ، بصورة أو أخرى، بالماركسيَّة. وحتَّى هذه اللحظة، لا يستطيع أحد، بغضّ النظر عن منطلقاته الفكريَّة وآرائه السياسيَّة، أنْ يتحدَّث، بجدِّيَّة وعمق، في السياسة أو الاقتصاد أو علم الاجتماع أو الفنون والآداب، مِنْ دون أنْ يستعين بمفاهيم الماركسيَّة وأدواتها العلميَّة.

ولقد حقَّق العديد مِنْ شعوب آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينيّة استقلاله، وأرسى دعائم تحرّره الوطنيّ، وبنى تنميته وتقدّمه، بالاستناد إلى الماركسيَّة، أو بفضل التفاعلات التاريخيَّة العظيمة التي ارتبطت بها، أو بتأثير أفكارها.

وفي روسيا، أطاح الشعب الروسيّ في ثورة تشرين أوَّل (أُكتوبر) 1917 بالنظام القيصريّ المتهالك، وأقام دولةً جديدة (الاتِّحاد السوفييتيّ)، رغم كلّ ما تعرَّضتْ له مِنْ حصار ومِنْ حروب ومؤامرات، وما شاب تجربتها مِنْ أخطاء وعثرات، إلا أنَّها جعلتْ مِنْ روسيا قوَّة عظمى تناطح القوى الإمبرياليَّة مجتمعة. وليست عودة روسيا الآن إلى واجهة المجتمع الدوليّ بمعزولة عن إنجازات الدولة السوفييتيَّة ونجاحاتها. وقد وصف الرئيس الروسيّ الحاليّ، فلاديمير بوتين، انهيار الاتّحاد السوفييتيّ بأنَّه «أكبر كارثة جيوسياسيّة في التاريخ».

أمّا الصين، التي يشكِّل شعبها سُدس سُكَّان العالم، فقد كانت مستعمرة ومستعبدة ومستغلّة ومتخلِّفة، إلى أنْ تمَّ تحريرها، على يد الحزب الشيوعيّ الصينيّ بقيادة ماوتسي تونغ. وبعدئذٍ، تمَّ إرساء دعائم استقلالها، وإنجاز تنميتها وتقدّمها، وبناء اقتصادها المتمحور على الذات، وها هي الآن توشك أنْ تُصبح الدولة صاحبة الاقتصاد الأوَّل في العالم.

ومع ذلك، يجري طمس حقيقة أنَّ تطوّر وتقدّم الصين الحديثة، كلّه، كان (ولا يزال) بقيادة الحزب الشيوعيّ الصينيّ وإشرافه، وأنَّ هذا الحزب لا يزال هو مَنْ يضع خطط تطوّر الصين الاقتصاديّ والاجتماعيّ ويرسم سياساتها؛ بغضّ النظر عن الآراء التي قد تُقال بشأن طبيعة نظامها الاقتصاديّ الاجتماعيّ. لكن يكفي، في كلّ الأحوال، أنَّها دولة قادرة على تأمين الاحتياجات المعيشيَّة لمليار ونصف مليار إنسان من الغذاء، والعلاج، والتعليم، والمسكن، والعمل.. مع أنَّه ليس لديها بترول أو ثروات معدنيَّة مشابهة؛ في حين لا تستطيع دول أخرى متقدِّمة صناعيّاً وأقلّ منها سكّاناً بكثير أنْ توفِّر الاحتياجات الأساسيَّة للكثير مِنْ مواطنيها.

 ويمكن الحديث، كذلك، عن فيتنام والعديد مِنْ دول جنوب شرق آسيا. وفي الهند يحكم الشيوعيّون أكثر مِنْ ولاية، منذ عقود، عن طريق صندوق الاقتراع، وقد تحقَّقتْ فيها إنجازات مهمّة. وفي السنوات الأخيرة، تسلَّم الشيوعيّون السلطة، في نيبال، بوساطة صندوق الاقتراع. وفي قبرص يحكم الحزب الشيوعيّ القبرصيّ (أخيل) منذ عقود بوساطة صندوق الاقتراع.. الخ.

والأمر، نفسه، يمكن أنْ يُقال، أيضاً، عن التغييرات اليساريَّة الواسعة في بلدان أميركا اللاتينيَّة، ابتداء مِنْ أواخر تسعينيَّات القرن الماضي. وهذا، في حين أنَّ المراكز الرأسماليَّة الدوليَّة وصلتْ في أزمتها المستحكمة إلى طريقٍ مسدود.

وبالاستناد إلى الماركسيّة وكفاحها الثوريّ، كُرِّس، عالميّاً، العديد من الحقوق الإنسانيَّة والاجتماعيَّة.. حقوق المرأة (أوّل وزيرة في التاريخ كانت السوفييتيّة ألكسندرا كولنتاي)، وحقوق الفقراء، والتأمينات الاجتماعيّة، وتحديد ساعات العمل، وحقّ الاقتراع العامّ الذي كان قبل ذلك مرتبطاً بالمِلِكيّة وكانت النساء أيضاً محروماتٍ منه، وفكرة إعلاء قيمة الإنسان، وتمجيد الشعوب، والانتصار للطبقة العاملة والكادحين، ونشر القيم والأفكار التقدميَّة الأخرى المختلفة.. الخ.

قبل الماركسيّة، كانت الطبقة العاملة طبقةً بذاتها وليست لذاتها، والأمر نفسه ينطبق على الشعوب.

قال أنجلز في تأبين رفيقة ماركس: «... اكتشف ماركس قانون تطوّر التاريخ البشريّ: الحقيقة البسيطة التي تخفيها هيمنة الأيديولوجيا وهي أنَّ الإنسان يجب أوَّلاً أنْ يأكل ويشرب ويجد المأوى والملبس قبل أنْ يصبح في استطاعته الاهتمام بالسياسة والعلم والفنّ والدين الخ...»

وقال أنجلز أيضاً في المناسبة نفسها: «كان ماركس قبل كلّ شيء ثوريّاً. وكانت مهمّته الأولى في الحياة المساهمة بطريقة أو بأخرى في الإطاحة بالمجتمع الرأسماليّ وبمؤسَّسات الدولة التي جلبها معه وكذلك المساهمة في تحرير البروليتاريا الحديثة التي كان هو أوَّل مَنْ جعلها تعي موقعها وحاجاتها وتعي شروط تحرّرها. لقد كان الكفاح أمراً أساسيّاً بالنسبة له فكافح بحبّ وعزم ونجاح لا ينافسه فيه إلا قليلون».

وأضاف قائلاً: «وكنتيجة لذلك كان ماركس أفضل المكروهين وأكثر المشهَّر بهم في عصره فقامت حكومات مطلقة وجمهوريَّة على حدٍّ سواء بترحيله عن أراضيها وتنافس البرجوازيّون من المحافظين أو مِنْ أقصى الديمقراطيّين بالتشهير به والثلب لشخصه».

يحاول البعض، الآن، بسوء نيَّة أو عن جهل، اختزال الماركسيَّة بالتجربة السوفييتيَّة؛ للقول إنَّ هذه انهارتْ مع تلك؛ لكن، مع تقديرنا العالي لعظمة تلك التجربة، بكلَّ ما شابها مِنْ أخطاء وعثرات، إلا أنَّه يجب التذكير بأنَّ الاتَّحاد السوفييتيّ ليس هو الذي أنتج الماركسيَّة؛ بل هي التي أنتجته في واقع معيَّن وضمن ظروف تاريخيَّة محدَّدة.

وبعد انهيار الاتّحاد السوفييتيّ بعقود، يلفتُ النظر أنَّ خصوم الماركسيّة لا يتوقَّفون عن القول بإلحاح غريب: إنَّ الماركسيّة ماتت.

حسناً! ما دامت الماركسيّة قد ماتت، فلماذا تشغلون بالكم بها إلى هذا الحدّ.. كما لو أنَّها كابوس يواصل الظهور في مناماتكم؟!

في مسرحيَّة «ماركس في سوهو»، للكاتب والمؤرّخ الأميركيّ هوارد زين[1] (وهو، بالمناسبة، ليس ماركسيّاً)، التي كُتِبَتْ وعُرضتْ في تسعينيَّات القرن الماضي، يُستعاد كارل ماركس «مِنْ حيث هو» إلى زمن ما بعد انهيار الاتِّحاد السوفييتيّ. بيد أنَّ «خللاً بيروقراطيّاً» غير مفصَّل في المسرحيَّة، أدَّى إلى خطأٍ فادحٍ في مكان عودة ماركس؛ حيث وجد نفسه في حيّ سوهو في نيويورك بدلاً مِنْ حيّ سوهو القديم في لندن الذي عاش فيه منفيّاً معظم حياته إلى أنْ مات.

إنَّها «مصادفة» موضوعيَّة محكومة بالضرورة التاريخيَّة التي أدَّت إلى انتقال قيادة الرأسماليَّة العالميَّة من القارَّة العجوز (وتحديداً من الإمبراطوريّة العظمى التي كانت الشمس لا تغيب عن مستعمراتها) إلى القارَّة الفتيَّة الرابضة على الضفاف الأخرى للأطلسيّ.

المهمّ..

في مسرحيّة هاورد زين، تلك، يبرِّر ماركس المتخيَّل عودته، قائلاً: «عُدتُ لأدافع عن اسمي».

ويتابع موضِّحاً: «كنتُ أقرأ صحفكم (يلتقط واحدة منها) تدَّعي كلُّها أنَّ أفكاري قد ماتت! لا جديد في هذا. ما فتئ أولئك المهرِّجون يردِّدون هذا منذ أكثر مِنْ مئة سنة. ألا تتساءلون: ما الذي يجعل مِنْ إعلان موتي مراراً وتكراراً شيئاً ضروريّاً بالنسبة لهم؟».

وفي النهاية، يبقى أنَّ ماركس – بخلاف الفلاسفة الآخرين الذين سبقوه – لم يكتفِ بتفسير العالم؛ بل عمل، أيضاً، مِنْ أجل تغييره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] هوارد زين، كاتب وأستاذ جامعيّ ومؤرِّخ أميركيّ، وُلِدَ في العام 1922 وتوفِّي في العام 2010. مِنْ أشهر كتبه كتاب «التاريخ الشعبيّ للولايات المتّحدة الأميركيّة». وقد عُرِف بمعارضته للحروب الإمبرياليّة (خصوصاً لحربيْ الولايات المتّحدة الأميركيّة على فيتنام وعلى العراق)، كما عُرِفَ بدفاعه المثابر عن حقوق الإنسان.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال