جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣

الربيع العربيّ وعُقدة الكونت دي مونت كريستو
يَطرح البعض شعارات ضبابيّة ضدّ بيع أملاك الدولة ومقدّراتها للقطاع الخاصّ أو لشركاتٍ أجنبيّة.

حسناً! هل معنى ذلك أنَّه يؤيِّد القطاع العامّ ويرفض «الخصخصة» مِنْ حيث المبدأ؟

إذا كان كذلك، فينقصه إيضاح موقفه هذا وصياغته في برنامجٍ سياسيٍّ اجتماعيٍّ اقتصاديٍّ متماسك.

أمّا إذا كان لا يؤيِّد القطاع العامّ ولا يرفض «الخصخصة»، أو كان اعتراضه مقصوراً على أسعار البيع (ومَنْ باع ولِمَنْ) وليس على مسألة البيع مِنْ أساسها، فمعنى ذلك أنَّ الأمر بالنسبة له لا يتعدَّى حدود الدعاية الرخيصة، ومن المؤكَّد أنَّه – والحال هذا – لن يُلزم نفسه بعدم بيع أملاك الدولة ومواردها إذا ما قُيِّض له أنْ يتسلَّم السلطة.

ويَطرح البعض شعارَ الحرّيّة والديمقراطيّة. لكنّه لا يوضّح مفهومه للحرّيّة والديمقراطيّة. العهد الدوليّ الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسياسيّة هو الحدّ الأدنى المقبول الآن لتوفّر شروط الحرّيّة وحقوق الإنسان وحقوق المواطن، وقد توصَّلتْ إليه البشريّة بعد معاناة شديدة استمرَّتْ  قروناً طويلة. وعلى مَنْ يتحدَّث عن الحرّيّة بصدق وجدّيّة أنْ يعلن (ويؤكّد) التزامه بهذا الحدّ الأدنى المتعارف عليه مِنْ دون تَلَكُّك. سوى ذلك يعني أنَّ كلامه عن الحرّيّة والديمقراطيّة غير جدّيّ، وأنَّه يريد استغفال الناس، لكي يمنح نفسه الحقّ الحصريّ لتفسير حقوقهم كبشر وكمواطنين على هواه ووفق رؤيته الخاصّة وبمقياس مصالحه.

والبعض يقدّم نفسه كنصيرٍ للفقراء ومناضلٍ ضدّ الفقر؛ فهل لديه تصوّرٌ معيّن لتوزيعٍ الدخل والثروة توزيعاً عادلاً؟ أم أنَّه يفكِّر فقط في برنامجٍ للإحسان والتصدُّق؟ إذا كان هذا الخيار الأخير هو ما يفكِّر فيه، فمعنى ذلك أنَّه لا يقيم وزناً للحقّ الإنسانيّ في الحياة الكريمة الذي يجب على الدولة رعايته، وأنَّه يسلِّم بالفقر كثابت مِنْ ثوابت الحياة، وبالتفاوت الطبقيّ الفادح كقدرٍ لا رادّ له؛ وسيكون برنامجه في هذا المجال متوقِّفاً عند حدود تحسين شروط الفقر والقهر والاستغلال الطبقيّ ولا يرقى إلى مستوى إزالة أسبابها جميعاً مِنْ جذورها. وفي هذا المستوى، لا يوجد نظام في العالم الآن بلا برنامج لتحسين شروط الاستغلال والقهر الطبقيّ.. بغضّ النظر عن اختلاف مسمَّيات هذه البرامج وتفاوت مستوياتها.

والبعض يعلن أنَّه ضدّ نهج التبعيّة؛ التبعيّة بُنية وليست نهجاً. والحديث عن النهج يعني التركيز على ظاهر المشكلة وليس على جوهرها. أمّا بديل التبعيّة فهو برنامج التحرّر الوطنيّ وليس إجراءاتٍ ما آنيّة لتعديل مظاهر التبعيّة فقط.. كما يوحي شعار «تغيير النهج». ويشتمل برنامج التحرّر الوطنيّ على خطط علميّة مدروسة للتنمية الوطنيّة المتمحورة حول مصالح البلاد والشعب، وإعادة توزيع الدخل والثروة على نحوٍ ينصف أوسع الفئات الشعبيّة.

في العقدين الماضيين، كان واضحاً أنَّ الأنظمة التابعة وصلت إلى طريقٍ مسدود. ومعروفٌ أنَّ الدوائر الإمبرياليّة لا تترك مثل هذه الأمور المهمّة للصدفة أو للتفاعلات الداخليّة الخاصّة، بل إنَّها تدرس احتمالاتها جيّداً وتجهِّز العديد من السيناريوهات لتتعامل بها معها. وقد كان واضحاً أنَّ مجيء أوباما إلى واجهة السلطة الأميركيّة، ثمّ خطابه الشهير في القاهرة، وصعود حزب العدالة والتنمية إلى سدّة السلطة في تركيا، والاتّصالات التي جرت مع «الإخوان المسلمين» عبر السفارات الأميركيّة والبريطانيّة والفرنسيّة، ومِنْ ضمنها سفارات هذه البلدان في عمّان، ابتداء مِنْ أواسط العقد الماضي، وكذلك الزيارات المتكرّرة التي قامت بها قيادات «إخوانيّة» بارزة إلى الولايات المتّحدة في الفترة نفسها – كان واضحاً، مِنْ هذا كلّه، أنَّ ثمّة خطّة لتضمين الأنظمة التابعة لـ«الإخوان»، كمقاوَلة من الباطن، ليوسِّعوا قاعدتها الاجتماعيّة.. بعدما كانت قد تآكلت؛ ويطيلوا عمرها.. بعدما أصبح مهدّداً بالانتهاء، ويحصِّنوها بـ«تفويضٍ إلهيّ».. بعدما فقدت شرعيتها، مع حفاظهم على بنية التبعيّة (الاقتصاديّة الاجتماعيّة والسياسيّة) كما هي.. لكن بمسمّيات إسلاميّة؛ ليصبح اسم الليبراليّة «اقتصاداً إسلاميّاً»؛ والفائدة البنكيّة «ربحاً حلالاً»، والتفاوت الطبقيّ «سنّة مِنْ سنن الله»، والتجارة «عملاً مباركاً»، والقهر السياسيّ «شريعةً إلهيّة»! والنتيجة هي مستوى أكثر بشاعة من الاستغلال الطبقيّ والقهر السياسيّ.. خصوصاً لأنَّه بهذا يكتسي بقالبٍ مقدَّس.. حتَّى إنْ كان زائفاً.

وإنَّ وقوف «الإخوان المسلمين» الآن كبديل متربِّص في معظم البلدان العربيّة، هو معضلة حقيقيّة تجعل الأفق السياسيّ مسدوداً وتحول دون انخراط قطاعات واسعة من الناس في عمليّة التغيير.

برنامج «الإخوان» السياسيّ – كما رأينا تطبيقاته في مصر وتركيا والسودان – يتمحور حول السعي إلى «التمكين» الذي عند اكتماله تصبح ممارسة المعارضة السياسيّة كُفراً. وأمّا برنامجهم الثقافيّ فيتمحور حول نفي كلَّ التباينات الثقافيّة وفَرْضِ وصفتهم الثقافيّة الخاصّة على الناس في كلّ جوانب حياتهم الشخصيّة والاجتماعيّة وعلاقاتهم.. بل إنَّ هذه الوصفة تبلغ من العنت حدَّ أنَّها تتدخّل حتَّى في أنماط لبس الناس وأكلهم وشربهم وأدقّ شؤونهم الشخصيّة. وتبلغ بهم شدّة الجفاء للتنوّع الثقافيّ حدَّ أنَّهم يعتبرون أيَّ مطالبة من الآخرين بحقوقهم الثقافيّة تجاوزاً وتجرّؤاً على حقوقهم هم (أي «الإخوان»)!

بالخلاصة..

تجارب الناس، خلال الفترة الماضية، مع «الربيع العربيّ»، أورثتهم ما أُسمِّيها عقدة «الكونت دي مونت كريستو»؛ ففي رواية ألكسندر دوما، التي تحمل اسم «الكونت دي مونت كريستو»، ثمَّة سجينٌ يظلُّ يحفر أسفل جدار زنزانته طوال سبع سنوات، طامعاً في أنْ يصنع نفقاً يقوده إلى فضاء الحرّيّة؛ لكنّه، عندما ينتهي مِنْ حفر النفق ويتسلَّل عبره، يُفاجأ بأنَّه قد انتقل مِنْ زنزانته إلى زنزانةٍ أخرى وليس إلى الحرّيّة!

وفي مثالنا الواقعيّ الراهن، الزنزانة التي تنتظر خلف النفق هي الأشدّ ضيقاً وعنتاً والأكثر بؤساً وكآبة.

ولذلك، ثمَّة حاجة ملحّة إلى الاتّفاق على مبادئ ميثاقيّة تأخذ بعين الاعتبار مصالح البلاد ومصالح أوسع الفئات الاجتماعيّة، وتحترم جميع التباينات الثقافيّة والاثنيّة بمختلف أصنافها؛ لكي تطمئنّ كلّ فئة اجتماعيّة أو سياسيّة أو ثقافيّة بأنّها لن تُغبَن، وأنَّ المشهد الثقافيّ الاجتماعيّ سيكون بانوراميّاً تعدّديّاً وليس بؤريّاً تُفرَضُ مِنْ خلاله ثقافةٌ ما على سواها من الثقافات، وتُغلَّبُ مصلحةُ طرفٍ سياسيّ (أو طبقيّ) على مصالح سواه من الأطراف.

ووثيقة «عهد وميثاق مع الأردنيّات والأردنيين الأحرار»، التي صدرت قبل أشهر عن «لجنة المتابعة الوطنيّة»، إنَّما هي خطوة مهمّة على هذا الطريق.

وبالنسبة للناس المعتصمين في بيوتهم، وأولئك الذين يسمحون لمخاوفهم بأنْ تشلّ فعلهم، أقول لهم: أنتم تتركون مصيركم بيد غيركم.. وخصوصاً، بيد خصومكم الذين تخشونهم.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال