جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات 
مَنْ ذا الذي كسر لعبتنا؟
«غريبٌ كيف أنَّ السقوطَ يُشعِرُنا كأنَّنا نحلِّق لبعض الوقت».

هذه عبارة مقتطفة مِنْ أغنية جميلة في فيلم أجنبيّ شاهدته ذات مرَّة. وقد ذكَّرتني بالكثير من العبارات المتألِّقة التي قرأتها في مراحل مختلفة مِنْ حياتي، سواء أكانت ضمن أفلام أو كتب أو مجلَّات وصحف. وكثيراً ما كنتُ أُدوِّن مثل هذه العبارات على دفاتر صغيرة أو في أوراق متفرِّقة؛ ففيها خلاصاتٌ مكثَّفة لتجارب إنسانيَّة عميقة.

تذكَّرتُ على سبيل المثال عبارةً قرأتها في حوارٍ لفيلمٍ سوفييتيٍّ جميل شاهدتُه عندما كنتُ طالباً جامعيّاً في مقتبل العمر. أعجبتني تلك العبارة كثيراً، فسجَّلتها في المكان المخصَّص لاسمي على ظاهر حقيبتي الصغيرة التي كنت أضع فيها أوراقي الجامعيَّة. وكانت تقول، كما أذكر:

«إذا أراد المرء شيئاً بقوَّة فسيتحقَّق».

وأذكر أنَّ الثقة الشديدة، التي انطوت عليها تلك الكلمات، أثارت استغرابي؛ لكنَّها أعجبتني كثيراً وأصابتني بعدواها.

ظللتُ أحمل حقيبتي الصغيرة، تلك، أينما ذهبتُ، إلى أن استقرَّ بي المقام في «بيت خالتي».. كما يقولون.

وليس مهمّاً، بعد ذلك، كم الذي تحقَّق مِنْ ما أراده المرء وكم الذي لم يتحقَّق؛ المهمّ هو كم كان مقدار ثقته بنفسه وبقدراته وبصحّة خياراته.

فالثقة تمنح الأمل وتُصالِحُ الإنسان مع نفسه، والأمل يمنح الحياة طعمها الخاصّ الذي لا تكون مِنْ دونه حياةً.. بل شيئاً آخر أقلَّ قيمةً ومعنىً.

وهذا يحيلني إلى العبارة الشهيرة لـ«آرنست همنغواي»:

«الإنسان قد يُدمَّر، ولكنَّه لا يُهزم».

إنَّها لغة تنتمي إلى زمنٍ كانت فيه إنسانيَّة الإنسان (وليس رأس المال، بالتأكيد) هي القيمة العليا التي تمجِّدها الفلسفات والآداب والفنون والمبادئ والأفكار.

وآنذاك، كان إعلاء قيمة الإنسان يفضي بالضرورة إلى إعلاء قيمة الحياة والانتصار لها. المقصود هنا طبعاً الحياة.. الحياة، وليس «مجرَّد العيش» أو البقاء على «قيد الحياة».. كما كان يقول أديبنا الكبير الراحل مؤنس الرزَّاز.

«يتوق قلبي إلى الربيع
ولو للحظة.
ما حاجتي
إلى الراحة
وإلى الحياة الخالية من النار واللهيب».

الشاعر السوفييتيّ الأذريّ رسول رضا
(1910 نيسان 1981)

وصورة الحياة المتألِّقة، تلك، مرتبطة بصورة الموت الذي يليق بها:

«أريد أنْ أضحك من الأعماق
وأبتهج من القلب
وأحتضن بحرارة
الناس الذين أُحبّهم
ومِنْ ثمَّ، إذا اقتضى الأمر،
أريد أنْ أموت
كشجرة بلّوط ضخمة
تصدَّعتْ في العاصفة
واقتُلِعتْ مِنْ جذورها».
(رسول رضا، أيضاً)

وفي الصفحة تالية مِنْ أحد دفاتري الصغيرة القديمة دوَّنتُ ذات مرَّة:

«سؤال: لماذا يهلكُ كثيرٌ من الرجال الأذكياء هذه الأيَّام؟

جواب: لأنَّهم يقفون قرب الخطّ الفاصل، والبعض منهم لا يستطيعون أنْ ينسحبوا».

(مِنْ فيلم أو مسلسل تلفزيونيّ أجنبيّ.. لا أذكر بالضبط)

وعلى ورقة صغيرة منفصلة، دوَّنتُ في زمنٍ بعيدٍ عباراتٍ مختارةً من «الأخوة الأعداء» لـ«كازانتزاكي»:

«الحريَّة هي الخضوع للفكرة، لا الخضوع للهوى».

وأيضاً:

«إنَّ قلب الإنسان مثل شرنقة القزّ. انفخْ فيه يا ربّ لتخرج الفراشات مِنْ داخله».

وكذلك:

«نحن نصارع مِنْ أجل شيءٍ لا يمكن بلوغه. ولهذا السبب لم يعد الإنسان حيواناً».

ويقصد كازنتزاكي، بالشيء الذي لا يمكن بلوغه، الحريَّة.

وعلى ورقةٍ أخرى، تنقلنا المقتطفات من الأدب إلى الفكر السياسيّ، فنقرأ لـ«أنجلز»:

«صحيح أنَّه ينبغي على البرجوازيَّة أنْ تخشى بالقدر نفسه جهل الجماهير طالما هي محافظة، ووعي هذه الجماهير حالما تصبح ثوريَّة».

ونقرأ له أيضاً:

«فليس إدراك الناس هو الذي يعيِّن معيشتهم، بل على العكس مِنْ ذلك، معيشتهم الاجتماعيَّة هي التي تعيِّن إدراكهم».

وفي ورقة أخرى، نقرأ لـ«غرامشي»:

«لقد ازداد تشاؤمنا، ولكن البزّة التي نرتدي ما زالت حيَّة وقائمة، وهي تمثِّل تشاؤم الذكاء، وتفاؤل الإرادة».

كما نقرأ له أيضاً:

«التاريخ ينتهي دوماً إلى حكمٍ عادلٍ على التفاهات والأخطاء المرتكبة».

وثمَّة عبارة يبدو أنَّني نسيتُ أنْ أدوِّن اسم قائلها:

«الثقافة ليستْ بطاقة عضويَّة مدى الحياة؛ ثقافة المرء هي موقفه».

ونعود إلى الأدب، فنقرأ في ورقةٍ أخرى مِنْ رواية «غير المرغوب فيه» لـ«ريجيس دوبريه»:

«الحياء لا يتيح الوقت للحياة».

وأيضاً:

«من الصعب أنْ يقسِّي المرءُ قلبَه مِنْ دون أنْ يفقدَ الحنانَ، كما يقول تشي».

وواضحٌ، طبعاً، أنَّ «تشي»، الذي يقصده دوبريه هنا، هو «تشي غيفارا».

ونختم مع دوبريه أيضاً:

«مَنْ ذا الذي خرَّبَ حلمَنا؟ كَسَرَ لعبتَنا؟ لماذا ينبغي أنْ نكبرَ ونجدَ أنفسَنا على هذه الدرجةِ من الوحدةِ؟».
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال