جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣
شهادة شاهد وفاعل من الخندق الآخر
سأقوم، تالياً، ببعض التمهيد الضروريّ لموضوعي ثمّ أدخل صلبه. وصلب الموضوع هنا هو كتابُ مذكّراتٍ لرجلٍ كان في موقعٍ أمنيٍّ خطير في ظرفٍ محتدم. لذلك، فإنَّ كتابه هذا ينطوي على أسرارٍ ومعلوماتٍ مهمّة وفيها الكثير من الدروس والعِبَر.

أتَّفق مع الدكتور سمير أمين في أنَّه لا يمكن لرؤية اقتصاديّة اجتماعيّة سياسيّة أنْ تكون جدّيّة وعلميّة إلا إذا تعاملت مع النظام الرأسماليّ الدوليّ ككتلة واحدة تشمل العالم كلّه. وفي هذا السياق نفسه، فقد كنت أنظر (وكتبتُ عن ذلك مراراً) إلى الاتّحاد السوفييتيّ و«الكتلة الاشتراكيّة» كحالة اعتراضٍ كبرى على النظام الرأسماليّ الدوليّ ومقاومة له، ولم أكن أوافق على الطرح الذي كان يتحدَّث عن نظامين دوليين قائمين (اشتراكيّ ورأسماليّ)؛ بل كان نظاماً رأسماليّاً وفي نطاقه كانت توجد معارضة اشتراكيّة قويّة. فالآليّات الاقتصاديّة التي كانت تتحكّم بالنظام الدوليّ بمجمله، كانت رأسماليّة. ولذلك، كان الاتّحاد السوفييتيّ ومعه دول المنظومة الاشتراكيّة وحركة التحرّر العالميّة حين يخرجون في تعاملاتهم الاقتصاديّة عن نطاقاتهم المحلّيّة  يجدون أنفسهم مضطرّين للخضوع للقوانين الاقتصاديّة الرأسماليّة.

وفي هذا الإطار، يمكن القول عن النظام الرأسماليّ الدوليّ، بالإضافة إلى حالة الاستقطاب التي تسوده بين مراكز وبين هوامش وأطراف، إنَّه ينقسم أيضاً إلى موالاة ومعارضة (مثل أيّ دولة مِنْ دول العالم). وهذا التصوّر ضروريّ لفهم الصراع بين المعارضة اليساريّة القوميّة الأردنيّة وبين النظام خلال خمسينيّات القرن الماضي وستينيّاته، وفهم طبيعة تحالفات الطرفين الإقليميّة والدوليّة. وفي هذا السياق نفسه، يمكن إدراج الصراع بين الأنظمة القوميّة التقدّميّة (كنظام عبد الناصر في مصر) وبين الأنظمة الموالية لمراكز النظام الرأسمالي الدوليّ.. وخصوصاً للولايات المتّحدة.

الخندق الآخر، بالنسبة لكاتب هذه السطور هو الخندق الذي كانت (ولا تزال) تقوده الولايات المتّحدة الأميركيّة وتندرج في إطاره «إسرائيل» وأنظمة التبعيّة في العالم العربيّ وسواه والتيّارات السياسيّة التي تخدمه بأفعالها ودعايتها (سواء أكانت تعلن ولاءهها له أم تخفيه).

ولقد دار، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، صراعٌ مرير بين السلطة الحاكمة في الأردن وبين المعارَضة الأردنيّة. وكانت للسلطة شبكة تحالفات في الداخل والخارج، كما كانت للمعارضة أيضاً شبكة تحالفات في الداخل والخارج. حيث شكَّلت الحرب الباردة (والساخنة في الكثير من الأحيان) الإطار الأوسع والأشمل لهذا الصراع. وفي هذا السياق، كانت السلطة الحاكمة جزءاً مِنْ موالاة النظام الرأسماليّ الدولي المهيمن، في حين كانت المعارضة الأردنيّة جزءاً مِنْ معارضة هذا النظام الدوليّة.

ومن المفيد والممتع للمرء أنْ يطَّلع الآن على انطباعات واحدٍ من الذين خدموا في الخندق الآخر عن ما كان يدور حوله وأمامه. وهذا ما مثَّلته لي مذكِّرات الضابط سامي السماعين، نائب رئيس «القسم السياسيّ» منذ تأسيسه في العام 1957 وحتَّى استقالته منه في العام 1964.

نُشِرَتْ هذه المذكِّرات في كتاب بعنوان «سامي السماعين.. مذكِّرات ضابط أردنيّ، خفايا وأسرار (1948 2004)». وهو مِنْ إعداد وتحرير: د. عبد الله مطلق العسَّاف ولينا مشربش.

قام «القسم السياسيّ»، وخصوصاً نائب رئيسه سامي السماعين، في أواخر الخمسينيّات وحتَّى أواسط الستينيّات، بدورٍ كبير في ملاحقة المعارضين الأردنيين والتحقيق معهم وزجِّ عددٍ كبيرٍ منهم في السجون.

ويروي السماعين الكثير من القصص اللافتة عن الأساليب التي اتَّبعها القسم ضدّ المعارضين، وضدّ أنظمة الحكم في بعض البلدان العربيّة الأخرى.

ويُسَجَّل لكتاب سامي السماعين، صراحته العارية، وتركيزه على سرد الوقائع أكثر من التعبير عن الأفكار والمواقف النمطيّة والبروباغندا الرسميّة (رغم أنَّ الكتاب لا يخلو مِنْ وجود نماذج لهذه كلّها بين دفَّتيه).

وأُقدِّم، تالياً، بعض المقتطفات من الكتاب، مع الإشارة إلى مواضعها فيه، مِنْ دون مناقشتها أو التعقيب عليها. وسيقتصر دوري، هنا، على توضيح بعض الجوانب التي تحتاج إلى توضيح بأقلّ قدر ممكن من الكلمات، ووضع عناوين دالّة لهذه المقتطفات.

إعلام خارجيّ لتشويه سمعة المعارضين

«فإذا أردت أنْ تضرب شخصاً ما فدمِّره إعلاميّاً، ويتمّ ذلك مِنْ خلال نشر الأخبار والمقالات عنه في الخارج وليس في الداخل، وكنت أكتبُ هذه المقالات وأرسلها إلى اللجان المعنيّة في سوريا ولبنان لنشرها في الصحف هناك، ومِنْ ثمّ نقوم بإدخال الصحف إلى داخل الأردن، وبذلك نكشف صورة المناوئين والمعادين للنظام الأردنيّ، فعلى سبيل المثال كنت أكتب مقالات ضدّ هؤلاء في جريدة الأيّام السوريّة وبالمقابل كنّا نكتب مقالاتٍ في جريدة الحياة اللبنانيّة للغرض نفسه» - «سامي السماعين مذكِّرات ضابط أردنيّ، خفايا وأسرار (1948 2004)» - ص 88

سياسة العصا والجزرة

«وكنت أتعامل مع المناوئين بإغراءاتٍ معيَّنة سواء مادّيّة أو وظيفيّة لقلب أفكارهم مِنْ مناوئين إلى موالين فكنّا نتعامل مع المتنفِّذين الكبار باستخدام حقِّنا في الأحكام العرفيّة» - ص 89

«الإخوان» كانوا معنا، ولكن..

«... إذ كان النشاط الحزبيّ محظوراً في تلك الفترة، باستثناء جماعة الإخوان المسلمين الذين حالفوا النظام، ومارسوا نشاطهم بصورة علنيّة في الساحة الأردنيّة، وقد تعاونوا مع الدولة في مواجهة اليساريين والقوميين، وكانوا يخطبون على المنابر بتكفيرهم، وكانت التعليمات الصادرة إلينا بعدم التدخّل في نشاط الجماعة، ومع ذلك فقد رصدنا أشخاصاً مِنْ جماعة الإخوان بالسفارة البريطانيّة عند الملحق العسكريّ البريطانيّ، وآخرين كذلك بالسفارة الأميركيّة، وهذا يعني أنَّهم يتعاونون مع جهات متعدّدة». ص 89 90

الشعب كان في غليان ضدّ النظام

«وكانت نسبة المناوئين لنظام الحكم في ذلك الوقت مقلقة، فكان الجيش مليئاً بالمتآمرين والذين يعملوا ضدّ النظام. وكان الشعب الأردنيّ في حالة من الغليان ضدّ الدولة الأردنيّة والنظام». ص 92

سكوتلاند يارد تكشف صفقة سلاح للثوّار الفلسطينيين

«وقد تعرّفت على ضابط يعمل بشرطة سكوتلاند يارد أي الأمن الداخليّ في بريطانيا، فذهبت معه، وقام بتعريفي على بعض الضبّاط البريطانيين، وجلسنا فأخرج بعض الأضابير، وقال لي: تعال واقرأ هذا، فقرات الملفّ وكان يتعلّق بشراء كمّيّات كبيرة من الأسلحة، وكان للأمين العامّ للجامعة العربيّة علاقة بها. وذكر الملفّ أنَّ هذه الأسلحة ستوزّع على الثوّار الفلسطينيين، وقد ذُكرت بعض الأسماء بالملفّ ومع مَنْ تمّت الصفقة، ومِنْ ثمّ خرجنا واحتفظت بما ورد في الملفّ في ذاكرتي ودوّنته لاحقاً، واتصلت مع زملائي في القيادة العامّة في عمّان، فقالوا: لا تتحدّث عن الأمر إلا عندما تأتي، وعندها سوف نتحدّث عنه، وقد كان بإمكاني أنْ آخذ الملفّ بأكمله. لكن رئيس القسم السياسيّ رفض ذلك». ص 105

الشعب العراقيّ أيّد الانقلاب على النظام الملكيّ هناك

«ثمّ أعلن قيام الجمهوريّة العراقيّة. وبعد سماع النبأ بإذاعة البيان الأوّل، خرجت الجماهير عن بكرة أبيها على شكل موجات هائجة ومظاهرات تأييد ومناصرة تملأ شوارع العاصمة بغداد». ص 112

الانفاق على أصدقاء النظام من المال الأردنيّ

«الشيخ فنر الفيصل شيخ عشيرة شمّر (العراق)، وكان رجلاً محترماً، وكان الديوان الملكيّ الأردنيّ يدفع له راتباً شهريّاً، والقسم السياسيّ يدفع له راتباً ثانياً. وقد أرسل القائد العامّ ابن الشيخ الفنر ليدرس الطب على حساب الجيش الأردنيّ في الخارج». ص 112

القبض على إبراهيم بكر متلبِّساً بحبك المؤامرات

كتبت جريدة الحياة اللبنانيّة يوم الخميس 28 تمّوز 1960، تحت عنوان «التحقيق مع الشيوعيين»:

«وأعلن قائد منطقة لواء عجلون اليوم أنَّ التحقيقات التي أجرتها السلطات المختصّة مع الخليّة الشيوعيّة التي اُكتُشِفَتْ قبل يومين في مدينة إربد أثبتت أنَّ نيّة هذه الخليّة كانت متّجهة لتشكيل خلايا جديدة في الأردن، واتّخاذ منطقة عجلون نقطة انطلاق لحبك المؤامرات وبثّ الفساد في البلاد.

وكان قد أُعلِنَ أنَّ بين الذين قُبض عليهم عند اكتشاف هذه الخليّة إبراهيم بكر المحكوم غيابيّاً بالسجن 15 عاماً بتهمة الانتماء إلى الحزب الشيوعيّ المنحلّ». ص 121

خطّة لاغتيال عبد الناصر بسيناريو اغتيال كينيدي

«... درستُ عمليَّة اغتيال الرئيس الأميركيّ جون كينيدي للاستفادة منها في الترتيب لعمليّة اغتيال عبد الناصر، فلا يمكن أنْ يتمّ الترتيب للعمليّة إلا بجهاز رسميّ، ولا يمكن أنْ يتمّ عن طريق متآمرين مِنْ خارج الجهاز. وقد جرى الترتيب للعمليّة بدقّة متناهية، واستخدمنا لذلك وفيق ضحى (لبناني)، وهيّأنا كلّ شيء لأجل هذا الهدف، فقد بدأنا في البداية نغدق على وفيق ضحى الأموال، وندعوه للذهاب إلى العشاء والسهرات، وقد دعوناه للتعرّف على فتاة، كي نريحه نفسيّاً ومِنْ أجل أنْ يتعوّد على البذخ والإنفاق والحاجة لنا، وكنّا نقول له: اصرف قدر ما تريد، وتمّ الترتيب للعمليّة حسب الخطّة، وكان تقرَّر أنْ يسافر عميلنا (وفيق ضحى) قبيل سفر عبد الناصر إلى هيئة الأمم المتّحدة في نيويورك لإلقاء خطابه؛ لكي يتعرّف على المنطقة والمكان جيّداً، وأرسلنا شخصاً آخر وكان يعرف المكان بشكلٍ جيّد واتّفقنا معه بأنْ يقوم هو أيضاً بقتل عميلنا ضحى بعد أنْ ينفِّذ العمليّة: ليوهمهم بإنقاذ عبد الناصر، وقد دُفع له مبلغ كبير جدّاً، وكان الشخص الثاني لبنانيّاً فالاثنان لبنانيّان، وكان الهدف مِنْ وراء استخدامهما أنْ تكون الأردن بعيدة كلّ البعد عن الشبهة». ص 135 136

«ولكن بعد أن اتّخذنا الإجراءات اللازمة للتنفيذ، وكاد المدعو وفيق ضحى أنْ ينفِّذ العمليّة، تمّ إلغاؤها في آخر لحظة بأمرٍ من القائد العامّ حابس المجالي». ص 136

«وكان ذلك (خطّة اغتيال عبد الناصر) في مطلع الستينات، وذهب عبد الناصر إلى الأمم المتّحدة وألقى الخطاب كما هو مقرَّر».

تمَّت الاستعاضة عن ذلك بعمليّات مِنْ نوع آخر؛ منها شراء ضابط ليعلن اللجوء إلى الأردن ويهاجم عبد الناصر ونظامه، ومنها أيضاً ما يكشفه السماعين على النحو التالي: «قمت بإرسال متفجّرات لمصر عن طريق عملائنا المصريين هناك وقمنا بتفجير إحداها في إحدى السينمات في القاهرة». ص 136

أمّا الغاية مِنْ ذلك، فهي بحسب كلام السماعين: «إرسال رسالة إلى عبد الناصر مفادها أنَّه إذا تمّ الاستمرار مِنْ قبل الجانب المصريّ في السياسة العدائيّة تجاه الأردن، فنحن قادرون أيضاً على استهداف النظام المصريّ في عقر داره». ص 136

«أمّا وفيق ضحى فقد قتل في انفجار عبوة ناسفة أثناء تنفيذه إحدى العمليّات خارج الأردن، فقد أعطيت له تعليمات دقيقة لكنّه لم يتقيّد بها وأخطأ في التنفيذ». ص 136

لماذا كان الشعب الأردنيّ يعارض الحكم وسياسته؟

«كانت نسبة كبيرة من الشعب الأردنيّ غير راضية عن الحكم وسياسته في البلد، فالأوضاع في الأردن غير مستقرَّة، وكان نشاط الأحزاب لا سيّما الشيوعيّة والبعثيّة منها في ذلك الوقت له تأثيره الكبير بين الناس جرّاء تداعيات القضيّة الفلسطينيّة. فقد كان الشعب يشعر بوجود تآمر على القضيّة الفلسطينيّة وتآمر على الشعب الفلسطينيّ، وبيع لقضيّته، وقد عزَّز ذلك ظهور إشاعات سيِّئة تدور حول الاجتماعات العلنيّة التي حصلت بين الأمير عبد الله الأوّل ورئيس وزراء إسرائيل (بن غوريون) في منطقة الأغوار الأردنيّة، وقد تحدّثوا في موضوع القضيّة الفلسطينيّة دون أنْ يعلن عن هذا الأمر. علاوة على أنّ الشعب الأردنيّ كان يعاني من الفقر الشديد». ص 141

مؤامرة أميركيّة وردّ فعل التلهوني حيالها

وتالياً، بعض المفارقات المتعلِّقة بما يقول السماعين إنَّه مؤامرة أميركيّة على نظام الحكم في الأردن كشفها هو وفضحها في تعميم للجيش. يقول:

«ترك اكتشافي للمؤامرة الأميركيّة التي ذكرتها سابقاً على نظام الحكم في الأردن في أثناء حكومة بهجت التلهونيّ الأولى (29 آب 1960 27 كانون أوّل 1962)، حساسيّةً في العلاقة بيننا، وذلك عندما قمت بكتابة تعميم إلى جميع وحدات القوّات المسلّحة الأردنيّة، ووضحت فيه أبعاد مؤامرة الوطن البديل (التي كان يعدّها الأميركيّون، كما يوضّح السماعين بالتفصيل في موضعٍ آخر)، فما كان من التلهونيّ إلا أنْ اتَّصل مع القيادة العامّة وطلب سحبه. ولكنّني لم أسحبه مِنْ كلّ الوحدات؛ فقد أعطيت بعض النسخ من التعميم إلى عددٍ من الضبّاط، ومع أنّ التلهوني لم يتّخذ بحقِّي أيَّ إجراء لكنّه بقي محتفظاً بها في نفسه». ص 147 148

ثورة الدخان

«وكانت سياسة بهجت التلهوني تزعج الجميع، فبينما كان الغلاء والفقر بعمّان والبلاد، بادر برفع سعر باكيت السجائر (السيّد) بقرشٍ واحد ونتيجة ذلك حصلت اضطرابات في مختلف مناطق المملكة أُطلِقَ عليها (ثورة الدخان)، وبدأت الأحداث مِنْ مدينة معان في الجنوب، واتّسعت رقعة الغضب إلى مادبا وعمّان؛ ولكنّها خمدت في النهاية؛ لأنَّ أهالي الشمال لم يشاركوا فيها، ولو انضمّ أهالي الشمال إلى بقيّة المدن، فقد كان من الممكن أنْ تعمّ الفوضى البلد كلّه». ص 156 157

حشود المستقبلين المضطرّين

تالياً، مشهدٌ يتذكّره جيلنا جيّداً، يقول السماعين: «فمِنْ خلال عملي لاحظت أثناء مرافقتي كضابط من القسم السياسيّ للموكب الرسميّ للملك الحسين في زيارته المتكرّرة للضفّة الغربيّة والمناطق الأردنيّة، صدور تعليمات تلزم سكّان كلّ قرية أو مكان يمرّ فيه موكب الملك أنْ يُخرجوا الأهالي إلى الشوارع للتصفيق والترحيب بالملك، ولاحظت أنّ الناس الذين يُجبرون على الخروج بأعداد هائلة يظهر على وجوههم التعب والاصفرار والعبوس». ص 162

«وأثناء تصفيقهم وترحيبهم لا يظهر على وجه الواحد منهم أيّ علامة للسرور والابتسامة، وصوت تصفيقهم يكاد لا يُسمع، وفيه دلالة على أنَّهم لم يخرجوا بإرادتهم، أي أنَّهم أُجبِروا على المشي والوقوف لساعات طويلة تتجاوز الأربع ساعات منذ الصباح مِنْ أجل أنْ يصل الموكب، ثمّ يصفّقون له وسرعان ما يدير الشخص ظهره للموكب ويذهب». ص 162

ويكتب السماعين تقريراً رسميّاً ينصح فيه بالتخلّي عن إيقاظ الناس من الخامسة صباحاً للوقوف بانتظار الموكب الذي قد يأتي في الثالثة بعد الظهر. كما ينصح فيه بعدم استخدام ألفاظ التفخيم (جلالة المعظّم) واستخدام كلمة الملك فقط. ولديه حجّة لافتة في هذا المجال. يقول:

«لأنَّ هذه الأعمال تثير الناس. فكيف نقول لهم جلالة الملك المعظّم، ونحن قبل عدّة أيّام ننزل لاعتقال عددٍ منهم». ص 162 163

قدَّم السماعين تقريره ذاك في العام 1961؛ ولكن، كما يقول هو: «فوجئت أنَّه لم يتمّ اتّخاذ أيّ إجراءات في ذلك الوقت». ص 163

الوزير القوميّ العربيّ

ومن الوقائع اللافتة، التي ورد ذكرها في الكتاب، واقعة اعتقال الوزير إبراهيم القطّان والتحقيق معه بتهمة التعاطف مع حركة القوميين العرب. ص 173

وصفي التلّ

وبالنسبة لعهد وصفي التلّ، يقول: «وقد اتَّسم وصفي التلّ عندما استلم الحكومة في أوائل الستينات بالتسامح مع المناوئين للنظام والحكومة ومع المعتقلين السياسيين». ص 173

سمير الرفاعيّ (الأوّل) و«القسم السياسيّ»

أمَّا سمير الرفاعيّ (الأوَّل)، فيلفت النظر أنَّه، عند تسلّمه رئاسة الحكومة للمرّة السادسة (27 آذار 1963 20 نيسان 1963)، طلب من العاملين في «القسم السياسيّ» أنْ لا يتدخّلوا «في أيّ شيء يتعلّق بالمدنيين». وقال لهم: «وبصفتي رئيساً للوزراء من الآن أقول لكم: من الممنوع أنْ تلقوا القبض على المدنيين أو أنْ تحقِّقوا معهم، وأنتم اختصاصكم الجيش فقط». ص 177

جمع السلاح أيضاً

في كانون الثاني من العام 1964، قرَّر البابا بولص السادس القيام بزيارة إلى الأردن. وبما أنَّه كان يُعدّ متعاطفاً مع إسرائيل، وبما أنَّه أيضاً قرَّر زيارة إسرائيل أوّلاً ثمّ الأردن بعدها، فقد أثار هذا سخطاً شديداً في البلاد، وأصبحت ثمَّة خشية مِنْ تعرّض البابا للاغتيال عند زيارته للأردن. فماذا فعل «القسم السياسيّ» للتعامل مع هذا الخطر المحتمل؟

يقول السماعين: «استعنت بعزمي الزغير، وهو أحد عملائي في الضفّة الغربيّة (أصبح عزمي الزغير في ما بعد مسؤولاً عن الأمن في منظّمة التحرير الفلسطينيّة في بيروت)، فأعطانا معلومات عن الأشخاص المشتبه بهم»... ص 191

ويتابع السماعين قائلاً: «فقلتُ له (يقصد عزمي الزغير): اجمع لي السلاح واشتر الأسلحة وزد في ثمنها، فإذا كان الرشّاش مثلاً يساوي عشرة دنانير ادفع به خمسة وعشرين، وإذا كان يساوي عشرين ديناراً ادفع به خمسين ديناراً، وبالفعل اشترينا الأسلحة منهم وجمعناها من الخليل ونابلس وغيرهما من المناطق التي يُشتَبه فيها بوجود أشخاص سيحاولون أنْ يقوموا بعملٍ قد يهدِّد حياة البابا» ص 191

شركة تجاريّة لغايات استخباريّة لقياس الرأي العام

«ولكن الذي لمسته بوضوح خلال عملي في الشركة (شركة الشرق الأوسط للتعهّدات المساهمة المحدودة، وكانت غطاءً لأعمال استخباريّة)، هو أنّ الشعب الأردنيّ بشكل عامّ لم يكن راضياً عن أداء الحكومات والملك». ص 237

أجهزة الاستخبارات تعمل معاً عبر الحدود

«لقد أيقنت في النهاية أنَّ الجميع ابتداءً من الأجهزة الأمنيّة السعوديّة والإماراتيّة وجميع الأجهزة الأمنيّة الخليجيّة والبريطانيّة والأميركيّة وصولاً بالأجهزة الأمنيّة الأردنيّة كانت كلّها تعمل معاً». ص 270

وبعد..
فهذه كلّها مجرَّد مقتطفات من الكتاب لا تعطي صورةً وافيةً له. وبالنسبة لي، فقد استفدتُ بقراءته واستمتعت بها. ولذلك، أرى أنَّه يستحقّ القراءة مِنْ كلِّ مشتغلٍ بالشأن العامّ.

وعموماً، فإنَّ لجوء السماعين إلى الكتابة عن تجربته الأمنيّة المهمّة، بهذا المستوى من الوضوح والصراحة، هو أمرٌ يُسجَّل له.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال