جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

ياسر قبيلات ▣
بوتين للسيسي: تذكّرهم جيّداً لأنَّهم سيعودون لزيارتكم مراراً
مثلت الزيارة الروسية اختباراً مهماً للوضع في مصر؛ كما أنها حملت إشارات قوية بخصوص القدرة والاستعداد الروسيين لمواجهة الحملة الغربية على موسكو الموجهة نحو ضرب اقتصادها من بوابة عملتها الوطنية وعوائدها النفطية.

وهنا، يمكن ملاحظة أن الآلة الحاسبة المصرية انتبهت إلى حقيقة أن العقوبات الاٌقتصادية على روسيا تضرب بالذات مناطق مساهمة روسيا بالاقتصاد العالمي، ومجالات اندماجها (وبالتالي: دعمها) للنظام المالي الدولي، الذي هو في جوهره أميركيّ.

اللحظة التالية المهمة في الزيارة هي عندما كشفت الاستعدادات الحقيقية لدى الطرفين في مجالات العلاقات الثنائية؛ وهنا يمكن الحديث مطولاً عن أن التوافق المسبق على جدول الأعمال لم يعف الجانب المصري من الشعور بالمفاجأة حيال مضامين الملفات الروسية التفصيليَّة، التي اندرجت تحت كل واحد من بنود جدول الأعمال الرئيسة.

كان من الواضح أن الطرف المصري، الذي يبني حساباته على بنديْ المساعدات والتسهيلات، يسعى إلى تخفيف حاجة القاهرة إلى الشعور بالامتنان تجاه دول الخليج من خلال اللجوء إلى الجانب الروسي، وأنه سوى ذلك يرى الزيارة برمتها كمحطة دعم سياسي للوضع القائم.

لم يكن الدعم السياسي للوضع القائم غائباً عن الزيارة الروسية. كان موجوداً في صلبها، بل يمكن الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك. والقول أنه كان متوافراً إلى درجة وضع المصريين أمام واحدٍ مِنْ خيارين كلاهما صعب، هما:

- اعادة إحياء عبد الناصر. بمعنى استئناف التعاون السابق الناجع بين مصر والاتحاد السوفيتي، على أسس جديدة، مقابل تحمل تبعات الحملة الدولية على روسيا من منطلق الثقة بقدرتها على تجاوز ميكانزم العقوبات وآثارها..

- البقاء في خانة الصداقة التي تتضمن التعاون السياسي والاقتصادي، بالحدود التي تسمح بالحفاظ على المساعدات الخليجية، والدعم السعودي.

ومن الواضح، أيضاً، أن الزيارة الروسية، جاءت بدرجة ما محمولة على الرغبة بتقديم الخيارات والبدائل غير المستعجلة للقيادة المصرية، مع توخي الحذر الدبلوماسي اللازم، والأخذ بعين الاعتبار الجسد السياسي المصري الهش، الذي قد يتمزق لدى الإقدام على أية حركة مفاجئة. وأنَّها (الزيارة) تراهن في الوقت نفسه على حتمية ذهاب القيادة المصرية إلى الاستفادة من ثقلها الجيوسياسي، عاجلاً أم آجلاً.

وبالتالي؛ من المفهوم أن حجم الملفات التي حملتها الزيارة الروسية، ومضامينها التي تخاطب طموح السيسي بتحقيق انجازات استراتيجية لمصر، ولا تتجاهل النخبة الاقتصادية التي تلتف حول الحكم في القاهرة، تشد الانتباه فعلاً، وتستدعي خطابا ترحيبياً مرتجلاً أكثر دفئاً من النص الأصلي المكتوب. ولكنها في الوقت نفسه تضع المصريين أمام خيار صعب، لا يقلل من صعوبته أن هذه الملفات لم تأت مرفقة بشروط ساسية..

ناقشت الزيارة، في واحدة من محطاتها، ملفات إقليمية واجبة لتسهيل مرور التعاون الاقتصادي الروسي المصري، وتتوقف على أبواب طهران وحدود دمشق. ومن الواضح أن الجانب المصري، بحكم ظروفه الداخلية واستعداداته الخارجية، مضطر للتجاوب. ولكنه لا يزال في تجاوبه بعيداً عن الاستدارة نحو حساباته الخاصة واغفال المواقف المحيطة، ولا يزال يبحث عن مبادرة تمنحه الحسنيين: سوريا والسعودية معاً!

وكان من شأن هذا بالذات، أن يلقي بثقله على الملفات الاقتصادية التي حملتها الزيارة الروسية، لولا أنها تراهن برفق على أن مصر لن تجد مفراً من الاستجابة بنسبة معقولة لنداء حجمها الجيوسياسي، لا سيما أن الخيارات السورية باتت محدودة، تضيق على الرهانات المفرطة هناك.

وهنا تبرز مسلمات روسية:

- لا مفر من التجربة السوفيتية، التي تفرض نفسها وتؤكد: مصر ثم سوريا. وأن النفوذ المريح في المنطقة يتطلب جمع الورقتين معاً في يد واحدة؛ وهنا، يمسك الروس بالورقة السورية، ولا معنى للحصول على الورقة المصرية طالما أنها لا تؤهلهم لمكاسب سورية.

- ولدى الروس قائمة بالدول المؤهلة، التي تمتلك حقاً نووياً. ومصر في مقدم القائمة، مؤهلة ومن حقها أن تمتلك ليس فقط مفاعلاً نووياً، بل قطاعاً نووياً كاملاً. وهذا يفرض عليها عملياً أن تتخلى عن الفوبيا الإيرانية. على الأقل من باب أخذ الموقف الروسي بعين الاعتبار، وهو موقف يرى في حصول هذه الدول على التكنولوجيا النووية جزءاً رئيساً من عملية إنشاء البنية التحتية لعالم جديد متعدد الأقطاب. وأن امتلاك هذه التكنولوجيا لا يخل بالحقائق العسكرية والمعطيات الكبرى للتفوق النوعي بالتسلح.

- لا تتحمل روسيا كلفة وجود اسرائيل، ولا تريد أن تتحمل كلفة بقائها. ولكنها أيضاً لا تنوي تحمل كلفة أية اجتهادات عسكرية تذهب باتجاه إلغائها. وهي تفضل التعامل معها كحقيقية دولية شارك العرب بصنعها. وهي في نفس الوقت تعترف بموضوعية وحق الصراع في الشمال، لسوريا وحزب الله، كحقائق موضوعية.

من الواضح أن الجانب المصري، لا يزال في وضع يرى فيه المسلمة الأولى، كمعضلة أساسية. والثانية كأمنية تتطلب إرادة متحررة من الالتزامات. كما أنَّه يواجه كذلك امتحان إرادة بما يتعلق بطلب موسكو التحوّل إلى الروبل الروسي في المعاملات الثنائية مع الصديقة القديمة، التي طرقت الزيارة بابها.

ومن الملفت أن أهم ملفات الزيارة الروسية كانت قد أدرجت على ملف العلاقات الثنائية في عهد الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، وآخرها الملف النووي الذي جرى التفاهم عليه في منتصف عام 2010، وتم تجميده وبقية الملفات مع انطلاق الهوجة الأمنية المسماة «الربيع العربي». وليس فيها أي جديد سوى تقدير الموقف السياسي المستجد وأخذه بالاعتبار، مع إعادة لصياغة الخطاب الذي يتطلبه.

وهذا بالطبع لا يقلل من أهمية هذه الملفات، وإن كان يعطي رصيداً لا نحبه للرئيس المصريّ الأسبق!

وإذا كان هناك من متسع للطرافة، فإن بعض الصحافة الإليكترونية الروسية لفتت الانتباه إلى صور الزيارة الروسية، التي فيها فلاديمير بوتين الفضولي مع السيسي المتعرق، مشيرة إلى أن الرجل المتعرق هو «رئيس مصر التي التقطت أنفاسها للتو، بعد التدخل الأمريكي المعروف باسم الربيع العربي»..!!

وربما من المفيد، هنا، تحديد أهم ما يؤخذ بحسبان موسكو في الموقف السياسي المصري الجديد؛ وهو يتعلق بالاستدارة المصرية الحادة ضد التوجهات الإسلاموية التي ذهبت إلى تجديد العقد الأميركيّ في المنطقة، وخطوة السيسي الجريئة في وضع حد للمفاعيل غير المسيطر عليها لما يسمى «الربيع العربي»، في مصر.

كانت الزيارة الروسية خاصة، بمعنى أنها لم تجر في بعض محطاتها حسب الأعراف المعمول بها. إذ فوجئ أعضاء الوفد الروسي وزملاؤهم المصريون أن الرئيس الروسي جنح إلى جلسة ثنائية طويلة مع نظيره المصري. وبعد مضي وقت، راحا يستدعيان وزيرين من الطرفين ثم يصرفانهما، ويستدعيان سواهما ويصرفانهما، وهكذا..

لم يجر الجزء المهم من المحادثات على طاولة مباحثات عامة!

وإذا كان يجدر البحث عن مغزى لذلك، فإن أول ما يخطر بالبال هو الملفات الروسية الجاهزة والاستعداد المصري المكتمل لزيارة دعم سياسي وتعاون لا يتعدى حدود الصداقة والعلاقات التجارية، الاقتصادية والسياسية..

لقد جاءت الزيارة الروسية بملفات شاملة: سياسية واقتصادية وعسكرية، وفي مجال التجارة الحرة، والتعاون العلمي والتكنولوجي، والنووي، والفضاء، والتصنيع العسكري، والاستثمار في قطاعات الاقتصاد المصري المختلفة. وهذه بشموليتها تسعى للتأسيس لاستدارة روسية من مصر، وتتطلبها. أو فإنها ستتقلص وتختزل وفقاً للعوائد التجارية.

والبقاء في المنظومة الأميركيَّة، ينتقص من قيمتها واقعياً، أو ربما يؤدي إلى تآكلها روسياً!

وهنا بالذات تفرض نفسها الدروس السوفيتية المستقاة، إذ تتوجه روسيا نحو الدول ذات الثقل الجيوسياسي الاقتصادي، وترى أنه لا يمكن أن يكون شريكاً اقتصادياً مثمراً من لا يملك إرادة سياسية..

من لا يملك إرادة في استثمار «قوته» الجيوسياسية!

في وقت ما، أبدى الرئيس الروسي إعجابه بالرئيس الفنزويلي الراحل، هوغو شافيز، وكان هذا الإعجاب مقروناً بثقة فورية. ووجد نفسه مضطرا لتوضيح موقفه لخاصته، فلفت الانتباه إلى أن الرجل مؤدلج (أيديولوجي)، وبالتالي صاحب موقف. ولهذا يمكن الثقة بموقفه. ولذا يمكن الاطمئنان لأسبابه المعلنة التي جاءت به إلى عالم السياسة.

وليس لدى السيسي سوى أفكار وطنية متلونة!

وهنا، تفكر روسيا بمأزق الحياة السياسية في مصر، وتأخذ بعين الاعتبار فائض التوجهات السياسية التي تتحرك في القاهرة. وهذا أمر سيكون حسابه مهماً في وقت ما، لا تستعجله موسكو، ولكنه سيدفع السيسي للخروج من الحياة السياسية مع احتمال أنه لن يكون قادراً على رسم مستقبل مصر. وتريد أن ينضج الحراك السياسي الحالي الداعم للتوجهات المعلنة للسيسي، ليكون مرشحاً لخلافته، وأن ينضج بعيداً عن الخبرة الساداتية، التي أخرجت السوفييت من مصر.

الزيارة الروسية تمثل على نحو ما، عودة روسية إلى مصر..

لقد تم طرد الروس من مصر في وقت سابق. ورغم أن بعض صحافة موسكو، علقت بعناوين من قبيل «روسيا تعود إلى مصر!» بكل ما يمكن أن يترافق مع ذلك من نبرة انتصار، إلا أن من المبالغة الحديث عن مشاعر استياء وطني عامة في روسيا إزاء الواقعة المصرية. ولكن لا يمكن تجاهل حقيقة أن هذه الحادثة كانت لا تزال شوكة في قلب الدبلوماسيين والسياسيين الروس، إلى اليوم.

نعم إنها أقل من فوبيا، ولكنها أكبر من تجربة مريرة!

وهم بالتالي، يحفلون معنوياً بعودتهم إلى القاهرة. يهتمون جداً بالسياق الذي جاء بهم إليها، ويسعون لتطويره. ويفكرون كثيراً بما يمكن أن تخبئه لهم العلاقات مع مصر. ولكنهم يجدون أنفسهم مدعوين لإغماض أعينهم عن صور السادات التي رفعت في بعض فعاليات دعم السيسي!

ويأملون أن يكون المستقبل لصور عبد الناصر والجنرال صاحب الصوت ذي البحة العاطفية!

لا يمكن أن ننسى أن موسكو تنظر للعلاقات الخاجية مع الدول الوازنة، كأداة لدفع مخاطر نشوب حرب أميركيَّة ضدها، تتحسب لها منذ سنوات، وتقدر أنها ستكون أكثر وروداً للاحتمال منذ العام الحالي وحتى ثلاث سنوات قادمة، ويُتُوقَّع أنْ تلعب فيها دول إقليميَّة وازنة دوراُ رئيساً في المساندة والتشبيك وفي قرار خوضها (الدور والتمويل السعودي مثلاً).

ولكن «في الحرب كما في الحب»، يلزم الأمل والتفاؤل!

وكان يمكن ملاحظة النشاز الكثير وعدم الاتقان الفادح في عزف فرقة حرس الشرف للنشيد الوطني الروسي؛ ولكن فلاديمير بوتين على ما يبدو رأى في هذا إشارة للترهل الذي أصاب العلاقات الروسية المصرية على مدار عقود، وتأكيداً على الحاجة لتوثيقها بحيث يُعزف نشيد بلاده الوطني في القاهرة بسلاسة ويسر..

يلفت الانتباه أن الرئيس الروسي قال لنظيره المصري بينما هو يعرّف بأعضاء الوفد المرافق له: «أود لو تتذكرهم جيداً، لأنهم سيعودون لزيارتكم مراراً». وهذه لفتة تشير إلى التفاؤل أو إلى الرغبة في تحكيمه في ما يتعلق بمستقبل العلاقات الروسية المصرية.

ومن الملاحظ أن اهتمام موسكو الرسمية بالزيارة لم يرافقه انشغال العقل الروسي بها وبمجرياتها؛ يبدو ذلك جلياً، من تلكؤ الأسماء المهمة من صناع الرأي العام في الإعلام الروسي، على نحو ملفت، في مواكبة الزيارة بالتحليل والرأي.

ومع ذلك، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يبدو سعيداً بزيارته إلى مصر. بل إنَّه يشعر بأنَّ زيارة العمل الهامة هذه تشبه رحلة استجمام. ليس فقط لأنها لم تتطلب جهداً في التحضير والمباحثات. بل أيضاً لأنه لاحظ ترحيباً حارّاً مِنْ سكان القاهرة، الذين خصهم بالشكر في كلمته، والذين أتاحوا له المزاح مع مرافقيه بقوله إنَّ القاهريين أكدوا له صحة مقولته: «أنا أثير العواطف في كل العالم»..

وأسعده، على نحو خاص، أنه يثير لدى سكان القاهرة عواطف إيجابية!
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال