جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

ياسر قبيلات ▣
حلفاء ستالين العرب في الحرب العالمية الثانية
رفع العلم السوفييتيّ على الرايخستاغ في برلين عام 1945
يخصص الباحث الروسي ألكسي تشيتشكين كتابه »حلفاء ستالين غير المعروفين: 1940 – 1945» الصادر في العام 2012 (لم يترجم بعد إلى العربيَّة)، للإضاءة على حلفاء الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية. وبالتحديد، أولئك الحلفاء غير المتوقعين وغير المباشرين، الذين كان لهم دور مهمّ هنا أو هناك، في تدعيم جبهة التحالف ضد النازية، وإغلاق الطريق في وجهها في مناطق خطرة، كان يمكن أن يتسبب وصول الألمان إليها بمد جيش الفوهرر بحياة وامكانيات اضافية..

الكتاب شامل، ويلاحق المؤلِّف موضوعه على مساحة الجغرافيا الكونية، راصداً وقائع تعاون الاتحاد السوفياتي خلال الحرب مع العديد من الدول والشعوب وحركات التحرر الوطنية في القارات جميعها، بما في ذلك البلدان الصغيرة (أو القزمة) في أوروبا وآسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية؛ ويتعرض في هذا السياق للدور الذي لعبته بعض الشخصيات السياسية والثقافية المستقلة في تدعيم الجبهة السوفيتية.

ويتعرض الكتاب، في موضعين منه على الأقل، للبلدان العربية!

عرب منتصف القرن العشرين
إن أول ما يلفت الانتباه في هذا التعرض لموقع الدول والنخب العربية في تحالفات الحرب العالمية الثانية هو أنه يقدم صورة منسية للواقع العربي في العشرية الأخيرة من منتصف القرن الماضي، حيث لم يكن ثمَّة دور مهم إلا لليمن والعراق. أما بقية الدول العربية وعلى رأسها مصر وسوريا، فقد كانت مسلوبة الإرادة، ومحسومة الموقف بالإرادة الاستعمارية الغربية.

غلاف كتاب ألكسي تشيتشكين
وهكذا لا يخصص الكتاب عناوين مستقلة إلا لهذين البلدين؛ العراق تحت عنوان: «كل شيء هادئ في بغداد»، واليمن بعنوان: «جنوب غرب الجزيرة العربية»؛ أما بقية ما تبقى من الدول العربية فتتم الإشارة إليها في شذرات متفرقة تحت هذين العنوانين، وغيرهما من العناوين الفرعية المخصصة لدول ومناطق أخرى (جنوب إفريقيا مثلاً)..

ومن الملفت، كذلك، في هذا التعرض، أن السياسة السوفيتية، المحكومة بأولويات الحرب، كانت براغماتية، ولم تكن تنسجم مع العواطف الشعبية في هذه البلدان (العراق، اليمن). بمعنى أن هاجس الحرب والانتصار فيها كان يطغى على أي اعتبار آخر. وهي البراغماتية التي ستبقى بعد الحرب، وتسير بخط متواز مع سياسة الصداقة والتعاون الأممي، تتغلب عليها حيناً، وتتراجع أمامها حيناً آخر..

ويلفت الانتباه أيضاً أن قارئ الكتاب يجد نفسه وجهاً لوجه مع واحد من أقوى العوامل التي حكمت السياسة الستالينية تجاه منطقتنا؛ أعني موقف النخب العربية الخطر ورهانها الخاسر على النازية، الذي كان له تأثير فادح على القضايا العربية، وموقف الاتحاد السوفيتي من هذه القضايا وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

طبعاً، يبدو هذا الموقف العربي مفهوماً للوهلة الأولى؛ فقد كان الإنحياز للنازية يعني الوقوف ضد الدول الاستعمارية (بريطانيا وفرنسا). غير أننا في الواقع نجد أنفسنا أمام موقف ميكانيكي صرف، لم يرتق لوعي اللحظة التاريخية، التي غيرت موازين الكون، ونقلت الأثقال والأحمال من جغرافيا سياسية إلى أخرى، وأحدثت تحولاً جذرياً في الحجوم والأوزان بين الدول الكبرى..

وهذا فشل يشبه الخطأ الذي نصرّ على ارتكابه، اليوم!

وهكذا، خلافاً لما هو متوقع، لم تكن الإرادة السياسية المحلية في مصر وسوريا أو بلاد الشام عموماً، لتأخذ أي حيز في الكتاب؛ فهي بحد ذاتها غير مؤثرة، بحكم أنها كانت ممسوكة ومسيرة، لدرجة أن الضجيج المصري العام في التعاطف مع النازية لم يكن ليشغل أحداً. كما أن الكتاب لا ينشغل بفلسطين، التي تلقت قضيتها ضربة قاصمة بنتائج الحرب، إلا لماماً؛ بحكم أن هذا الموضوع خارج نطاق اهتماماته.

كلّ شيء هادئ في بغداد..
يُذكِّر الكاتب، هنا، تحت هذا العنوان، بأن بريطانيا العظمى اقتطعت العراق في العام 1921 من الحكم التركي، فأصبح محمية بريطانية. وصولاً إلى العام 1932 حيث أصبح دولة مستقلة (قانونياً). ولكن اكتشاف مخزون كبير من النفط عالي الجودة هناك، زاد بطبيعة الحال من اهتمام لندن بهذا البلد. وهو الإهتمام الذي قاد في النهاية إلى تحويل مخزون النفط والغاز العراقي في منتصف الثلاثينات إلى «ملكية» للشركات البريطانية (التي أنشأت غطاء محلياً لها باسم »شركة النفط العراقية»).

اكتسب النفط العراقي أهمية استثنائية ودولية منذ السنوات الأولى للحرب العالمية الثانية، فقد كان النفط ومنتجاته شمال العراق يمر من خلال اثنين من خطوط الأنابيب التي تمتد حوالي 800 كم (تم الانتهاء من مدها في العام 1940)، عبر موانئ البحر المتوسط الشامية الخاضعة للحكم الفرنسي، إلى المملكة المتحدة، والقوات البريطانية في شمال أفريقيا، وفي مالطا وقبرص ومنطقة الشرق الأوسط. ووصل حجم تلك الكميات في تلك الفترة نحو 4 ملايين طن سنوياً. وقد أنتجت بريطانيا في الفترة 1934- 1945 في العراق حوالي 40 مليون طن من النفط.

ولهذا السبب بالذات، لم تخرج القوات البريطانية من العراق بعد استقلاله عام 1932.

ويبدأ التحول الدراماتيكي في العراق، كما يحدد الكتاب، بقيام «القوميين العرب المؤيدين للفاشية، برئاسة رشيد عالي الكيلاني، بالاستيلاء على السلطة في أوائل آذار (مارس) 1941»، واعتقال الملك فيصل وتنحية رئيس الوزراء نوري السعيد، المرتبط منذ وقت طويل بالبريطانيين. وبادر النظام الجديد بالمطالبة بسحب القوات البريطانية من العراق.

وهذا لوحده يبدو للوهلة الأولى، شأناً عراقياً – بريطانياً، ولكنه لم يكن كذلك!

السبب الرئيسي يكمن في أن الجيوش في تلك اللحظة من الحرب العالمية كانت تتصارع على المساحات والجغرافيا، وتجاوزت في صراعها الحدود الأوروبية إلى الصراع على المستعمرات في آسيا وإفريقيا؛ وإلى جانب العراق كانت أقطار بلاد الشام الشمالية (سوريا ولبنان) خاضعة لحكم » فيتشي«. ناهيك عن أن الأمور لم تتوقف عند هذا الحد، فقد أعلن نظام الكيلاني عن تطوير التعاون والعلاقات مع ألمانيا وإيطاليا..

هنا، نشأ تهديد حقيقي بامكانية قيام الألمان والطليان بتنفيذ اجتياح سهل ومقبول داخلياً، على الأقل من قبل النخبة الحاكمة في بغداد، للأراضي العراقية والاستيلاء على الموارد النفطية –  وذلك عبر تركيا أو عبر الشام الفرنسية، التي لم تخضع لسلطة ديغول إلا في وقت لاحق (آب/أغسطس 1941).

لم يمر هذا الموقف مِنْ دون ملاحظة ألمانيا؛ ففي الثالث والعشرين من أيَّار (مايو) 1941 - بعد الاحتلال النازي ليوغوسلافيا، وعلى خلفية التراجعات المتكررة والمتزايدة للقوات البريطانية في اليونان، أصدر هتلر وريبنتروب توجيهاً رسمياً ينص على تقديم المساعدة العسكرية والمالية للعراق. ولكن هذا التوجيه جاء متأخراً، لأن القوات البريطانية دخلت بغداد في الأول من حزيران (يونيو) 1941. وكانت هذه القوات خلال الفترة من نيسان (أبريل) إلى أيَّار (مايو) 1941، مسنودة بـ«بقوات ديغول»، قد تمكنت من الاطاحة بحكم رشيد عالي الكيلاني ونجحت في الاستيلاء على العراق، وأعادت الملك فيصل ونوري السعيد إلى السلطة من جديد.

وهنا، يجزم الكاتب، بالاعتماد على مصادره، بأنَّه لو لم يحدث ذلك التدخل لكان كل الوضع العسكري والسياسي، بل والاقتصادي أيضاً، قد تغير بشكل كبير وكارثي لصالح ألمانيا ولصالح التحالف الألماني ككل. ولكان من شأن هذا، تلقائياً وطبيعياً، أن يشجع تركيا على غزو الاتحاد السوفيتي في العام 1941، ولأمكن كذلك أن يؤدي إلى استيلاء التحالف الفاشي على قناة السويس (البريطانية في ذلك الوقت).

لقد قاد التدخل البريطاني، وفق ما يؤكد الباحث، إلى تعزيز جبهة القتال، فقد بدأت تصل منذ مطلع خريف عام 1941 من العراق إلى الاتّحاد السوفيتي الشحنات المختلفة من قبل الحلفاء. وفي ربيع عام 1942 تم فتح خط للتجارة السوفيتية - العراقية عبر إيران: زود العراق الاتحاد السوفياتي بالمواد الخام الزراعية، بما في ذلك الصوف والجلود والقطن والحمضيات، ومنتجات الأسماك، والنفط ولحم الضأن، وزيت النخيل. وكان الاتحاد السوفياتي يصدر للعراق الأخشاب المستديرة، والمنتجات شبه المصنعة والمنسوجات المصنوعة من القنب.

وأكثر من ذلك، أعلن العراق الحرب على ألمانيا وحلفائها، في السابع عشر من كانون الثاني (يناير) 1943، وهو ما كان له تأثيره ووقعه المتوقع على سياسات تركيا، وهذا أمر قاد بدوره إلى تعزيز قاعدة الموارد النفطية والتحالف الجنوبي ضد الفاشية. كما شاركت بعض الوحدات العسكرية العراقية في العام 1943، في عمليات القوات الأميركيَّة والبريطانية في غرب ليبيا وتونس وصقلية. وأخيرا، أثمر هذا عن نشوء العلاقات الدبلوماسية بين العراق والاتحاد السوفيتي في التاسع من أيلول (سبتمبر) عام 1944.

وباختصار، يرى الكاتب أن العامل العراقي لعب دوراً مهمّاً في الحرب الوطنية العظمى (الجبهة السوفيتية) والحرب العالمية الثانية ككل.

جنوب غرب الجزيرة العربية
ينتقل الكاتب للحديث عن الدور اليمني تحت هذا العنوان، مشيراً إلى أن المملكة اليمنية التي أعلنت حيادها لدى نشوب الحرب في أيلول (سبتمبر) 1939، سمحت للسفن العسكرية والمدنية التابعة للتحالف المناهض للفاشية دخول الموانئ اليمنية ومياهها الإقليمية، وعملت على تطوير التجارة مع هذه الدول.

ومن جهة أخرى، كانت العلاقات السوفيتية اليمنية قديمة؛ ففي الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1928، كان قد تمَّ توقيع معاهدة صداقة وتجارة بين الاتحاد السوفيتي والمملكة اليمنية، مدّتها عشر سنوات، وهي المعاهدة التي قادت إلى إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين (24 حزيران/يونيو 1929). وقد تم تمديد هذه الاتفاقية لمدة عشر سنوات أخرى، قبل أشهر من وقوع الحرب (28 كانون الثاني/يناير 1939).

ويورد الكتاب اقتباساً لحاكم اليمن حينها الإمام يحيى، يعود إلى العام 1940، ويقيِّم فيه المعاهدة السوفيتية اليمنية، فيقول أنها «أول معاهدة ندية ومفيدة للغاية لبلدنا بأكثر من أية معاهدة دولية سبق أن وقعها اليمن في أي وقت مضى. ونحن ندين في هذا، بالمقام الأول، لموقف لينين وستالين الصادق والنزيه، ولموقف شعوب الاتحاد السوفياتي تجاه شعبنا وبلدنا».

ويسجل الكتاب أن اليمن حافظت خلال سنوات الحرب على  تزويد الاتحاد السوفياتي (من خلال العراق وإيران)، بالبن والأسماك وقصب السكر الخام والتوابل، وذلك وفق نظام المقايضة: وكان حجم هذه الامدادات أقل بـ 15 إلى 20% فقط مما كانت عليه حينما بدأت في الثلاثينيات. ومن الواضح أن سبب ذلك هو التعقيدات التي فرضتها الحرب، ولم يكن برغبة أو قرار مِنْ أحد الطرفين.

والمذهل أن السوفييت تخلفوا بسبب الحرب عن توريد المقابل في عملية المقايضة هذه لليمن. وعملياً توقفت الصادرات السوفيتية لليمن خلال الحرب تماماً تقريباً (الأقمشة والمعدات والحبوب والطحين والخشب والمعدات واللوازم الطبية)، ولكن الجانب اليمني، كما يؤكد الكاتب، لم يطالب الدولة السوفيتية أبداً بالتعويض عن ما زودها به من سلع، سواء بسلع سوفيتية أو نقداً.

(هنا يمكننا أن نفهم كارين بروتينتس، نائب رئيس القسم السياسي باللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي، الذي يرد على اتهامات يمنية له بالتورط في أحداث يناير 1986 بالإشارة المتكررة إلى مناقب اليمنيين العالية، واصراره اللحوح على أنهم الشعب الصديق الوحيد الذي أخلص «لنا»، ولم يسجل في تاريخه خيانة واحدة لصداقته مع الدولة السوفيتية)!

في السنوات 1941-1942، تم استخدام أراضي اليمن، بما في ذلك مياهه الإقليمية، من قبل القوات البريطانية وقوات جنوب إفريقيا وقوات ديغول «فرنسا المقاتلة» للقيام بعمليات ضد القوات الإيطالية في إثيوبيا وإريتريا والصومال. وقد تم تحرير تلك الدول والأراضي من المحتلين الإيطاليين بمساعدة من القوات الإثيوبية. ولكن الأهم من ذلك كلّه، هو أن قوات الحلفاء، ممثلة بالقوات البريطانية، ما كانت لتتمكن، مِنْ دون مساعدة اليمن، من أسر جميع السفن الإيطالية في المنطقة في خريف العام 1941. وهنا يمكن أن تحتل حيزاً بليغاً شهادة إمبراطور إثيوبيا هيلا سيلاسي الأول، التي يقول فيها: «موقف اليمن لعب دوراً حاسماً في هزيمة القوات الإيطالية في إثيوبيا وإريتريا والقرن الأفريقي عموماً«.

قتال عالمي ضد النازية
يقول الكاتب ألكسي تشيتشكين، المختص بالتاريخ العسكري والحروب، في تصديره لكتابه، أن الكثير من الأمور الملحة والحاسمة، خلال الحرب العالمية الثانية والحرب الوطنية العظمى (الجبهة السوفيتية) اعتمدت إلى حد كبير على سياسات ومواقف الدول التي كانت رسمياً محايدة وخارج الحرب، أو كانت تعتبر في أوقات السلم دولاً قزمة وهامشية.

ويشير في هذا السياق إلى أدوار السويد والنرويج والعراق وأفغانستان واليمن وأيسلندا والبرتغال والمقاومتين الشجاعتين في يوغوسلافيا واليونان اللتين أخرتا لأكثر من ستة أسابيع العدوان الفاشي ضد الاتحاد السوفياتي. وبالإضافة إلى أسبانيا، والمقاومة في دول البلطيق وشعب شبه جزيرة القرم، الذي تكذِّب مآثره الأكاذيب الكثيرة الرائجة حول علاقته بالاتحاد السوفييتي وقائده، وبروسيا.

ويصل الكاتب إلى خلاصة تقول إنَّ الحرب مع النازية كانت قتالاً عالمياً ضد يوم دينونة نازي؛ يعيد القيم الانسانية وحياة البشرية إلى مرحلة تنتسب إلى بواكير محطات التاريخ والوعي. ومع ذلك، كان مقابل هذا الإحساس بالخطر الداهم والمصيري، القليل من الوعي بهذه الحقيقة؛ وبالتالي، كانت هناك القليل من القوى المستعدة لخوض هذا الصراع بمعزل عن الحسابات الانتهازية الصغيرة.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال