جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة


سعود قبيلات ▣

صحوت على نفسي، ذات صباح، مِنْ حلمٍ غريب كنتُ خلاله أكتبُ مقالاً عن الشاعر الأردنيّ الراحل أسد محمَّد قاسم. ووجه الغرابة في الأمر يعود إلى أنَّني عندما نمت في الليلة السابقة لم أكن قد فكَّرت في هذا الموضوع, أو تحدَّثت عن ذلك الشاعر مع أيٍّ كان، أو حتَّى قرأتُ له أو عنه أيَّ شيء. بل أظنُّ أنَّني لم أكن قد فعلتُ شيئاً مِنْ ذلك.. منذ مدَّة طويلة. كما أنَّ معرفتي المباشرة بالشاعر الراحل كانت محدودة جدّاً؛ لم تتعدّ لقاءً عابراً في إحدى المناسبات الثقافيَّة في رابطة الكتّاب الأردنيّين؛ حيث قام صديقٌ مشترك بتعريف كلٍّ منّا بالآخر، فتبادلنا بضع كلمات وديَّة، ثمَّ أكَّد كلٌّ منّا للآخر أنَّنا يجب أن نلتقي مرَّة أخرى، إلا أنَّ ذلك لم يحدث مطلقاً، مع الأسف.
ما جرى لأسد محمَّد قاسم.. قبل «داعش» و«النصرة»
أسد محمَّد قاسم.. في شبابه

لا يعني هذا أنَّني لم أكن أعرف أسد محمَّد قاسم قبل ذلك، أو أنَّه لم يكن يعني شيئاً بالنسبة لي؛ بل، على العكس مِنْ ذلك تماماً، كان لهذا الشاعر والإنسان المميَّز حضورٌ قويٌّ في نفسي، مِنْ خلال الحكايات الكثيرة التي كان يرويها رفاقه (ورفاقي) القدماء في الحزب الشيوعيّ الأردنيّ، عن مكانته بين الناس وتأثيره فيهم بأشعاره الوطنيَّة (والأمميَّة) الحماسيَّة، في سنوات الخمسينيَّات الصاخبة المتفجِّرة.

وذات يوم، ما بين أواخر سبعينيَّات القرن الماضي وأوائل ثمانينيَّاته (وكنت آنذاك نزيل سجن «المحطَّة» في عمَّان)، جاءتني، مِنْ أخي سالم (الذي كان حينها يدرس في هنغاريا) رسالة ذكر فيها أنَّه التقى بأسد محمَّد قاسم في بودابست في إحدى المناسبات العامَّة هناك، وأنَّ أسدَ طلب منه أن يبلغني تحيَّاته. فكان ذلك، بالنسبة لي، إعادة بعثٍ لأسطورة قديمة متوارية في خيالي وملتصقة بوجداني.

ومرَّت الأيَّام، بعد ذلك، مِنْ دون أن أسمع أيّ شيء عنه أو أن يحدث أيُّ اتِّصال بيننا، إلى أن كان ذلك اللقاء العابر في أواخر التسعينيَّات. 

وفي أوائل التسعينيَّات، بعد حالة الانفراج السياسيّ التي سادت البلاد في أعقاب انتفاضة نيسان 1989، سمعتُ بعودته مِنْ منفاه، كما سمعتُ بالظروف الصعبة التي أحاطت به بعدئذٍ؛ حيث عاش في غربة شديدة عمَّا (وعمَّن) حوله، وصادف الكثير من سوء الفهم والإساءات. لا لشيء سوى أنَّه كان صادقاً ومستقيماً مع نفسه ومع الآخرين، ولا يتنازل عن مبادئه وقيمه وإنسانيَّته وحريَّته الشخصيَّة والسياسيَّة مهما كان الثمن.

 ومن المفارقات المضحكة المبكية، في هذا المجال، أنَّ بعض من ناصبوه العداء آنذاك، برَّروا عداءهم له بحججٍ أخلاقيَّة ومبدئيَّة؛ حتَّى إنْ كانت زائفة! ولكنَّه باستقامته وثباته، وباعتداده الكبير بذاته، ونزوعه الأخلاقيّ الإنسانيّ الرفيع، كان، مِنْ دون أن يقصد، يكشف انحطاط «أخلاقهم»، وزيف «مبادئهم» وكونها مجرَّد لبوس بالٍ لأمراض نفسيَّة واجتماعيَّة مستعصية.

لقد ترك أسد محمَّد قاسم، خلفه، الدانوب الجميل، وبودابست الساحرة، وزوجته الهنغاريَّة وأبناءه منها، وعاد.. ما إنْ سنحت له الفرصة في أوائل التسعينيَّات؛ لا لشيء إلا «ليموت على أرض وطنه»، كما ذكر لبعض أصدقائه. الأمر الذي ذكَّرني ببعض طقوس الهنود الحمر القديمة؛ حيث كان المسنُّون، الذين لم تعد حياتهم تغريهم بالبقاء، يذهبون إلى أماكن معيَّنة ويجلسون فيها ساكنين إلى أن يموتوا.

ويبدو أنَّ أسد قد دخل طقوس الموت مباشرة بعد عودته إلى البلاد؛ إذ عاش منعزلاً في بيت أهله القديم في إربد، مقتصراً في علاقاته على مجموعة محدودة من الأصدقاء والأقرباء. ذلك أنَّ:

«السنين الباقيات
فارغات
ككؤوس الخمر عند الفجر في رأس السنة
صامتاتٍ مُتعبات
بعيونٍ جاحظات
وثغورٍ باسمات
مثل قبر
الندامى غادروا والليل ماتْ»

بهذه الصورة الكئيبة رأى أسد ما تبقَّى له مِنْ حياة. وهذا المقطع هو جزء مِنْ قصيدة له بعنوان «لحظة مرارة» كتبها في السنة نفسها (1992)  التي عاد فيها إلى الأردن. 

كان الاتِّحاد السوفييتي و«المعسكر الاشتراكيّ» قد انهارا للتوّ، وسيطر على المسرح الدوليّ معسكرُ الخصوم والأعداء، وتوالت الهزائم العربيَّة وتعمَّقت. وفي إحدى قصائده التي كتبها في تلك الفترة، وهي بعنوان «هلوسات غوربيَّة»، يصبُّ «أسد» جام غضبه على غورباتشوف (الرئيس السوفييتيّ الأخير وصاحب السياسة المعروفة بالبريسترويكا) وزوجته رايّسا، متّهماً إيّاهما بأنَّهما اضطلعا بدور أساسيّ في إحداث هذا الخراب لخدمة الصهيونيَّة والرأسماليَّة العالميَّة، داعياً إلى إعادة الاعتبار للقيم النبيلة التي استهدفتها معاول الهدم والتدمير؛ فيقول:

«لنعد للشعلة الأولى
أضاءت درب مَنْ كانوا ضياعاً في دياجير القرون
ذرذرت كالنجم نوراً فهدتهم
صيرتهم مشعلاً للآخرين»

ثمَّ يقول على لسان غورباتشوف مخاطباً رايّسا:

«قلتُ أنجزت المهمّة
في خطاب الاستقالة
هل ترى أهلوك راضون؟
لقد أسقيتهم حتى الثمالة
صار زِبلي قطعةً من زبلهم
غير أنّي
خائف من غضبة التاريخ
هل يرضى بأن يسجن في كيس زباله؟
ذكريني من هو القائل يا رايّسا نسيت:
نحن ما دمنا مع الشعب سنبقى في عداد الخالدين
زبد البحر على الشاطئ يفنى
قد تذكرت اصمتي هذا لينين».

(بودابست - 22/3/1992)

وأستطيع أن أفهم الغربة التي عاشها هذا الشاعر المرهف، المعتدّ بذاته، والمتمسِّك بمبادئه وقيمه، بعد عودته إلى بلاده؛ فهو، حين عاد، عاد إلى عالمٍ غير ذاك الذي تركه قبل عقود، وإلى ناسٍ غير أولئك الذين عرفهم وتفاعل معهم في الماضي البعيد.

لقد قلت: «أفهم ذلك»، وأنا أعني الاستناد إلى تجربتي الخاصَّة في الإحساس بالغربة، رغم أنَّني لم أكن في المنفى، ورغم أنَّ مدَّة غيابي لم تطاول مدَّة غيابه. فعندما خرجت من السجن، بعد سنوات، وجدت نفسي غريباً عمَّن حولي.. وحتَّى أولئك الذين كنت أعرفهم في السابق وجدت أنَّهم أصبحوا غرباء عنِّي وأنَّني لم أعد أعرفهم، وكنت أحاول (وكانوا يحاولون) البحث عن لغةٍ مشتركة بيننا، ولكن بلا جدوى. وفي النهاية كنت أجد في الصمت والانطواء ملاذاً مريحاً ومطمئناً، أهرب إليه مِنْ عناء هذا التواصل المرهق. وعندما كنت أشعر بالحاجة لتواصل إنسانيّ حقيقيّ، كنت أذهب إلى السجن لزيارة رفاقي هناك والحديث معهم لأطول وقت ممكن. الأمر الذي أثار شكوك إدارة السجن، فظنَّت أنَّ وراء زياراتي المتكرِّرة تلك هدفاً حزبيّاً «مريباً»، فعمدت إلى منعي مِنْ زيارة السجن نهائيّاً. ولعلَّ هذا بالذات هو ما اضطرَّني لبذل جهدٍ أكبر في محاولة التواصل مع الناس الطلقاء، بدلاً من الاقتصار على التواصل مع السجناء. 

وشعور الإنسان الخارج من السجن بالغربة، يتطابق – في ما أظنّ – مع مشاعر الغربة التي يشعر بها الإنسان العائد من المنفى. فالمنفى أيضاً سجن؛ بل إنَّه في تقديري أشدّ قسوةً ومضاضةً من السجن. الأمر الذي تمنَّى معه محمود درويش، بعد خروجه الطويل مِنْ بلده، لو أنَّه كان «طليقاً في سجون الناصرة». ولذلك، عندما «خُيِّر» كاتب هذه السطور، مِنْ سجَّانيه، ذات يومٍ بعيد، بين تسهيل طريقه إلى المنفى وبين وضعه في السجن لسنين طويله، «اختار» السجن مِنْ دون تردّد.

على أيَّة حال، شعور أسد محمَّد قاسم بالغربة يتخطَّى فارِق المكان وفجوة الزمان. وممَّا عمَّق شعوره بالغربة، صِدقه، وثباته على مبادئه، وتمسّكه بقيمه، في الوقت الذي اختار فيه كثيرون، ممَّن عادوا من الخارج في تلك الفترة، أن يتلوَّنوا  حسب الظروف والأحوال، وأن يقفزوا، إذا ما تطلَّبت مصالحهم ذلك، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، مِنْ دون أن يرفَّ لهم جفن، أو تختلج لهم عضلة قلب، وشرعوا على الفور يكرزون حكمتهم الجديدة، كما لو أنَّهم رضعوها مع حليب أمَّهاتهم، ويلعنون ويسخِّفون حكمتهم القديمة مِنْ دون تأتأة أو تلعثم، كما لو أنَّهم كانوا على خلاف معها منذ وُجدوا، ويزايدون على المحافظين الجدد وأضرابهم، كما لو أنَّهم هم من وضعوا تعاليم الرأسمالية وأفكارها، في صيغتها المتوحِّشة، لا آدم سميث وديفيد ريكاردو. 

لقد وجدوا «ضالتهم الجديدة» من الحقيقة (يا للمصادفة!)، فقط، بعدما أُقفِلتْ أبواب منافعهم من حقيقتهم السابقة وفُتِحت أمامهم أبواب الانتفاع من هذه الحقيقة «الجديدة»!

ولم تكن طبيعة هؤلاء خافية على «أسد» حتَّى في الزمان القديم؛ ففي قصيدة له، بعنوان «القدس والسفير»، نلتقي بشخصٍ محسوبٍ – زوراً وبهتاناً – على الثورة والثوّار، ولكنَّه ما إنْ يحدِّثه (الشاعر) عن القدس والمخاطر التي أصبحت تهدّدها في ظلّ الاحتلال، حتَّى يفاجأ به يقاطعه:

«ليسألني عن الأسعار
في البورصة
وعن صحَّة ما يروى من الأخبار
إذ قالت
لقد زلَّت مساءَ الأمس رِجل المارك فانخلجت
وطالت إثر عرجته كثيراً قامة الدولار.
ولا يخفي سعادته ما قد صار فكلّ رصيده الثوريّ الوافر بالدولار».

أمَّا أسد محمَّد قاسم فكان يقول لنفسه، منذ وقتٍ بعيد:

«قد كنتَ غريباً وستبقى
لن تهرب مِنْ سجن الغربة
قدرٌ بجبينك منقوش والغربة ما كانت سبّه!
فاصمد إن كنت أخا مبدأ
فالمبدأ صبر ومحبّه».

(مِنْ قصيدة له بعنوان: إلى أسد محمَّد قاسم)

لذلك فإنَّ ما كان يراه أسد مِنْ سوءات أمثال هؤلاء في الخارج، جعل غربته المكانيَّة تصير غربة مركَّبه؛ ففي قصيدة له بعنوان «على ضفة الدانوب»، يقول:

«أيُّها الدانوب
كم تعرف أسراراً ولكنَّك صامت
كأبي الهول على سرِّك ثابت
قل ولا تقسو عليَّ
فأنا في الشط يا دونا غريبٌ ووحيد
مثل عصفور رمته العاصفة
فوق بحر من جليد
وجناحي ليس من نار فأدفئني بحرّ الكلمات».

وفي قصيدة صغيرة بعنوان «لحظة مرارة»، يقول:

«تختلج الدمعة في عينه... ويودّ يود ولا يبكي
قولوا للغربة لا تحكي... عن طفل يرقص مشنوقاً بحبال
الحجّة والشك».

أمَّا غربته في المكان، فكان يعبِّر عنها (ويواجهها)، حيناً، بالحنين إلى المكان العربيّ:

«الدونا مِنْ بردى أجمل
لكنَّ العشق إذا غلغل
في القلب سنين
قد يفتر حيناً قد يذبل
لكن لن يفنى
وسيبقى بردى الأجمل
بردى الآخر والأوَّل».

وأحياناً، يواجهها بمحاورة رموز التراث العربي الإسلاميّ، كما هو واضح مِنْ عناوين قصائده التالية: «نداء إلى رهين المحبسين»، «قدر المتنبي»، «أبو ذر الغفاريّ»، «من وحي القرآن»، «عز الدين القسام»، «تقسيمات على وتر القرآن من وحي القرآن الكريم»، «رسالة إلى حمدان القرمطيّ»، «عمّار بن ياسر»، «رسالة إلى عمّار بن ياسر»، «رسالة إلى حسن البصريّ»، «رسالة إلى عبد الملك بن مروان»، «رسالة إلى أبي يوسف يعقوب الكنديّ»، «رسالة إلى سعيد بن جبير». 

غير أنّه لم يكن ينحو في ذلك منحىً انعزاليّاً؛ أي مِنْ ذلك النوع مِنْ ردود الفعل الذي يعبِّر في الأصل عن موقفٍ دفاعيٍّ هشٍّ مبنيٍّ على الشكّ في متانة الذات الوطنيّة (والقوميَّة)؛ بل، على الخلاف مِنْ ذلك، كان خطاب أسد الشعريّ يتَّسم بنبرة قويَّة، مبنيَّة على ثقةٍ كبيرةٍ، تثير الإعجاب، بالذات الوطنيَّة والقوميَّة، بل وأيضاً بالذات الفرديَّة. كما أنَّه لم يكن يرَ ذاته (بأبعادها المختلفة) إلا وهي مندمجة في إطارها العربيّ والإنسانيّ. وقد وصف نفسه، في إحدى قصائده، بأنَّه شاعرٌ «عربيُّ الدم كونيُّ المشاعر».

وهذا ما يؤكِّده بشكل ملحوظ في مجمل قصائده؛ إذ بينما هي تعبِّر عن انشغاله إلى حدٍّ كبير بهموم أمَّته من المحيط إلى الخليج، فإنَّها بالدرجة نفسها والحميَّة نفسها والحماس نفسه تعبِّر عن انشغاله أيضاً بهموم وقضايا الشعوب الأخرى في مختلف أنحاء العالم. وممَّا يدلّ على ذلك عناوين بعض قصائده: «شبح أميركا»، «غواتيمالا»، «في طريق هانوي»، «إلى الكابتن شافعيّ (ثوريّ أيرانيّ أعدمه نظام الشاه)» وسواها.

 بالإجمال، يمكن القول إنَّ تجربة أسد محمَّد قاسم الحياتيَّة، بأبعادها وتفاصيلها المختلفة، كانت تجربة واسعة وعميقة وغنيَّة، وإنَّ حرصه على الاحتفاظ باستقامته وبمبدئيَّته وبكرامته الإنسانيَّة، رغم كلّ الظروف الصعبة التي مرَّ بها، خلق منه إنساناً مميَّزاً؛ أقرب ما يكون إلى كونه شخصيَّةً روائيَّة.

ولذلك، فقد كان يترك أثراً عميقاً لا ينمحي في نفوس كلِّ من عرفوه؛ الأمر الذي جعل عدداً من الكتّاب العرب المعروفين يبنون بعض رواياتهم على شخصيَّته المميَّزة. ومِنْ أبرز هؤلاء: حنّا مينا وناديا خوست.

ولكنَّه، في المقابل، ولأسباب تتعلَّق بطبيعة شخصيَّته نفسها المبنيَّة على الأنفة والاعتداد بالذات، لم يحظَ بالرّواج الإعلاميّ الذي يستحقّه، ولم يملك أيَّ نفوذٍ ماليَ أو سياسيٍّ أو نحو ذلك. ثروته ورصيده كانا فقط ما تركه مِنْ أثرٍ طيِّب وعميق في نفوس مَنْ عرفوه وفي الذاكرة الوطنيَّة، وأدبه الذي يسجِّل مواقفه وأفكاره الشجاعة والحرّة.

قال في قصيدة له بعنوان «على شاهد قبري!»:

«ها هنا يرقد شاعر
عربيُّ الدم كونيُّ المشاعر
مثل سيزيف صبوراً كان من
بالترهيب والترغيب ساخر
غضباً ثراً وإيماناً عنيداً. كان
طوفاناً من الحبّ يحيل الفحم إن شاء لماسٍ وجواهر
مات مِنْ حزنٍ على مَنْ ظلموه
لم يكن يا قارئ الشاهد عاهر!»

(بودابست - 24/4/1978)

ترى هل هذا الكلام مكتوب على شاهد قبره الآن؟ 

لست أدري.

أغرب ما سمعتُ عن هذا الإنسان الكبير النبيل، يتعلَّق بظروف موته؛ إذ قيل إنَّه أوصى ابن أخته، الذي كان يزوره مِنْ حينٍ لحين للاطمئنان عليه، بأن يمرّ ببيته بعد يومين فيقرع بابه، فإذا لم يسمع منه جواباً ولم يفتح له، يستدير خلف البيت وينظر مِنْ شبّاك غرفة نوم خاله وسيجده عندئذٍ قد فارق الحياة. وهذا ما كان بالفعل بعد يومين. الأمر الذي عمَّق في ذهني فكرة المقارنة مع طقوس موت الهنود الحمر القديمة.

ومن المفارقات التي صاحبت موته، أنَّ إمام الجامع المجاور لبيته رفض الصلاة عليه؛ لأنَّه شيوعيّ! حدث ذلك قبل «داعش» و«النصرة» (وأضرابهما).. لكنَّه كان نذيراً بهما.

أعرف، بالطبع، أنَّه ما كان ليهمّ أسد محمَّد قاسم (أو يعنيه) رأي شخصٍ كهذا به.. أو حتَّى ما إذا كان قد صلَّى عليه أم لا؛ لكنَّ مثل هذا الموقف التكفيريّ، المتخلِّف وغير الإنسانيّ، يبقى، رغم ذلك، حجَّةً على صاحبه ووصمةً عارٍ له ولما يمثّله.

في الختام، هل أكون، بهذا، قد كتبتُ ذلك المقال الذي حلمتُ بأنَّني كتبته عن أسد محمَّد قاسم؟
أشكّ بذلك.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال