جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

فالنتين كاتاسانوف* -
ترجمة: ياسر قبيلات ▣

تعويضات الحرب العالميَّة الثالثة: صربيا تفتح الحساباليوم، ليس من النادر أن نسمع أنَّ العالم على شفا حرب عالميَّة ثالثة. وهناك ثمَّة مَنْ يعتقد أنَّ هذه الحرب بدأت بالفعل، ويحدِّد تاريخ بدايتها بالحادي عشر مِنْ أيلول/سبتمبر عام 2001، عندما وقعت في نيويورك تلك الأعمال الاستفزازيَّة، التي منحت الولايات المتَّحدة الفرصة لغزو أفغانستان بحجَّة كاذبة هي «مكافحة الإرهاب الدوليّ».

آخرون يشيرون لمرحلة أقدم قليلاً، ويحدِّدون تاريخ اندلاع الحرب العالمية الثالثة بعدوان حلف شمال الأطلسيّ على يوغوسلافيا، آذار/مارس 1999. ومن الواضح، في هذا السياق، أنَّ ما يجري الآن في أوكرانيا هو تكرار لما حدث في يوغسلافيا في أواخر القرن العشرين..

أي، تصعيد جديد للحرب العالميَّة الثالثة غير المعلنة!

«بوتسدام» جديد
بهذا، لا بدَّ سيحين الوقت لبدء التحضير لـ«بوتسدام» جديد. وعلينا هنا أن نتذكَّر أنَّ واحدة من أهمّ القضايا التي نوقشت في مؤتمر بوتسدام في العام 1945 كانت قضيَّة التعويضات عن الدمار والأضرار التي لحقت بالاتّحاد السوفياتي والبلدان الأخرى التي تعرَّضت للعدوان النازيّ.

في مؤتمر بوتسدام، أعلن الوفد السوفياتيّ الأرقام حول ما تكبَّدته بلاده مِنْ أضرار الحرب. ووفقاً للأرقام الرسميَّة، فإنَّ الأضرار الاقتصاديَّة المباشرة التي لحقت بالاتّحاد السوفياتيّ بلغت 128 مليار دولار، بينما بلغ الضرر الكلي 357 مليار دولار، وذلك بأسعار عام 1939. وعلى سبيل المقارنة، فقد بلغت المساعدات التي تلقَّاها الاتّحاد السوفييتيّ بموجب «برنامج الإعارة والتأجير»** (Lend – Lease Act)، خلال كل سنوات الحرب نحو 11 مليار دولار.

«كتاب أبيض»
إعداد الحساب الجديد المتعلّق بالحرب العالميَّة الثالثة يجب أن يتمّ في شكل «كتاب أبيض» دوليّ، يكون أساساً قانونيّاً للتعويضات التي ستُسند إلى المعتدي - الولايات المتَّحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسيّ.

بعض الأعمال في مجال حساب الأضرار الناجمة عن الحرب العالميَّة الثالثة تجري بالفعل الآن؛ على سبيل المثال، أعلنت الحكومة السوريَّة أنَّه بحلول نهاية عام 2013 بلغ حجم الضرر الاقتصاديّ من العمليَّات العسكريَّة للمعارضة المسلَّحة (التي تقف وراءها واشنطن) 144 مليار دولار. أي ما يعادل ثلاثة أضعاف الناتج المحليّ الإجماليّ السنويّ لسوريا. ومن المؤكّد أنَّ هذه الأرقام، التي تعكس حجم الضرر، ستكون بحلول نهاية عام 2014 أكبر.

بعد قصف الناتو ليوغوسلافيا في العام 1999 تمَّ اعداد «كتاب أبيض» مِنْ ثلاثة مجلَّدات؛ ولكن اليوم أصبح من الملح إعداد «كتاب أبيض» دوليّ، على أساس منهجيَّة مشتركة، وعبر استخدام خبراء ومعلومات جميع البلدان المعنيَّة.

وهنا، يتوجَّب علينا أن ننتبه إلى أنَّه في العادة يتمّ فهم مسألة التعويضات باعتبارها نوعاً من البدل الماليّ عن الضرر الذي عانت منه البلاد جرّاء العمليَّات العسكريَّة، حصراً. ولكن في الظروف المعاصرة، يمكن ايقاع الضرر ليس فقط مِنْ خلال الأعمال العسكريَّة فقط. لذا ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار الأضرار الناجمة عن العقوبات الاقتصاديَّة وأشكال الحصار وعمليَّات التخريب وحرب المعلومات وغيرها من أشكال العدوان.

ومن الضرورة بمكان تأمين رصد متواصل لكلّ أنواع الأضرار (مثل هذا الرصد المستمر استحدثته ومارسته لجنة الدولة للطوارئ في الاتّحاد السوفياتيّ خلال فترة الحرب العالميَّة الثانية).

الفصل الأول
ينبغي أن يكرّس الفصل الأوّل مِنْ هذا «لكتاب الأبيض» الدوليّ لفتح حساب تعويضات صربيا، باعتبارها الضحيَّة الأولى للحرب العالميَّة الثالثة.

الجزء الرئيسيّ من الحساب الصربيّ يتعلَّق بالأضرار الناجمة عن العدوان العسكريّ الذي شنَّته عليها الولايات المتَّحدة وحلف شمال الأطلسيّ، واستمرَّ من 24 آذار/مارس حتَّى العاشر مِنْ حزيران/يونيو 1999.

ويتوجَّب هنا التذكير بالأرقام الرئيسيَّة، في هذا المجال:

لقد شنَّ الحلفاء الغربيّون ضدَّ يوغوسلافيا 35 ألف طلعة جويَّة للطائرات المقاتلة، التي شاركت فيها 1000 طائرة ومروحيَّة؛ وتمَّ اطلاق أكثر مِنْ 10 آلاف صاروخ كروز؛ وإلقاء 79 ألف طن من المتفجِّرات (بما في ذلك حمولة 156 مستوعباً تحوي 37440 قنبلة عنقوديَّة محظورة بموجب القانون الدوليّ)؛ كما شنَّت عمليَّات قصف همجيَّة باستخدام ذخيرة تحتوي على اليورانيوم المنضَّب.

الأضرار الماديَّة المباشرة
أثناء قصف الناتو، الذي قاده الجنرال الأميركيّ ويسلي كلارك، قُتل ما يزيد عن 2000 وأصيب أكثر من 6000 مدنيّ في يوغوسلافيا، وتمَّ تدمير حوالي 50 مصنعاً ومعملاً، و18 محطَّة توليد كهرباء، و34 جسراً، و50 مستشفى ومركز طبابة، و480 مدرسة وكليَّة وجامعة. وفقد حوالي 600 ألف شخص عملهم.

ووفقاً لتقديرات مختلفة، فإنَّ المبلغ الإجماليّ للأضرار الماديَّة المباشرة يتراوح ما بين 30 - 100 مليار دولار.

الأضرار البيئيّة
الأضرار الملموسة في هذا المجال هي تلك الناجمة عن ضربات حلف شمال الاطلسيّ للمجمَّع الصناعيّ في بانتشيفو: مصنع النيتروجين، مصفاة ومجمّع البتروكيماويات. الموادّ الكيميائيَّة والمركَّبات السامَّة التي انتشرت في الجوّ والماء والتربة، مما يشكل خطراً على النظم الايكولوجيَّة وصحَّة الإنسان في جميع أنحاء البلقان. وكذلك تسميم الجوّ بالأبخرة السامَّة جرَّاء احتراق الدبَّابات العاملة بمشتقات النفط، كما أدَّى النفط وتفجير القنابل إلى تسميم نهر الدانوب والأنهار الأخرى، وتلويث عدد من البحيرات (أكبرها - بحيرة سكادار) إلى جانب الأضرار التي طالت البحر الأدرياتيكيّ.

يقول وزير الصحَّة في جمهوريَّة صربيا ليبوساف ميليسيفيتش: «مصانعنا الكيميائيَّة لم يقصفها حتى أدولف هتلر، في حينه! الناتو فعل ذلك ببرود، مدمِّراً النهر، ومسمِّماً الهواء، وقاتلاً الناس والبلاد. لقد جرَّبوا بهمجيَّة على شعبنا أحدث أنواع الأسلحة». ونتيجة لاستخدام قنابل اليورانيوم المنضَّب تمَّ تلويث مساحات واسعة من الأراضي بالنظائر المشعَّة، ممَّا تسبَّب بزيادة ملحوظة بمعدَّلات الإصابة بالسرطان.

الأضرار غير المباشرة
تتمثَّل الأضرار غير المباشرة بالخسارة الناجمة عن وقف الإنتاج، والبطالة، وفقدان الدخل. وقد زادت الخسائر مِنْ هذا النوع بسبب عمليَّات النهب، التي عانت منها البلاد بعد قصف عام 1999 على يد الشركات الغربيَّة المغيرة، مِنْ خلال شراء الأصول المتبقّية مقابل أسعار زهيدة.

ونتيجة لذلك، أضحى 2،5 مليون مدنيّ صربيّ دون مصدر رزق. ووصلت البطالة في البلاد إلى مستوى 40% من السكّان العاملين. وفي العام 2014، لوحده، بلغ الانخفاض في الإنتاج نسبة 3،5 %. ناهيك عن أنَّ أولئك الذين حكموا صربيا بعد عدوان عام 1999، لم يكن لديهم أيّ برنامج لتطوير البلاد. ووجَّهوا كلَّ الجهود نحو الحصول على «المساعدات» الغربيَّة. ونتائج هذه الجهود لم تنعكس بالطبع على الاقتصاد.

لقد كانوا ببساطة يخدعون المواطنين الصرب!

ويمكن أن نضع في سياق الأضرار غير المباشرة، تلك الخسائر التي منيت بها البلدان الواقعة بجوار صربيا، وترتبط معها تقليديّاً بعلاقات اقتصاديّة وثيقة. فوفقاً لـ«وحدة الإيكونوميست انتيلجينس» اللندنيَّة – وهي مجموعة تحليليَّة مرموقة مختصَّة بالاقتصاد- فإنَّ الضرر الإجماليّ الذي تكبَّدته هذه البلدان الجارة ليوغوسلافيا، جرّاء حرب عام 1999 يُقدَّر بـ 8 مليارات دولار. وهذا يشمل الخسائر الماليَّة المباشرة، والخسائر الناجمة عن انخفاض الاستثمارات الأجنبيَّة، وانخفاض الناتج القوميّ الإجماليّ جرَّاء الحصار الاقتصاديّ.


لا تعويضات ولا مساعدات
لم نسمع إلى اليوم، الغرب يتحدَّث ولو عن تعويضٍ جزئيّ على الأقلّ عن الأضرار الناجمة عن عدوانه العسكريّ على صربيا. وأحياناً كانت تُذكر بعض الأرقام المتعلِّقة بالمساعدات الاقتصاديَّة الغربيَّة لصربيا، التي يُزعم أنَّه تمَّ تقديمها لبلغراد لمساعدتها على إعادة بناء اقتصادها المدمَّر، ولكن كلّ هذا محض خداع.

الأموال التي تمَّ إرسالها من الولايات المتَّحدة والاتّحاد الأوروبيّ لصربيا في شكل «مساعدات»، كانت في الواقع دعماً ماليّاً للشركات الغربيَّة متعدِّدة الجنسيَّات. أمَّا سكّان صربيا فلم يتلقّوا أيَّة مساعدة.

في عام 2014، بدأت تظهر تغييرات مهمّة في السياسة الدوليَّة. في سياق هذه التغييرات لم تدعم بلغراد قرار مجلس الأمن الدوليّ المعادي لروسيا حول شبه جزيرة القرم، ولم ترضخ لضغوط واشنطن، التي كانت تطالبها بالانضمام إلى العقوبات ضدَّ روسيا. وفي خطوة ذات مغزى كبير دعت صربيا الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين لحضور الاحتفال بالذكرى الـ70 لتحرير بلغراد من الاحتلال النازيّ (16 تشرين الأوَّل/أكتوبر 2014).

يبدو أنَّ صربيا الرسميَّة قد باتت تعي أنَّ الوقت حان للبدء في مطالبة الغرب بدفع «الحساب» عن الأضرار التي ألحقها بها خلال العقدين الماضيين. ومن العدل هنا القول أنَّ صربيا لا تبدو بالثقة والحزم المطلوبين، ولكنَّها بدأت فعلاً بذلك.

في أيَّار/مايو عام 2014، تحدَّث الرئيس الصربيّ توميسلاف نيكوليتش ​​في اجتماع مجلس الأمن الدوليّ، حول التعويضات عن قصف حلف شمال الاطلسيّ، الذي استمرَّ 78 يوماً في عام 1999، قائلاً: «أنا لا أشكو، ولا أطلب دفع التعويضات عن الحرب بالمعنى الكلاسيكيّ. ولكن طالما بقيت رئيساً لصربيا، سأظلّ أذكِّركم بواجباتكم في تعويضنا عن الضرر الكبير وغير القابل للإصلاح الذي ألحقتموه بمرافقنا المدنيَّة واقتصادنا ككلّ».

إنَّ حجم هذه الأضرار يُقدَّر بعشرات المليارات من الدولارات.

أداة للسياسة الخارجيَّة
في الظروف المعاصرة، يمكن أن تكون المطالبات بالتعويض أداة هامَّة من أدوات السياسة الخارجيَّة. في عام 1922، في مؤتمر جنوة، حاول الغرب تركيع روسيا السوفياتيَّة على ركبتيها، مطالباً حكومتها الجديدة بدفع الديون المتمثِّلة بقروض الحكومتين القيصريَّة والمؤقَّتة ومقدارها 18.5 مليار روبل ذهبيّ. ولكن موسكو قدَّمت في الردّ على «حلفائها» السابقين في «الوفاق الثلاثيّ» مطالبات عن الأضرار الناجمة عن الحصار الاقتصاديّ الذي فرضوه عليها وعن تدخّلهم العسكريّ في شؤونها (1918) بمبلغ 39 مليار روبل ذهبيّ.

وهذا بالذات ما أطفأ جشع «شركاء» روسيا السوفيتيَّة، حينها..!

الأمر اللافت هنا، أنَّ تلك المطالبات بالتعويض لعبت دوراً هامّاً في أنَّه بعد عامين مِنْ مؤتمر «جنوة» بدأت تنهال الاعترافات الدبلوماسيَّة الغربيَّة بالدولة السوفيتيَّة..

إنَّ مثل هذه الواقعة تتضمَّن تجربة تعليميَّة من المفيد دراستها؛ فهي تؤكِّد أنَّ الحجج الماليَّة تصل إلى عقل وقلب الغرب دائماً، وأسرع مِنْ نداء المساواة والعدالة وحقوق الإنسان..!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش المترجم:

*عضو أكاديميَّة العلوم الاقتصاديَّة والتجاريَّة الروسيَّة. مستشار سابق في الأمم المتّحدة (إدارة القضايا الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة الدوليَّة). عضو الهيئة الاستشاريَّة للبنك الأوروبيّ للإنشاء والتعمير. خبير في الاقتصاد وتحرّكات رؤوس الأموال الدوليَّة، وتمويل المشاريع، وإدارة الاستثمار. مؤلِّف للعديد من الدراسات.

المقال نشر بتاريخ 2014/10/26  في موقع: http://www.km.ru

** قانون الإعارة والتأجير: تشريع أميركيّ يسمح بتأجير أو تسليف أو نقل أو مبادلة المعدَّات والتجهيزات التي تحتاجها أيّ دولة تعتبر ذات أهميَّة حيويَّة في ضمان أمن الولايات المتَّحدة والدفاع عنها. اُعتُمد القانون في 11 آذار/مارس 1941 بعد عام ونصف من اندلاع الحرب العالميَّة الثانية. وقد تمَّ بمقتضاه تسليم معدَّات حربيَّة لبريطانيا وقوّات فرنسا الحرَّة والاتّحاد السوفيتيّ وجمهوريَّة الصين. انتهى العمل به عام 1945.

*** الوفاق الثلاثيّ: كان عبارة عن اتّحاد عسكريّ بين بريطانيا وفرنسا وروسيا. تأسَّس عام 1907 مِنْ خلال معاهدة سانت بطرسبرغ. ولاحقاً أصبح نواة لـ«التحاالف» الذي خاض الحرب العالميَّة الأولى.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال