جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

شامل سلطانوف* -
ترجمة: ياسر قبيلات ▣

يواصل شامل سلطانوف، تالياً، استجلاء آفاق الجيل التكنولوجيّ السادس؛ الأمر الذي عرفنا سابقاً أنَّه في صلب عقل السياسة الروسيَّة حاليّاً، من خلال مقال مستشار الرئيس الروسيّ، سيرغي جلاسييف، الذي نُشِرَ في هذه المدوَّنة بعنوان «الحرب العالمية الثالثة احتمال وارد»، وفي كتابات أخرى وخطوات اقتصادية وسياسية أقدم.


(المترجم)


الجيل التكنولوجيَّ السادس 2: تجديد الرأسماليَّة أم نهايتها؟
في العقود القليلة الماضية، قادت الإرادة الاستراتيجيَّة للمؤسَّسة الغربيَّة العليا، وحصيلة التقدّم في المجال العلميّ والتكنولوجيّ، إلى خلق سوق كونيّ موحَّد للعمالة ورأس المال. وكما هو معروف، فإنَّ الاستخدام الأكثر ربحيَّة للعمالة ورأس المال، بصرف النظر عن موقعهما الجغرافيّ، يتمّ بتوحيد أسعارهما في كلّ المناطق الجيو اقتصاديَّة المختلفة على الكوكب.

وهذه هي السمة الرئيسيَّة للسوق الكونيّ الحاليّ..


والسمة المميّزة لهذا السوق، لاحقاً لذلك، تكمن في أنَّ تدفّق الابتكارات التكنولوجيَّة لا يدمج المصادر الحاليَّة للعمالة ورأس المال فحسب، ولكن أيضا يخلق مصادر جديدة.


الآلات الحديثة، والروبوتات سوف تحلّ محلَّ أنواع مختلفة من العمل البشريّ، على نحوٍ أكثر كثافة بكثير مِنْ أيّ وقتٍ مضى. ومِنْ خلال إعادة إنتاج نفسها، تزيد وسائل الإنتاج هذه في الوقت نفسه مِنْ كميَّة رأس المال. هذا يعني أنَّ المستقبل الاقتصاديّ ليس إلى جانب أولئك الذين يقدِّمون عمالة رخيصة، أو أولئك الذين يملكون رأس المال العاديّ.


هؤلاء سوف تسحقهم الأتمتة حتماً..!


شامل سلطانوف
حينها من المفترض أنْ تكون هناك فئة ثالثة محظوظة - أولئك القادرون على ابتكار وخلق منتجات وخدمات ونماذج أعمال جديدة. ومع ذلك، فإنَّه تنشأ هنا عفويّاً سلسلة من الأسئلة الاستفزازيَّة. على سبيل المثال، كيف وبأية طريقة سيتمّ تشكيل بيئة السوق الجديدة، وتأمين الطلب الاستهلاكيّ الكافي على هذه الابتكارات والمنتجات الجديدة، في ظروف التقليص الموضوعيّ للطلب الشامل؟ هذا، بالطبع، في ظلّ الحفاظ على آليَّات السوق مِنْ عرضٍ وطلبٍ، وتوازن القوى بين مختلف الأطراف الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة.


نظريّاً، في مستقبل الجيل التكنولوجيّ السادس ستكون الأفكار الابداعيَّة والاقتصاديَّة التكنولوجيَّة عاملاً إنتاجيّاً نادراً - أكثر ندرة من العمالة ورأس المال على حدٍّ سواء. ولكن مَن الذي سيحدِّد في نهاية المطاف آفاق هذه أو تلك من الأفكار؟ خاصَّة إذا كانت آليَّات السوق التقليديَّة لتقييم السلع (بكلّ ما فيها مِنْ أوجه القصور المعروفة) ستكون قد تغيَّرت على نحو ملحوظ، بحلول منتصف القرن الحادي والعشرين، وأصبحت تحتكم على نحوٍ كبير إلى «الأساليب غير السوقيَّة»؟



الوجه الجديد لرأس المال
يشير الاقتصاديّ الفرنسيّ توماس بيكتي** في كتابه الأخير «رأس المال في القرن الحادي والعشرين» (2013) الذي ليس مِنْ قبيل الصدفة أنَّه أصبح مِنْ أكثر الكتب مبيعاً في جميع أنحاء العالم، إلى أنَّ حصة رأس المال في الاقتصاد تزيد حينما يتجاوز مستوى عوائده المستوى العامّ للنموّ الاقتصاديّ. إن «تعميق رأس المال»، أي خفض التكاليف على حساب الاقتصاد في العمالة والوقود والموادّ الخامّ، سيستمرّ إلى أنْ تحلّ الروبوتات وتتمّ أتمتة العمل، واحلال أنظمة التشغيل الآليّ، وشبكات الحاسوب والأشكال المختلفة من البرامج بشكل متزايد محل العمل البشريّ.


لقد نمت حصَّة «كلّ» رأس المال في الدخل القوميّ بشكلٍ مضطرد بما فيه الكفاية على مدى العقدين الماضيين، ولكن قد يواجه هذا الاتّجاه انتكاسة في المستقبل القريب، بسبب ظهور تحدّيات جديدة. وهنا، بالطبع، لا يجري الحديث عن أية تغيرات مفاجئة في تكلفة العمالة؛ ولكن حول التغييرات داخل رأس المال نفسه.


تبعاً لتبلور الجيل التكنولوجيّ السادس، تكتسب أهميَّة متزايدة ميزته الخاصَّة: رأس المال الرقميّ.


كما هو معروف، يتمّ في ظروف السوق تقييم الوسائل الانتاجيَّة الأكثر ندرة بقيمة أعلى وأغلى مِنْ غيرها. ووفقاً لذلك، فإنَّه في بيئة اقتصاديَّة فيها مثل هذه النوع مِنْ رأس المال المكوَّن من البرمجيَّات والروبوتات، التي يمكن استنساخها بثمنٍ بخس ممّا يقلل مِنْ قيمتها حتماً، تبدأ قيمة الرأسمال في الانخفاض. وكلما تمَّت اضافة رأس مال جديد أقلّ كلفة، كلَّما انخفضت قيمة رأس المال الموجود بصورة أسرع. على عكس المصانع التقليديَّة، المكلفة أو فائقة الكلفة، مثلاً، فإنَّ إدخال العديد مِنْ أنواع رأس المال الرقميّ مفيد جداً لأنَّه رخيص، حيث يمكن نسخ البرامج إلى حدٍّ يجعل تكلفتها الإضافيَّة تساوي صفراً تقريباً.


وبعبارة أخرى، يصبح رأس المال الرقميّ، على نحوٍ موضوعيّ، كثيراً وكبيراً. هو، بحكم خصوصيَّته، لديه حدّ تكلفة منخفض، بينما هو يمتلك أكثر فأكثر أهميَّة متزايدة في جميع الصناعات تقريباً.


ومِنْ هنا، فإنَّه من المحتم أنْ يصبح الناس المبدعين والتكنولوجيا الرقميَّة، في الفترة المقبلة، أندر وأثمن الموارد (النواة والعنصر الأكثر أهميَّة في رأس المال البشريّ بشكلٍ عامّ) التي يمكن أنْ تولِّد الأفكار والابتكارات الخلَّاقة مع استخدام معظم هذه التقنيات الرقميَّة.


ويمكننا أنْ نلحظ أنَّ فرص ترميز (كود) ورقمنة ونسخ العديد من السلع والخدمات والعملياَّت الهامَّة تتوسَّع باستمرار، وعمليَّات النسخ الرقميَّة الدقيقة عن النسخة الأصليَّة لا تستدعي سوى تكلفة زهيدة أو معدومة، ويمكن نقلها على الفور إلى أيّ مكان في العالم.


إنَّ التكنولوجيا الرقميَّة تحوِّل العمل العاديَّ ورأس المال العاديَّ إلى سلعةٍ، وبالتالي فإنَّ حصَّةً أكبر من الأرباح العائدة عن الأفكار سوف تذهب لأولئك الذين يبتكرون ويوظِّفون هذه الابتكارات ويطوِّرونها.


الآلاف من الأفراد أصحاب الأفكار، وليس الملايين من المستثمرين وعشرات الملايين من العمال العاديين، هم من يصبحون أندر الموارد. وهذا مخيف ومرعب مِنْ حيث عواقبه على المدى الطويل، إذ أنَّ المبدعين حقّاً، حتَّى في المجتمعات المتقدِّمة، لا يشكِّلون أكثر مِنْ 3 - 4%. ولنفترض أنَّ كلَّ هذه النسبة «المبدعة» الضئيلة سوف تتركَّز فقط في المجال الاقتصاديّ لحضارة الجيل التكنولوجيّ السادس المستقبليَّة. فما هو المصير الذي ينتظر 95% من الجنس البشريّ، مِنْ غير المبدعين على نحوٍ خاصّ؟


على الرغم مِنْ أنَّ الانتاج يصبح رأسَ مالٍ أكثر كثافة، إلا أنَّه ليس من المحتَّم أنْ يستمرَّ الدخل الذي يكتسبه أصحاب رأس المال كمجموعة، في الإرتفاع النسبيّ بالتناسب مع حصّة العمل. فإذا خلقت وسائل الإنتاج الجديدة بديلاً أقلّ كلفة لكميَّة كبيرة من أنواع العمل، فإنَّ أوقاتاً دراماتيكيَّة ستحلّ على العشرات ومئات الملايين من الموظفين في جميع أنحاء العالم المعولم. ولكن بالمقابل، ومِنْ حيث أنَّ التكنولوجيا الرقميَّة ستحلّ محلّ رأس المال التقليديّ، فإنَّه من المحتَّم أنْ تتفاقم التناقضات داخل الطبقة الرأسماليِّة نفسها.



تخفيض العمالة
لقد ترسَّخ تاريخيّاً، خلال العقود القليلة الماضية، في أميركا (وكذلك في دول «منظَّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية»***)، واقع مفاده أنَّ مقارنة حصَّة العمل من الدخل القوميّ مع حصَّة رأس المال، ليست في صالح العمل. ومنذ بداية القرن الجديد، أصبح هذا الواقع أكثر وضوحاً..


على سبيل المثال، بلغ متوسّط ​​نصيب العمل، في الولايات المتّحدة الأميركيَّة، في بداية عام 2011 ما نسبته 64،3 في المائة، بالمقارنة مع الفترة مِنْ 1947 إلى 2000. وعلى مدى السنوات العشرة الماضية، انخفضت هذه النسبة أكثر لتصل إلى أدنى مستوى لها، في الربع الثالث مِنْ عام 2010، حيث تراجعت إلى 57،8%.


وينتشر هذا الاتّجاه نفسه في جميع أنحاء العالم؛ فقد لوحظ انخفاض كبير في حصَّة العمالة في الناتج المحليّ الإجماليّ في 42 دولة مِنْ أصل 59 دولة شملتها الدراسة، بما في ذلك الصين والهند والمكسيك. واتَّضح أنَّ تقدّم التكنولوجيا الرقميَّة أصبح واحداً مِنْ أهمّ المقدِّمات الأساسيَّة التي تشير لهذا الاتّجاه: «إنَّ الانخفاض في السعر النسبيّ لوسائل الإنتاج، المرتبط بتطوير تكنولوجيا المعلومات وعصر الكمبيوتر، يجبر الشركات على التحوّل من العمل إلى رأس المال».


عمليّاً، «التكنولوجيا الذكيَّة» في شكل الأجهزة القابلة للتكيّف، والروبوتات، والبرامج المرنة، هي المصدر الاقتصاديّ الأكثر فعاليَّة لـ«رأس المال»، في مختلف المجالات. وهذا النوع من التكنولوجيا يحلّ محلَّ العمل في البلدان المتقدِّمة والنامية، دون هوادة.


إنَّ ما يسمَّى بـ«إعادة التصنيع» في عددٍ مِنْ دول منظَّمة التعاون الاقتصاديّ، بما في ذلك الولايات المتَّحدة (حيث الشركات الكبيرة تسترجع الإنتاج الفعليّ إلى الأراضي الأميركيَّة مِنْ بلدان جنوب شرق آسيا)، لم ينشأ مِنْ حقيقة أنَّ تكاليف العمالة في بلدان المحيط الهادئ الآسيويَّة ارتفعت فجأة إلى مستوى حرج، بحيث لم يعد التصنيع هناك مربحاً لتلك الشركات. بل لأنَّ الإنتاج في المصانع الآليَّة والروبوتيَّة مع الحدِّ الأدنى مِنْ قوَّة العمل، إلى جانب القرب من السوق الأميركيّ الواسع، هو أكثر جدوى وربحيَّة من استخدام اليد العاملة الرخيصة في فيتنام أو الفلبين.



مأساة الطبقة الوسطى
تُظهر بيانات عديدة أنَّ قطاعات التداول**** في الإقتصادات الصناعيَّة لم تعد تخلق، في حدّ ذاتها، فرص عمل، وذلك على مدى 20 عاماً تقريباً. هذا يعني أنَّ العمل الآن يمكن توفّره على وجه الحصر تقريباً في القطاعات الكبيرة غير القابلة للتداول، حيث الأجور تتناقص على نحوٍ مضطرد بسبب زيادة المنافسة مع العمال النازحين من القطاعات القابلة للتداول.


هذه الجوانب مِنْ مواصفات الجيل التكنولوجيّ السادس، باعتباره تطويراً هائلاً لتكنولوجيا الروبوتات، يمثِّل الاستخدام الفعَّال للذكاء الاصطناعيّ، وتكنولوجيا الاستنساخ الرقميّ الثلاثيّ الأبعاد D3*****، وما إلى ذلك، تبدأ بتدمير ليس فقط العمال غير المهرة نسبيّاً في البلدان النامية، ولكن أيضاً «ذوي الياقات الزرقاء» في دول منظَّمة التعاون والتنمية الاقتصاديَّة. بينما تصبح «الآلات الذكيَّة» أرخص وأكثر إتقاناً، سوف تحلّ محلَّ العمل البشريّ على نحوٍ متزايد، بدءاً من الإنتاج المنظَّم نسبياً (أي المصانع والمعامل)، ثمَّ تتمدَّد كذلك هناك حيثما وجد عمل يعتمد على القيام بعمليَّات وخطوات روتينيَّة.


وعلاوة على ذلك، تؤكِّد نماذج التنبؤ الخاصّة بالاقتصاد الكليّ أنَّ هذا الاتِّجاه يتعزَّز حتَّى في البلدان التي تتوفَّر فيها اليد العاملة الرخيصة. على سبيل المثال، في المصانع الصينيَّة حيث أكثر مِنْ مليون من العمّال ذوي الأجور المنخفضة يجمعون أجهزة الـ«آي فون» والـ«آي باد»، يتمّ استبدال عملهم على نحوٍ متزايد بالروبوتات. ووفقاً للاحصاءات الصينيَّة الرسميَّة، فقد انخفض عدد وظائف التصنيع منذ عام 1996 بمقدار 30 مليون، أو بنسبة 25%، في حين ارتفع حجم الإنتاج الصناعيّ بنسبة 70%!


تدريجيّاً، ينتقل الإنتاج إلى حيث يوجد السوق النهائيّ. هذا يسمح بخفض التكاليف، وتقليل المدّة اللازمة للتسليم، وخفض تكلفة مساحات التخزين، وبالتالي زيادة الأرباح. وفقاً لذلك، فإنَّ الجيل التكنولوجيّ السادس في الجانب الاجتماعيّ يضرب أكثر ما يضرب الطبقة الوسطى. أي الشريحة الأوسع والأكبر عدداً في الدول المتقدِّمة اقتصاديّاً.


على سبيل المثال، كانت الطبقة الوسطى في الولايات المتَّحدة ذاتها تعتبر تقليديّاً، بعد الحرب العالميَّة الثانية، «ملح الأرض الأميركيَّة» – كانت هي المستهلك الرئيسيّ، وعليها قام النظام السياسيّ الأميركيّ، وكانت تُعتبر الوصيّ الرئيسيّ على القيم والمعايير الأخلاقيَّة الأميركيَّة.


بدأ «غرق» الطبقة الوسطى الأميركيَّة، تدريجيّاً، مع نهاية الثمانينيَّات؛ من الناحية السياسيَّة، تجلَّى ذلك بكلّ وضوح في خمول الحركة النقابيَّة في الولايات المتَّحدة، التي كانت يوماً ما قويَّة وفاعلة. أمَّا من الناحية الاقتصاديَّة فقد تدنَّى مستوى معظم «الطبقة الوسطى» وتراجع بشكل مضطرد، أو أنَّ هذه الطبقة، كما في حالات كثيرة، غرقت بالفعل، وانحدرت إلى مستوى «الشرائح الفقيرة».


وفقاً لمعهد غالوب، كان 19% من الأميركيين في العام 2014، غير قادرين أنْ يكسبوا ما يوفِّر لهم الغذاء اليوميّ العاديّ. حاليّاً 75% من الأسر في الولايات المتَّحدة تعيش «من الراتب إلى الراتب» مع عدم وجود أموال إضافيَّة (تقريباً كما هو الحال في روسيا اليوم). و29% من الأسر الأميركيَّة لا تستطيع أنْ تنفق على التعليم العالي لأطفالها. وقد نما متوسّط ​​الديون الائتمانيَّة للعائلة الأميركيَّة العاديَّة من الطبقة الوسطى على مدى السنوات الـ20 الماضية، أربع مرَّات. هذه الأسر التي لديها أطفال (حتَّى مع طفل واحد) لا يمكن أنْ تعيش على راتب واحد. بينما تندفع الأميركيَّات إلى سوق العمل، ليس حماساً للحركة النسويَّة والمساواة وحريَّة المرأة، ولكن تحت وطأة ضغوطات وقسوة الضرورات الاقتصاديَّة الطاحنة.


من المعروف أنَّه يتمّ تحديد الإنتماء للطبقة الوسطى في الولايات المتَّحدة مِنْ خلال معيار امتلاك الإنسان لمنزل خاصّ. لقد اعتادت الغالبيَّة العظمى من الأميركيين أخذ قروض «على مدى الحياة» برهن منازلهم. وبنتيجة أزمة 2007-2008 انفجرت فقاعة سوق العقارات مع أسعارها المبالغ فيها. وتحوَّلت الطبقة الوسطى الأميركيَّة، في ظرف ساعة، إلى طبقة معدمة..


وأصبح الحصول على القروض النقديَّة مستحيلاً..!


وباعتبار ذلك، فإنَّ الفجوة تزداد بين الطبقة الوسطى التي انزلقت إلى دوامة الأزمة الدائمة وبين «الطبقات العليا»؛ ففي عام 1990، كانت أرباح كبار المديرين في الولايات المتَّحدة في المتوسّط تُقدَّر بـ​​70 مرَّة أعلى مِنْ رواتب الموظَّفين الآخرين. وخلال 15 سنة فقط، في عام 2005، كانوا يكسبون 300 مرَّة أكثر مِنْ سواهم. ومنذ أواخر السبعينيَّات، لم ترتفع دخول 90% مِنْ سكّان الولايات المتَّحدة (وجزء كبير مِنْ هؤلاء ينتمون للطبقة الوسطى)، ولكن بالمقابل تضاعفت دخول رؤساء الشركات أربعة مرَّات.


أريد أنْ أؤكّد مرَّة أخرى أنَّ كلَّ هذا - ليس مظهراً مِنْ مظاهر سوء نيَّة وجشع «البرجوازيين»، بل نتيجة موضوعيَّة تماماً، وعمليَّة منطقيَّة مِنْ عمليَّات «تقدّم» النظام الاجتماعيّ.


اليوم، كلَّما ارتفعت القيمة السوقيَّة للشركة، كلَّما كان من المهمّ العثور على أفضل مدير ليترأسها. وبهذا، جاء النموّ الكبير في دخل كبار المديرين التنفيذيين، إلى حدٍّ كبير، بسبب انتشار استخدام تكنولوجيا المعلومات التي تعمل على توسيع نطاق الآفاق الواعدة، وتوسيع نطاق أنشطة وقدرات صانع القرار في الرصد، مما يزيد من قيمة المدير الجيّد؛ وتحديداً لأنَّ السيطرة المباشرة بواسطة التكنولوجيا الرقميَّة تجعل المدير الفعَّال أكثر قيمة ممّا كان عليه قبل ذلك، لا سيّما حينما يتمّ توزيع مهمّات التحكّم بالعمل بين عددٍ كبير مِنْ مرؤوسيه، وكلّ منهم يتابع، منطقة محدَّدة من النشاط.


وما يحدث في الولايات المتَّحدة اليوم، هو غد و«مستقبل» كلّ الغرب المتطوّر..!


يكتب خبراء الولايات المتَّحدة أنفسهم على استحياء أنَّ «ضمان مستوى مقبول من المعيشة للآخرين (أي لتلك العشرات من الملايين المنتمين للطبقة الوسطى، الذين لا مكان لهم في واقع الجيل التكنولوجيّ السادس) وبناء الاقتصاد الشامل والمجتمع، ستكون أكثر التحدّيات إلحاحاً في السنوات المقبلة».


لتشكيل مثل هذا «الاقتصاد الشامل» يتوجَّب ابتداءً، قبل كلِّ شيء، معالجة مشكلتين، أساسيَّتين، مزمنتين:

أوّلاً؛ كانت الطبقة الوسطى المكوِّن الرئيسيّ للسوق المستهلك في الولايات المتَّحدة. مَنْ يحلّ مكان هذه الطبقة في هذا الدور، وكيف يمكن أنْ يكون أداء مَنْ يحلّ مكانها بهذا الدور؟

ثانياً؛ هذه الطبقة الوسطى كانت تعتبر نوعاً من الوصيّ على التقاليد والقيم الأميركيَّة (الأخلاقيَّات البروتستانتيَّة). في حين أنَّ «تآكل الأخلاق» في قطاع الأعمال والمجتمع في الولايات المتَّحدة أصبح أكثر وضوحاً: تآكل أخلاقيَّات العمل، ونموّ الفساد، والفوارق الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة الصارخة، والمتفاقمة، وتراجع العدالة الكليّ، كلّها أصبحت مِنْ سمات الجيل التكنولوجيّ السادس، في هذه المجتمعات..

كلّ هذه الاتّجاهات تؤثِّر بالفعل على استقرار المجتمع الغربيّ والطبقة الحاكمة الغربيَّة. على سبيل المثال، ينعكس هذا في تزايد اغتراب مختلف الفئات والشرائح الاجتماعيَّة عن المؤسسات الحكوميَّة الرسميَّة في الولايات المتَّحدة. بما في ذلك المؤسَّسة العامَّة التي كانت تحظى بثقة واسعة مِنْ قبل الأميركيين: المحكمة العليا، التي أصبح منسوب الثقة فيها لا يتجاوز 12 - 13%.


هل تشعر الطبقة الوسطى الأميركيَّة بنكبتها «التاريخيَّة»؟


نعم، مثل هذا الشعور واضح على مستوى الغرائز الاجتماعيَّة. بل إنَّ أكثر مِنْ ثلثي (71%) الأميركيين (وهذا يشكِّل تقريباً كلَّ الطبقة الوسطى) مقتنعون بأنَّ البلاد تسير على الطريق الخطأ. ووفقاً لشبكة CNN ومؤسَّسة أبحاث الرأي (Opinion Research Corporation)، فإنَّ 63% من المستطلَعين يعتقدون بتشاؤم أنَّ أطفالهم سيعيشون أسوأ مِنْ والديهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش المترجم:

* شامل سلطانوف: مؤرِّخ روسيّ أوزبيكيّ الأصل. وكاتب مشتغل بالفلسفة وناشط اجتماعيّ وسياسيّ مهتمّ بتطوير العلاقات الروسيَّة مع العالمين العربيّ والاسلاميّ. رئيس مركز روسيا والعالم الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيَّة. وعضو نادي ايزبورسك. تخرَّج في معهد موسكو الحكوميّ للعلاقات الدوليَّة التابع لوزارة الخارجيَّة. عمل لسنوات طويلة في المعهد نفسه في مختبرات تحليل نظام العلاقات الدوليَّة. تخصَّص في علم الصراعات والأمن الدوليّ والإقليميّ. عضو مجلس الدوما (مجلس النوّاب الروسيّ) لدورة واحدة (2003). 


**توماس بيكيتي (1971) اقتصاديّ فرنسيّ، مدير الدراسات في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعيَّة (EHESS) و أستاذ في مدرسة باريس للاقتصاد. كرَّس أعماله للبحث في اللامساواة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة. يقترح في أعماله تقوية السياسات العموميَّة، خصوصاً في المجال الضريبيّ، إضافة إلى اقتراحه سنّ ضريبة عالميَّة تضامنيَّة على الثروة. 


***منظَّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية: منظَّمة دوليَّة مكوَّنة مِنْ مجموعة من البلدان الغربيَّة التي تطبِّق الديمقراطيَّة التمثيليَّة واقتصاد السوق الحرّ. نشأت في سنة 1948، للمساعدة على إدارة مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبّا الغربيَّة بعد الحرب العالميَّة الثانية. وبعد فترة (مطلع الستينيَّات) تمَّ توسيعها لتشمل عضويَّتها بلداناً غير أوروبيَّة. 


****تنقسم جميع السلع والخدمات إلى: 1. سلع تجاريَّة، أي مشاركة في التبادل الدوليّ (تصدير واستيراد)؛ و2. غير قابلة للتداول، أي يتمّ استهلاكها فقط حيث يتمّ إنتاجها، ولا يتمّ تداولها دوليّاً، لسببين: تكاليف النقل المرتفعة والمستوى العالي من القيود (الجمركيَّة وغير الجمركيَّة). وفي العادة، فإنَّ معظم السلع والخدمات المنتجة في البناء والنقل والاتّصالات والمرافق العامَّة، والخدمات الاجتماعيَّة والشخصيَّة، هي غير قابلة للتداول بهذا المعنى. 


*****تُسمَّى كذلك الطباعة ثلاثيَّة الأبعاد، وهي شكل مِنْ أشكال تكنولوجيا التصنيع، حيث يتمّ استنساخ جسم ثلاثيّ الأبعاد بوضع طبقات متتالية من الموادّ فوق بعضها البعض. وهي أسرع وأوفر وأسهل في الاستعمال من التكنولوجيات الأخرى للتصنيع. وتتيح طباعة أجزاء وتجميعات وتركيبات مصنوعة مِنْ موادّ مختلفة وبمواصفات ميكانيكيَّة وفيزيائيَّة مختلفة في عمليَّة بناء واحدة. وتنتج نماذجَ تطابق منظر وملمس ووظيفة النموذج الأصليّ للمنتج. ومؤخَّراً، انتقلت هذه النمذجة (التقنيَّة التي قدَّمتها أفلام السينما) من الصناعات الثقيلة إلى البيئة المكتبيَّة، بأسعار متاحة. وتُستخدم حاليّاً في تطبيقات إنتاج المجوهرات، الأحذية، التصميم الصناعيّ، العمارة، الهندسة، والانشاءات، السيارات، الطائرات، طبّ الأسنان والصناعات الطبيَّة.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال