جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

د. نسرين أختر خاوري ▣

(المنشور تالياً، مقال جميل وعميق كتبته الدكتورة نسرين أختر خاوري، رئيس قسم الدراسات الشرقيَّة في جامعة ديبول في شيكاغو، عن الأديب الأردنيّ المميَّز الراحل محمّد طُمَّليه).

«المدوَّنة»


على غلاف مجموعة «محمد طُمَّليه: الأعمال القصصية»(1) صورة الكاتب الراحل وتحتها بخط يده: «لست نادماً على شيء، ولو قُدّر لي أن أعيش مرة أخرى لاخترت نفس الطريق».

مِنْ يسار الناظر إلى الصورة: سعود قبيلات، نسرين أختر خاوري، محمّد طمّليه، وآخرون، أيَّام دراستهم في الجامعة الأردنيَّة
رغم ظروفه القاسية، مارس محمد طُمَّليه تفاصيل حياته بزخم وكتب عنها كما يشاء. عالج الفقر والتعب والمرض ساخراً، متحدياً، موغلاً في الكتابة. وفي النهاية، حين دقّ الموت بابه بإصرار، واجهه كما يواجه كل منغصاته اليومية، شحذ قلمه وكتب، ثم مضى غير نادم على ما قال.

كتب محمد كـ«شاهد عيان» يدوّن ما يراه ويحسه، مصوراً تفاصيل واقعه وواقع مَنْ حوله، وهو واحدً منهم «بطبيعة الحال». رأى الأشياء بروحٍ أرقة، مرهفة، واعية، مرتبكة، قلقة، مشاغبة، وعابثة. أتقن الرسم بالكلمات، فتحولت حروفه سطوراً مدوَّنة بإتقان - ألوان صارخة، متناقضة، متشابكة، متوترة كتوتر السيجارة الدائخة بين أصابعه، تدغدغ أحاسيس القارئ بواقعيتها وتخدش حياءه بعريها وجرأتها.

رأى بعضهم أنّ محمد طمليه تعمّد أن يقول شيئاً مختلفاً عما يقوله الآخرون، لكن في الواقع، ما كتبه محمد لم يأتِ «مع سبق الإصرار»، بل تدفقت كلماته بعفويّة عارمة لتعكس تمرده الدائم، وروحه الحائرة المتأججة بقلق مزمن. حتى هو، كان يقف منبهراً في بعض الأحيان في حضرة بعض تعابيره النابضة بالحياة، يراقبها تتحوّر وتصير «منابت فُلّ وجذور زعتر»، تمتد، تتشعب، وتفرض وجودها على لغتنا المحكيّة والمكتوبة على حد سواء.

هكذا عرفناه خلال سنواتنا الدراسيّة الأولى في الجامعة الأردنية، معارضاً ومتميزاً.

كان أول عهدي به في محاضرة جمعتنا ونخبة من الأصدقاء في مساق «تذوق النص الأدبي». خلع محمد حذاءه ذات «حصة» تربّع قرب مقعده في آخر الصف، وعلّق، «بحثتُ في صدر جدتي عن رايات نزار، فلم أجدها» (2). كان هذا رداً على مقطع من قصيدة نزار قباني طلب منا أستاذ المادة معالجتها بالنقد والتحليل.

بعد المحاضرة، قرر محمد أن يشتري لحبيبته «أسود شفاه مُعتبر» احتفالاً بالمناسبة، غير آبه بردود فعل الأستاذ أو الطلبة، معلناً، «فلينتفخ العالم!».

بقي محمد طيلة حياته ملتزماً بلغته الخاصة التي تبلورت في تلك الفترة. استمر باختيار العناوين الجاذبة والمتقابلات الضديّة يحيكها بجمل قصيرة وعبارات متقطعة تسمح للقارئ أن يتابع من خلالها نبض أفكاره الذي طالما عبّر عنه بعلامات ترقيم يطوعها لرسم نبض مشاعره وأفكاره. تطورت لغة محمد واتسعت باتساع تجاربه لكنها لم تتغير، بل ظلت تعكس روحه الجسورة، المتمردة، الباحثة، المميزة، المبدعة، بنفس النكهة والزخم والوضوح. كانت الكتابة طقساً يمارس من خلاله انسانيته وتسيبه، ويتواصل به مع القارئ «على المكشوف»، يحدثه كما يحدث رفيقاً حميماً، أو حبيبة غارقة في الألق، فيُبدع.

كتب محمد طمليه من الشارع للشارع. لم يؤرقه شاغل الهوية والانتماء، ولم يشك في كونه ابن الزمان والحدث والمكان الذي عاش فيه تجاربه ومغامراته وخيباته التي كونت أفكاره وتفاصيله اليوميّة. فبين طفولته المبكرة في جنوب الأردن وإقامته في مخيم الحسين، اختلطت هويته، فصار بصدق «أردنياً من أصل فلسطيني»، و«فلسطينياً من أصل أردني» واعياً ما أسماه بـ«العلاقة الكاثولوكية بين الشعبين الشقيقين» ومنغمساً فيها، متخطياً كل التعصبات العرقيّة والدينيّة، معلناً أنه بالإضافة لكونه فلسطيني أردني، فهو عربي، «عراقي شيعيّ وسنيّ في الوقت نفسه، ومسيحيّ مثل صليب». ولقد بدا هذا المفهوم الشموليّ للهوية واضحاً في كتابات طمليه الصحفيّة والقصصيّة وكل ما جاء بينها. لكن رغم هذه الشموليّة العامة، بقي البعد الطبقيّ العنصر الأكثر وضوحاً وتفرداً في كتاباته، ومحوراً أساسياً لقضاياه المتداولة.

تقمّص محمد بصدق هويّة المكان الذي عاش فيه، وبات مسكوناً بقضاياه الأساسية وملتصقاً بها لأنها كانت قضاياه هو أيضاً- قضايا يومية مُلحّة، يعيشها، يتنفسها، ويكتب عنها. امتد المكان في حياة طمليه وكتاباته ليشمل شوارع عمان التي حفيت قدماه عليها، مهرولاً، مطارداً، عاشقاً، أو متسكعاً، ثم كفتريات الجامعة الأردنيّة وأروقتها ومواقف باصاتها، فباحة السجن وغرف المستشفى، وسقف السيل، ومطعم هاشم، وكشك أبو علي، ووادي الحدادة، ومخيم الحسين، وجبل الويبدة، وماركا، والأشرفيه، وشوارع وسهول وصحارى وجبال أخرى كثيرة على اتساع الوطن وضيقه.

وجد محمد مصدر مادته الأدبية في الحياة من حوله. كتب عن المخيم بواقعيّة جارحة وشفافيّة مفرطة لأنه عاش في المخيم. وصف زخات المطر تنقر سقف الغرفة المصنوعة من صفائح «الزينكو» بإتقان لأنه تمدّد ساعات طويلة يستمع إليها تمارس طقوسها الرتيبة في أيام البرد والحيرة والإفلاس. تحدث عن مغامراته وتردده ووحدته ومخاوفه وأحلامه المعلقة لأنه عاش معظمها وآمن باحتمال حدوث ما لم يحدث منها. ظل يبحث بين السُكر واليقظة عن حلم قديم بحياة من نوع مختلف «عن سائر الناس»، عن حبيبة من نوع آخر، وعن وطن يتقبله بعلاته- كما كان يقول: «بكل سيئاتي، بكل ما في الأرض من ذنوب»، وخلال جولة البحث المضنية تلك، اكتشف تفاصيل الحياة المدهشة، أذهلته، غاص فيها «حتى النخاع» وصورها لنا من الداخل، فأتحفنا.

يُصّر محمد طمليه أنه ليس كاتباً ساخراً (3)، وهذا صحيح لأنه كان بالفعل كاتباً جاداً جدأ، ومع ذلك قادراً على التهكم بالأمور الكبيرة وتطويعها بعفويّة ساخرة. وهذا ما يجعل الكاتب الملتزم مبدعاً وساخراً في الوقت نفسه. فكما كان الكاتب الإيرلندي المشهور، برنارد شو (1856-1950) يتهكم بقلمه اللاذع بالوضع الاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصادي السائد في زمانه، فيحرك أوجاع ناسه وابتساماتهم في الوقت نفسه، انشغل محمد طمليه بمواضيع يوميّه تعني الفرد العربي العاديّ، نبشها، قّلبها، سخر منها، ففقدت خصوصيتها، صارت عامة جداً، وصلتنا عارية مجرّدة، ففقدنا «حيادنا العام».

فكر محمد بصوت مرتفع وسمح للقراء أن يسترقوا السمع لصدى أفكاره، و«خربطاته»، وقلقه، وحيرته، وحنينه، وألمه، وخيبته. صوّر حياتهم اليومية لأنه كان يعيشها معهم، فأدخلوه بيوتهم وقلوبهم. صار هذا التواصل ملاذه ومأواه من الوحدة التي كانت تعبث بروحه الهائمة دوماً. حتى في ساعات الوجع المبرح، قبل الموت بقليل، ظل يهرب إليهم، يدوّن ما يخطر بباله المُرهق، وكانه يدعوهم «شهود عيان» لحضور الفصول الأخيرة من مسرحية حياته التي كان واعياً تماماً أنها تكاد أن تكتمل.

حلم محمد منذ أن عرفناه أيام الدراسة برواية تضعه «في الصف الأول عالمياً»، بدأها «بخربشات» فوق دفاترنا الجامعية وأوراقه المبعثرة هنا وهناك. لكنّ الرواية لم تكتمل بالطريقة التي أراد. ربما لأن حروفها تبعثرت بين تفاصيل الحياة اليوميّة التي دوّنها في مقالاته وقصصه. وللأسف، داهمته المنيّة قبل أن يتفرغ لجمع أطرافها في الرواية «الحلم». ولكن، وبشهادة الكثير من الأدباء والنقاد، يطل أدب محمد طملية علينا، مدرسة مستقلة، عالميّة بتميزها وحداثتها وبُعدها الإنسانيّ الموغل في الشفافيّة والشموليّة والصدق والإتقان.

انخرط محمد طمليه في بداية حياته السياسية بالعمل الحزبيّ. كان شيوعيّاً ملتزماً. أُعتُقل وسُجن لفترات وجيزة لمشاركته في أحداث الجامعة الأردنيّة وما تلاها من إشكالات في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات. وحتى بعد تركه الحزب، ظل طمليه ماركسيّاً في فكره وانتمائه وممشاه. وقد كان هذا الفكر يتلاءم مع طبيعته الكادحة التي تشربت بها جميع أعماله الأدبيّة المنشورة والتي شملت ما يلي: مجموعة مقالاته، «إليها بطبيعة الحال: نصوص خادشة للحياد العام» (4) (2007)، وكتاب «يحدث لي دون سائر الناس» مع فنان الكاريكاتير عماد حجاج (5) (2004)، وأربع مجموعات قصصية «جولة العرق» عام 1980، ثم «الخيبة» (1981)، و«ملاحظات حول قضية أساسية» (1981)، وأخيراُ «المتحمسون الأوغاد» (1984). ولقد أعيد نشر أعماله القصصية في كتاب واحد بعد رحيله (6).

يرى محمد طمليه أنّ أعماله القصصية تمثل المراحل الحياتيّة والفكريّة التي مر بها (7) مؤكداً بأن مجموعته الأولى «جولة العرق» كانت تعبيراً صريحاً عن انتمائه الفكريّ والسياسيّ في تلك المرحلة، بينما جاءت مجموعته الأخيرة، «المتحمسون الأوغاد»، كما يقول، انخراطاً في تفكيره المستقل. ورغم محاولاته الجادة الالتزام بمذهب الواقعيّة الاشتراكيّة، خاصة في أعماله الأولى، ونجاحه في البقاء مخلصاً لمرجعياته الإيديولوجية في معظم كتاباته، إلا أننا نرى بوادر تفكيره المستقل واضحة حتى في مجموعته القصصية الأولى التى وصفها بالملتزمة.

يظهر حرص محمد على إبراز المفارقات الطبقية جلّياً في قصص مجموعته الأولى «جولة العرق» بما فيها قصة «الأصوات» التي يتعرض فيها لقضية استنكار الحزب، ولو تحت وطأة التعذيب فيقول: «لقد أهانوك وضربوك ضرباً موجعاً ثم ألقوا بك إلى الشارع، كحذاء مثقوب، وليس بمقدورك إلا أن تظل في مستنقع تتجمع فيه القاذورات ونفايات العالم، أولئك الذين سقطوا قبلك والذين يسقطون» (8).

وتأكيداً لموقفه من الاستنكار يضيف: «في مساحة بحجم البصقة أشهرت اسمك، وتبرأت من مبادئك، وخذلت كل الذين يحبونك... تمرغ الآن في وحلك، فإنك الطرف الخاسر... لقد أصبحت جزءاً من عالم ينتهي وفقدت الحق في أن تكون سماداً لعالم يجئ» (9). 

ويأتي موقف محمد متفقاً مع كتابات أدباء ماركسيين آخرين وتصويرهم لما يترتب على الاستنكار من إرهاصات نفسيّة، وردود فعل سياسيّة، وعاطفيّة، واجتماعية، كما في قصيدة، «براءة– الأم» (10) وقصيدة «الأخت» (11) للشاعر العراقي مظفر النواب، ورواية «شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف (12).

 ولكن رغم حرص محمد على الالتزام في معالجة الموضوع الأساسي- الاستنكار، في قصته «الأصوات»، نرى الأم متحررة من القيود الإيديولوجية الصارمة في القصة نفسها، تمارس كدحها وأمومتها بتميز وعفوية تامة. فهي لا تأبه بسقوطه ولا تتخلى عنه إثر إنكاره الحزب، بل تظل تغدقة بالحب والاهتمام، بعكس موقف «الأم» و«الأخت» في أعمال مظفر النواب، ودور الأم في شرق المتوسط. فالأم عند طمليه تمتاز بوعي طبقي نابع من واقعها المعاش، ومع هذا تبقى مشغولة بممارسة إنسانيتها كأم أولاً، فنراها مشغولة براحة ابنها وسلامته وسعادته وتوفير سبل العيش له ولبقية أفراد الأسرة بكل ما أوتيت من كدح وإصرار. ففي قصة محمد طمليه يؤكد الراوي، عندما يهتز عالمك ويتضعضع بعد استكارك خروجك من السجن، تبقى «أمك تغني في الغرفة المجاورة فرحة بخروجـك» (13) وفي صباح اليوم التالي، حين تفتعل النوم مثقلاً بخزيك، «نهض الجميع وظلت أمـك تقبلك وتسألك عن رحاب» (14). ومن الجدير بالذكر أن الدور الذي تلعبه الأم في هذه القصة، رغم ضآلته، شكل بدايات تطور شخصية الأم في أعمال محمد طملية، وهذا موضوع زخم جدير بالدراسة الجادة.

رغم ومضات عدم الانضباط السياسي فيما يتعلق بدور الأم في القصة سابقة الذكر، يبقى الالتزام واضحاً في بقية قصص المجموعة من الأستاذ الذي أرهقته لا جدوى التجربة في «الدائرة» (15)، إلى أحلام الشاب الكادح المعلقة في «لا هوادة» (16) يسترجعها مع أنين الألم والخيبة التي تًصعّدها «رشفات» من زجاجة «كونياك» يجتر معها الوجع الذي تثيره ذكريات الحزن والحرمان، ثم «حالات» (17) التي يستعرض فيها الفروق الطبقية التي يعاني منها وأقرانه في المخيم. أما الحكايات القصيرة جداً التي شكلت مادة «في الصيف يأتي الغرباء» فتجسد الفرق الباهظ بين الذين يملكون والذين يكدحون إلى حدّ الوجع.

ويستمر حبل الالتزام واضحاً في معالجته لقضيَّة المرأة في قصة «البحر» حيث يختار طمليه امرأة عادية (18) في عالم موغل في حرمانها من أبسط الحقوق، كالاستمتاع بـ«البحر». يعيش محمد معاناتها ويصف بدقة بالغة ولغة فاضحة كبتها ثم تمردها المتمثل في اكتشافها لجسدها والتمتع به، هروباً وعصياناً. وكأنه بوصفه تلك المتعة المحرمة يتحدى معها لا جدوى حياتها التي فرضها عليها مجتمعها الغارق في الذكورة. وبهذا كسر محمد بلغته المتقنة وواقعيّته الصارخة الجدار الذي كان يحجب واقعها، ضارباً بكل الخطوط الحمر عرض الحائط.

يستمر محمد متمرداً على واقعه في مجموعته القصصية الثانية، «الخيبة» (19) حيت يثور «القادمون الجدد» (20) الهاربون من البلل والثلج الذي لا يكف عن السقوط، على تاجر المحل المتعجرف غير الآبه ببردهم وعوزهم وينتهي هذا الصراع «بلكمة» من أحدهم تطرح التاجر أرضاً و«ركلة» من آخر يندفع الجميع بعدها إلى داخل المحل، يتناول كل واحد منهم معطفاً جديداً، ويخرج. ويصف بطل القصة مشاعره تجاه التاجر بأنها «حالة تشبه الحقد إلى حد بعيد» (21) بما في ذلك من دلالات سياسية واجتماعية وسيكولوجية.

ويمتد هذا التمرد إلى القصص الأخرى في المجموعة، ففي قصة «وقاحة موظف» يثور الموظف المسالم المجتهد على وقاحة المدير واستغلاله عندما «انسحبت منه كل الأحاسيس التي يمكن أن يشعر بها إنسان ما» (22). يحاول أن يُصلح الوضع، لكنه يسكت فجأة «وكأنه فقد القدرة على النطق» ثم «يبصق في وجه المدير ويخرج» (23).

وتستمر النهايات الثائرة بربط قصص المجموعة بإحكام. أما قصة «الحيلة» (24) فتعرض حاجة الطالب الملحّة لحذاء دون ثقوب يسمح له بأن يمد ساقيه في الصف دون أن يشعر بالعار، فيصمم أن ينهض باكراً وينتعل حذاء أخيه قبل أن يصحو الأخ من نومه وبذلك يفوز بارتداء الحذاء، يزهو به، ولو ليوم واحد. لكنّ النعاس يغالبه بعد منتصف الليل بقليل، وحين ينهض في الصباح، يكتشف أنّ السماء تمطر بغزارة وأنّ أخاه قد انتعل الحذاء وخرج. ويعبر محمد في هذه القصة أفضل تعبير عن لا جدوى الحلول الفرديّة في مجتمع غارق في الفساد والحرمان والتفاوت الطبقيّ متلاعباً بتعاطفنا الفطري مع شخصية الطفل المحروم ومعاناته.

ويكتمل تفجُّر الصراع الطبقي والبحث عن الهوية في هذه المجموعة في قصة «الخيبة» (25) التي تدور تفاصيلها حول بدء علاقة عاطفيّة متوترة بين عليا، الفتاة المترفة، وبطل القصة الكادح الذي دبر القدر الجميل لقاءه بها، فكان لقاء «بين النقائض». «سطلته» عليا وخربطت عالمه، لكن الهوّة الشاسعة بين عالمهما وقلقه المزمن تغلبا على حبه لها ورغبتها بالتقرب منه. فهو المنتمي لعالمه، «الردم الكبير،... بيوت متراصة، ممرات أضيق من عروق جسد مريض، قمامة وشتائم لا بد منها.. شتائم توحي باحتراف اللاجدوى» (26). انتماء ليس «بمعناه الفضفاض، وإنما المحدد، الذي يأخذ بعين الاعتبار كل التفاصيل والدقائق، هؤلاء الناس، هذه المعاناة الكلية (27)».

  وتتأزم الحالة حين يعي بطل القصة أن دخوله الجامعة، يؤدي لاختلال توازنه، يضعه «في موقع طبقي (مغناج)، فلا هو هنا، ولا هو هناك، ولا تجده في أي مكان (28)».

وحين يحاول التخلص مما يفرضه هذا الصراع العاطفيّ من «زخم شرس عم رأسه» يحاول «معادلة الزخم بزخم مضاد»، بأن يتجه غرباً، «متسكعاً» بين البيوت الفخمة التي تنتمي إليها عليا، قاطعاً المسافة مشياً وينتهي به الأمر بأن «يدور، ويراقب، ويشعر بالاضمحلال... كأنّ هذا الإسمنت الجميل، إنما يتطاير غباراً في الجو،... [وهو] يستنشق هذا الغبار، يتلبد الغبار في صدره، يكبر.. يكبر.. يصير صرحاً كالحقد... إذ ذاك لا بد من الانحياز المطلق.. التطرف، فالموضوعيّة تبدو رثة، ثملة، تبول وتستفرغ، والأجدر بها أن تظل في المرحاض.. إلى المرحاض أيها المنطق (29)».

وفي النهاية يكبر الشرخ بين عالمه وعالمها فيه، يقول لها: «دعيني وشأني». يجاهد طوال الطريق إلى البيت كي لا تفلت منه الدموع، لكن في البيت يذرف دموعاً «تكفي لأن يستحم طفل (30)». 

ومع مرور الزمن وتنوع التجربة، صار محمد أكثر تحرراً في كتابته، كما هو واضح في مجموعة «المتحمسون الأوغاد» ولكنه دفع ثمن هذا التحرر كما هي حال نملته التي كُتب بها تقرير لتذمرها وتفكيرها المستقل، وتم تصنيفها «ساقطة» من قبل رفيقتها الملتزمة وبقية «المتحمسين الأوغاد» (31). فهل كان محمد في هذه القصة وبقية قصص المجموعة يتحدث عن تجربته الشخصيّة؟ وهل يُعتبر مثل هذا الحديث تخلياً عن التزامه أم توغلاً فيه؟

بغض النظر عن طبيعة النصوص التي كتبها محمد طمليه، في رأيي بقي التقلب بين الالتزام والتحرر في أعماله وجهان لعملة واحدة غذّت قلقة وإبداعه ورافقته في بحثه الدائب عن «موطئ قلم» (32) منتجاً لنا خلال رحلته أدباً إنسانياً مميزاً باهراً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. طمليه، محمد، «الأعمال القصصية الكاملة: محمد طمليه»، أزمنة للنشر والتوزيع، عمان، 2009. ستكون هذه المجموعة المرجع الرئيسي للمقتطفات المدرجة في هذه الدراسة.

2. إشارة إلى قصيدة نزار قباني «الرسم بالكلمات» من ديوانه بالعنوان نفسه (1966) والذي يقول فيها: «لم أترك نهداً أبيض أو أسود إلا زرعت بأرضه راياتي، لم تبقَ زاوية بجسم جميلة إلا ومرت فوقها عرباتي».

3. يعترض محمد طمليه على وصفه بالكاتب الساخر في مقابلة مع جريدة الدستور بتاريخ 11 آذار 2007، ويردّ على ذلك، مشيراً إلى أولئك الذين يطلقون عليه صفة الكاتب الساخر، «هم مجرمون»، ويضيف: «على العكس من ذلك، يقال إني مؤلم وحاد، ولكن وبصرف النظر عن المسميات، أنا كاتب فقط».

4. طمليه، محمد، «إليها بطبيعة الحال: نصوص خادشة للحياد العام»، البنك الأهلي الأردني، عمان، الأردن (2007).

5. طمليه، محمد، حجاج، عماد، «يحدث لي دون سائر الناس»، مؤسسة «أبو محجوب» للنشر والتوزيع، عمان، الأردن (2004).

6. طمليه، محمد، «لأعمال القصصية: محمد طمليه»، دار أزمنة بدعم من مؤسسة عبد الحميد شومان. عمان، الأردن (2009).

7. مقدمة كتاب «الأعمال القصصية: محمد طمليه: » نص شهادة قدمت في ملتقى عمان الثقافي الثاني الذي عقد في عمان خلال الفترة 22 – 25|8|1993.

8. لمصدر السابق نفسه: قصة «الأصوات»، ص23.

9. المصدرالسابق نفسه، ص 23.

10. النواب، مظفر، «الأعمال الشعرية الكاملة: الشاعر العربي المناضل مظفر النواب»، دار قنبر، لندن، ص 530-527.

11. المصدر السابق نفسه، ص 532-531.

12. منيف، عبد الرحمن، «شرق المتوسط»، الدار العربية للدراسات والنشر،  بيروت، 1975.

13. «الأعمال القصصية: محمد طمليه»، قصة «الأصوات»، ص 26.

14. المصدر السابق نفسه، ص 27.

15. المصدر السابق نفسه، قصة «القادمون الجدد»، ص 67-70.

16. المصدر السابق نفسه، قصة «لا هوادة»، ص 43-46.

17. المصدر السابق نفسه، مجموعة قصص «حالات»، ص 47-50.

18. المصدر السابق نفسه، قصة «البحر»، ص 51-57..

19. الخيبة (قصص)، عمان، مطبعة التوفيق، 1981.

20. «الأعمال القصصية: محمد طمليه»، قصة «القادمون الجدد»، ص 67-70.

21. لمصدر السابق نفسه، ص 69.

22. المصدر السابق نفسه، قصة «وقاحة موظف»، ص 80.

23. المصدر السابق نفسه، ص 80.

24. المصدر السابق نفسه، قصة «الحيلة»، ص 71-74.

25. المصدر السابق نفسه، قصة «الخيبة»، ص 81-122.

26. المصدر السابق نفسه ، ص 97.

27. المصدر السابق نفسه ، ص 97.

28. المصدر السابق نفسه ، ص 97.

29. المصدر السابق نفسه ، ص 102.

30. المصدر السابق نفسه ، ص 122.

31. المصدر السابق نفسه ، قصة «المتحمسون الأوغاد»، ص 211-213.

32. المصدر السابق نفسه، مقدمة المجموعة، ص 10.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال