جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

ياسر قبيلات ▣
بوغدانوف الغامض الذي فيه يحتارون
يعتبر ميخائيل بوغدانوف إلى جانب غينادي غاتيلوف مِنْ أشهر مساعدي وزير الخارجيَّة الروسيّ. واللافت أنَّ لهما كلَّ هذه الشهرة بنتيجة الإحتكاك العلنيّ بقضايا السياسة الخارجيَّة، وذلك دوناً عن زملائهما الآخرين (عددهم يزيد وينقص، لكنهم في المتوسِّط سبعة!)؛ هذا رغم أنَّ الإحتكاك العلنيّ مع قضايا السياسة الخارجيَّة أصبح سمة عامَّة يتَّسم بها مساعدو وزير الخارجيَّة الحاليّ، في سابقة لافتة؛ فقد جرت العادة أنْ يكون مثل هذا الإحتكاك، وعلى نطاق أضيق، امكانيَّة متاحة حصراً للمبعوثين الخاصّين، الذين لم يكونوا يظهرون في الإعلام إلا عند قيامهم بمهامّهم الخارجيَّة، وعادة ما كان يتَّسم تعاملهم بدبلوماسيَّة تعتمد اللغة الناعمة المبطنة، التي تشي بمحدوديَّة صلاحيَّاتهم وقدرتهم على التأثير في مواضيع السياسة الدولية.

كانوا مجرد مساعدين منشغلين بدعم السياسة الخارجيَّة، في الداخل، من خلال قيادة عمل أجهزة محدّدة بالوزارة. وهذا بالطبع، وضع يختلف عن الحال اليوم، الذي يبدو فيه لافروف وزيراً أمميّاً يكرّس جهوده للحراك السياسيّ الدوليّ، بينما يظهر مساعدوه كوزراء خارجيَّة لروسيا..

ثلاث سنوات
أخذت الخارجيّة السوفيتيّة موقعها القويّ في الدولة في مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الثانية، وأضحت منذ بداية الخمسينيَّات لاعباً أساسيّاً مفوَّضاً في صياغة وإدارة علاقات الدولة الخارجيَّة بالتوازي مع الهرم القياديّ للحزب الشيوعيّ السوفييتيّ، الذي مالت أجهزته العليا منذ ذلك الحين لتكون جزءاً من صلب أجهزة الدولة، لا قوّة سياسيّة قياديّة مستقلّة.

وربما يتوجب علينا هنا، ملاحظة ثلاثة أشياء، صنعت هذا الواقع وأثَّرتْ به:

-        سياسة ستالين في الحدّ من الدور القياديّ للحزب، مقابل إعلاء دور مؤسَّسات الدولة.

-   أنَّ الخارجيَّة قبل وفاة ستالين كانت مسنودة بالشخصيَّة الثانية مِنْ حيث الأهميَّة السياسيَّة بالدولة (مولوتوف)؛ ومَنْ أراحوه مِنْ حملها لفترات محدودة كانوا منتدبين مِنْ قبل ستالين نفسه، للإضطلاع بملفات يهتمّ بها شخصيّاً، وكانت تمثّل بالنسبة له أولويّة ملحّة.

-   أنَّ الخارجيَّة التي استفادت من التقارب بين مولوتوف وستالين، استفادت لاحقاً من التقارب بين أندروبوف وغروميكو؛ فأخذت وضعاً وازناً في الدولة، واكتسبتْ نفوذها في الهيئات الحزبيَّة المقرِّرة.

وهنا، فإنَّ بوغدانوف، الذي ولد في العام 1952، عرف «الخارجية» باعتبارها جهازاً سياديّاً، يحظى بوضعٍ خاصّ، مدعوم بتفويض مهنيّ وسياسيّ يتيح له ممارسة أداء يتَّسم بالتحرّر مِنْ ظروف المجتمع الذي تديره دعاية ايديولوجيَّة مكثَّفة، وتسيطر عليه شعارات حزبيَّة زادتها سنوات الحرب العالميَّة الثانية دوغمائيَّة. وهو حال أعطى الوزارة شخصيَّة مستقلّة نسبيّاً، وبعض هذا انتقل إلى شخصيّات بعض العاملين فيها.

وهذا شيء أقوى مِنْ أنْ ينجو منه بوغدانوف، الذي بدأت علاقته بـ«الخارجية» في مرحلة مبكّرة، فقد تخرج من معهد العلاقات الخارجيَّة التابع للوزارة في العام 1974، لينتقل بعد التخرّج مباشرة للعمل في مركز الوزارة وبعثاتها الخارجيَّة؛ ففي عام تخرجه انتقل إلى اليمن الجنوبيّ وعمل ضمن طاقم السفارة هناك حتَّى العام 1977، ثمَّ تمَّ نقله ليعمل ضمن طاقم السفارة السوفيتيَّة في لبنان (1977-1980) ليعود بعدها إلى مركز الوزارة في موسكو.

لم يطل المقام ببوغدانوف في موسكو، فقد تمَّ ارساله في العام 1983 إلى سوريا دبلوماسيّاً عاملاً في السفارة السوفيتيَّة بدمشق، وبقي هناك حتَّى العام 1989، حيث تمَّ استدعاؤه إلى المركز ليرأس «وحدة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا» (العالم العربي)، قبل أنْ تتمَّ إعادته إلى دمشق مرَّة أخرى، في العام 1991 وحتى العام 1994، وهي فترة تعقيدات في العلاقات الروسيَّة السوريَّة. ومرَّة أخرى يمضي ثلاث سنوات في موسكو مساعداً لمدير «دائرة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا»، ثم يظهر في المنطقة مِنْ جديد، ولكن سفيراً لروسيا الاتحاديَّة في «إسرائيل».

«إسرائيل» ومصر
وهنا، يتاخَّر المقام ببوغدانوف للمرَّة الثانية في حياته التي مضتْ بمعدَّل ثلاث سنوات لكلّ مرحلة، بما في ذلك الفترات التي كان يقضيها في المركز. وستصبح خدمته في «اسرائيل»، التي استمرَّت حتَّى العام 2002، الثانية في الطول بعد فترته الأولى التي قضاها في سوريا، مع فارق أنَّه كان «سفيراً»، في الثانية. ولنلاحظ هنا، أنَّ سفارته في «تل أبيب» جاءت في ذروة استجداء روسيا يلتسن لـ«إسرائيل»، باعتبارها ذات نفوذ على الولايات المتّحدة والغرب، الذي كان يتحكَّم بالمساعدات والقروض التي كانت تطلبها روسيا يلتسن بلا حساب مِنْ صندوق النقد الدوليّ.

وبالقدر نفسه من الإنتباه، يجب أنْ نتذكَّر أنَّ روسيا يلتسن، التي كان يتلاعب بها مجموعة من «الأوليغارش» اليهود، تبنَّت في ذلك الوقت موقفاً انتقاديّاً من السياسة الخارجيَّة السوفيتيَّة، لكونها، برايهم، فرَّطتْ بالعلاقة مع «إسرائيل» لأجل العرب..

انتقل بوغدانوف، بنهاية سفارته في «تل أبيب»، إلى المركز ليرأس «دائرة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا»، ويقضي في منصبه هذا ثلاث سنوات (حتى العام 2005)، لينتقل بعدها إلى القاهرة سفيراً لروسيا في مصر مبارك، وممثِّلاً مفوَّضاً لروسيا الإتحاديَّة لدى جامعة الدول العربيَّة، ليقضي هناك فترته الطويلة الثالثة، التي استمرَّت حتَّى العام 2011.

وأخيراً، في العام نفسه يصعد إلى قيادة «الخارجية»، انتقل من سفارته في مصر مبارك إلى موسكو ليصبح مساعداً لوزير الخارجيَّة مختصّاً بالعلاقات مع بلدان «الشرق الأدنى وشمال أفريقيا».

وهنا، يحتاج المرء لإجراء مقارنات طويلة وكثيرة، ليقدِّر إنْ كانت هذه النقلة طارئة أم عاديَّة. ومع الإحتفاظ بفرصة عدم الإجابة بدقَّة على هذا التساؤل، يمكن التذكير بأنَّه تمَّت الإطاحة بنظام مبارك في هذا العام بالذات. وأنَّه عقب الإطاحة به بات واضحاً أنَّ مصر على أبواب دخول دوَّامة طويلة، وأنَّ العالم العربيّ مقبل على الشيء نفسه..

(ثمة تصريحات مبكرة متكرِّرة وصريحة لبوتين ولافروف تجزم بحدوث ذلك).

لذا، قد يكون من السابق لأوانه الجزم بأنَّ استدعاء بوغدانوف، الذي قضى وقتاً كافياً في سفارته بالقاهرة، كان أمراً طارئاً أم لا. ولكن علينا أنْ نأخذ بعين الإعتبار أنَّ ذلك حدث في عهد رئاسة ميدفيدييف، الذي سيتشارك لاحقاً مع سفيره السابق العائد من القاهرة ومساعد وزير الخارجيَّة المعيَّن حديثاً، بالتخصّص في اطلاق تصريحات مربكة وملتبسة حول الموقف الروسيّ مِنْ سوريا..

هل كانت استعادته وترقيته حاجة من حاجات «الخارجية»، أم رغبة رئاسيَّة مِنْ ميدفيدييف، الذي يشاع أنَّه كان يعيش اخفاقات شخصيَّة في حياته، عزَّزت مِنْ ضعفه أمام رئيس الوزراء حينها، رجل روسيا القويّ بوتين؟

لا يجب القفز إلى الإجابة فوراً، ولكن تجب ملاحظة أنَّه في العام 2012، وخلال آخر شهور رئاسة ديميتري ميدفيديف، تمَّ تعين بوغدانوف بمرسوم رئاسيّ مبعوثاً خاصّاً لرئيس روسيا الاتحاديَّة لمنطقة «الشرق الأدنى» (الشرق الأوسط). وعلينا أنْ نلاحظ أيضاً أنَّه لم يتسلَّم أيَّة مهامّ معلنة بشؤون الملف المصريّ، الذي كان ولا يزال يشغل بال السياسة الروسيَّة..

تنقّل وتقدّم
يبدو ميخائيل بوغدانوف، في مهمّاته التي يغلب عليها أنْ لا تستمرّ أكثر مِنْ ثلاث سنوات، نموذجاً للمبعوث ورجل المهمّات، الذي ينتقل إلى سواها ما إنْ ينهيها. أو على نحوٍ أدقّ: بعد فترة معلومة. وهذا لا يجعل منه رجلاً قويّاً، ولكنّه يعطيه صفة الخبير والموثوق. ويتَّضح هذا من خلال مقارنة سيرته المهنيَّة بسيرة زميله غينادي غاتيلوف، الذي ابتدأ حياته المهنيَّة بعد التخرّج من المعهد نفسه ملتحقاً بالسفارة السوفيتيَّة في مصر عام 1972، وتركها في العام 1977، متدرِّجاً في وضعه المهنيّ؛ حيث أصبح خلال تلك الفترة ملحقاً ثمَّ سكرتيراً ثالثاً.

وفي المقارنة، فإنَّ بوغدانوف الذي كان يتمّ نقله مِنْ مكانٍ إلى آخر دون أنْ يعني ذلك ترفيعاً سياسيّاً له، كان زميله غاتيلوف ينتقل مِنْ مرتبة إلى أخرى بينما هو يخدم في المكان نفسه. على أنَّ سيرة الأخير لم تخل كذلك مِنْ عقدة السنوات الثلاث، فقد عمل في موسكو حتَّى عام 1980 سكرتيراً ثالثاً لقسم المنظَّمات الدوليَّة في «الخارجية»، قبل أنْ يتمَّ نقله إلى الأردن سكرتيراً ثانياً، ثم أوَّل، في السفارة السوفيتيَّة في عمّان. وبعد عودته إلى المركز في العام 1984 تدرَّج بصورة منتظمة ليكون سكرتيراً أوَّل لقسم المنظَّمات الدوليَّة، ثمَّ مستشاراً، ثمَّ خبيراً، ثمَّ رئيساً للقسم نفسه.

وفي المقارنة أيضاً، بقي بوغدانوف في مجال اختصاصه «الضيّق» («الشرق الأدنى وشمال أفريقيا»)، الذي أصبح أكثر «ضيقاً» بتعيينه مبعوثاً خاصّاً لمنطقة «الشرق الأدنى»، بينما زاول زميله غاتيلوف مختلف الاختصاصات (تزيد على العشرة). وهو على نحوٍ ما، يمثِّل واحدة مِنْ حالات نفوذ المستعربين في «الخارجيَّة»، ويؤشِّر على ذلك ارساله (1992) إلى نيويورك مستشاراً ورئيساً للدائرة السياسيَّة في البعثة الروسيَّة الدائمة في الأمم المتَّحدة حتَّى العام 1997. والمهمّ في هذه الفترة أنَّه كان يعمل تحت رئاسة لافروف، الذي كان قد عاد إلى نيويورك مندوباً دائماً لروسيا الاتحاديَّة في المنظَّمة الدوليَّة (1994 – 2004).

زمالة لافروف وتجربة العمل المباشر تحت رئاسته (التي يفتقر إليها بوغدانوف)، أُتيحتْ لغاتيلوف مرَّة ثانية في العام 1999، بعد سنوات قضاها في موسكو مساعداً لرئيس دائرة المنظَّمات الدوليَّة في الخارجيَّة؛ فقد تمَّتْ إعادته إلى نيويورك نائباً أوَّل لمندوب روسيا الدائم في الأمم المتَّحدة (لافروف)، واستمرَّ في موقعه هذا حتَّى عام 2004 (العام نفسه الذي تسلَّم فيه لافروف الخارجيَّة) ليصبح كبير مستشاري الهيئة الاستشاريَّة في الأمانة العامَّة لمجلس الأمن الدوليّ.

في العام 2008 يعود غاتيلوف إلى موسكو، ليتسلَّم إدارة دائرة المنظَّمات الدوليَّة في «الخارجية»، ثمَّ تمَّ تعيينه في العام 2011 مساعداً لوزير الخارجيَّة، ليعمل للمرَّة الثالثة بشكلٍ مباشر وحثيث مع لافروف.

فارق التجربة
يبدو الرجلان مِنْ عالمين مختلفين، رغم انَّهما كليهما من الناطقين بالعربية في «الخارجية»؛ ومن طرائف المقابلة بين سيرتيهما المهنيتين أنَّهما لم يعملا في مركز الوزارة بوقتٍ واحد، طوال مهنتهما التي تزيد على أربعين عاماً، سوى فترة محدودة لا تزيد على ثلاث سنوات (من العام 1989 وحتَّى 1991).

التجربة المختلفة، يمكنها أنْ تنتج العقل المختلف بين الرجلين؛ ويمكننا أنْ نرى الفارق بين رجل ابتدأ حياته المهنيَّة في التعامل مع حلفاء صعبي المراس، غير مفهومي المزاج، في اليمن الجنوبيّ في السبعينيَّات، وفي لبنان الحرب الأهليَّة والاجتياح الإسرائيليّ، وسوريا حافظ الأسد، ثمَّ حقَّق في حياته المهنيَّة قفزة  كبيرة بتعيينه سفيراً في «تل أبيب» في مرحلة شهر العسل الروسيّ الإسرائيليّ، ثمَّ في مصر مبارك. وآخر بدأ حياته في مصر السادات التي لم تكن قد تجرَّدتْ بعد مِنْ إرث عبد الناصر، ليجد نفسه بعد ذلك في جبهة مواجهة مع تداعيات الانقلاب الساداتيّ على العلاقات السوفيتيَّة المصريَّة، ثمَّ في أردن بدايات الثمانينيَّات الذي كان يشاركه الهواجس تجاه «إسرائيل» التي كسبت مصر في «كامب ديفيد»، ثمَّ منخرطاً في تفاصيل المواجهات الدبلوماسيَّة في مجلس الأمن.

والفارق ببساطة، هو بين رجل يتضمَّن ألبومه الخاصّ صوراً سعيدة في «تل أبيب»، وآخر تعقَّدت مهنته في بلدٍ صديق في مقدِّمة ضروريَّة لتحسّن العلاقات المصريَّة «الإسرائيليَّة»؛ وعليه، ليس غريباً أنْ يصدر عن الأوَّل العديد من التصريحات الملتبسة التي لا تجد لها سياقاً في سياسة بلاده الواضحة مِنْ مواضيع استراتيجيَّة، وأنْ لا تلتقط وسائل الإعلام من الثاني كلمة ملتبسة واحدة يمكن تسويقها إعلاميّاً كخبرٍ مثير!

وفي الحقيقة، فإنَّ الأمر الأكثر إثارة مِنْ تصريحات ميخائيل بوغدانوف الملتبسة، هو حقيقة أنَّه منذ تعيينه مبعوثاً خاصّاً لرئيس روسيا الاتّحاديَّة لمنطقة «الشرق الأدنى»، وطوال أكثر مِنْ ثلاثة عشر شهراً، لم يزر المنطقة، ولم يطرق أبوابها؛ بل إنَّه لم يكن له مقعد في طائرة الوزير لافروف التي هبطت في دمشق في الشهر التالي لتعيينه؛ أعني تعيين بوغدانوف، بالطبع!
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال