جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣


أدلتْ «دائرة الإفتاء العامّ» برأيها، هي أيضاً، بشأن إضراب معلِّمي المدارس الحكوميَّة؛ فقالت إنَّ أخذ الموظَّف أجرة عن اليوم الذي تغيَّبَ فيه عن العمل مِنْ دون عذر أو مبرِّر مشروع هو أمر غير جائز وحرام! لكنَّها لم تشر صراحة إلى إضراب المعلِّمين أو إلى القائمين به.

وبغضّ النظر عن رأي المؤيِّدين لهذا الإضراب أو المعارضين له، نجدنا مضطرّين هنا أنْ نسأل: ما دخل دائرة الإفتاء العامّ بالإضرابات وما شابه؟ فالإضرابات ليست شأناً دينيّاً؛ بل هي جزء مِنْ منظومة القيم والحقوق والمكاسب التي تعارف عليها البشر في العصر الحديث. وبلغة أدقّ، هي حقّ أساسيّ مِنْ حقوق الإنسان.. مُعتَرف به مِنْ كلّ دول العالم ومنصوص عليه في دساتيرها، باستثناء بعض الدول التي ما زالت تعيش في ظلّ أنماط حكم تنتسب إلى العصور الوسطى أكثر ممّا تنتسب إلى زمننا الحاليّ.

ومن الواضح أنَّ، «الدائرة»، بموقفها هذا، قد عبَّرتْ عن انحيازٍ سافرٍ منها ضدّ العاملين بعمومهم، ولصالح أرباب العمل بكلّ أصنافهم! كما أنَّها، بجرَّة قلم فتواها تلك، لم تكتفي بشطب حقٍّ أساسيّ مِنْ حقوق الإنسان حسب؛ بل شطبتْ أيضاً بنداً مهمّاً مِنْ بنود الدستور الأردنيّ!

وقد تمَّ تبرير هذا التدخّل الغريب من «الدائرة» في شأنٍ لا يخصّها، بالقول إنَّه جواب على سؤالٍ وُجِّه لها (لم تفصح، بالطبع، عمَّن وجَّهه لها)، يقول: «هل يحلّ للعامل أو للموظَّف الامتناع عن عمله، وعدم القيام به، وأخذ أجرة عن اليوم الذي تغيَّب فيه مِنْ دون عذر؟»

في كلّ الأحوال، فإنَّ مَنْ دفع «الدائرة» إلى اتِّخاذ هذا الموقف الغريب، قد أضرّ بها أكثر من انتفاعه بموقفها؛ فهي في النهاية، دائرة رسميَّة، وكلّ ما تقوله يُحسَب على أنَّه جزء من الموقف الرسميّ ولا يجد أذاناً صاغية لدى الطرف الآخر.

الأمر الأهمّ، هنا، والذي يحتاج إلى وقفة متأنِّية ونظرةٍ ثاقبة، هو اعتقاد السلطات، كما يبدو، أنَّها تستطيع مواجهة توظيف «الإخوان المسلمين» الدين لخدمة أغراضهم السياسيَّة الخاصَّة، بلجوئها هي نفسها (السلطات) أيضاً إلى توظيف الدين لخدمة أغراضها السياسيَّة الخاصَّة!

ألا ترى هذه السلطات أنَّها تلعب على ملعب «الإخوان»، وأنَّه لن ينتج مِنْ مثل هذا الموقف، بالتالي، سوى إقرارها الضمنيّ بحقِّهم في وضع شروط اللعبة وتحديد معاييرها! فأيّ ضيق أفق هذا!

في العقود الماضية لجأ العديد من الأنظمة العربيَّة إلى استخدام التيَّارات الدينيَّة (والتفكير الدينيّ) في مواجهة المعارضة اليساريَّة (بجناحيها القوميّ والأمميّ). وكان أبرز مَنْ فعلوا ذلك هو «الرئيس المؤمن» محمَّد أنور السادات، وكذلك النظام الحاكم في بلادنا. فماذا كانت النتيجة؟ لقد قُتِل السادات على يد فرانكشتاين، ذاك، الذي صنعه هو بنفسه. أمَّا في بلادنا، فقد تمَّ تدمير جهاز التربية والتعليم ومناهجه ومستوى أدائه على يد «الإخوان المسلمين» الذين سلَّمهم النظام ذلك الجهاز ابتداء مِنْ أواسط سبعينيَّات القرن الماضي.

يجدر بنا، هنا، أنْ نذكِّر بأنَّ هذه العمليَّة ترافقت مع هجمةٍ شرسة، شنِّها، آنذاك، كلٌّ من النظام و«الإخوان» معاً، لاجتثاث اليساريين بمختلف أصنافهم ومشاربهم مِنْ جهاز التربية.

بعد ذلك، قام «الإخوان»، بتفريغ المناهج التعليميَّة مِنْ أيّ محتوى علميّ أو تنويري، وقد بلغ بهم الأمر حدّ إلغاء مادَّة الفلسفة كليّاً من المناهج المدرسيَّة؛ الأمر الذي نشهد نتائجه الكارثيَّة الآن؛ فكيف للإنسان أنْ يفكِّر تفكيراً علميّاً حقيقيّاً، وهو يجهل كلّ شيء عن أمّ العلوم (الفلسفة)؟!

أكثر مِنْ ذلك، فقد سخَّر «الإخوان» جهاز التربية والتعليم، إبّان سيطرتهم عليه، لخدمة الغرب في حربه الإمبرياليَّة «الباردة» على الاتّحاد السوفييتيّ وعلى اليسار العربيّ والعالميّ. وحتَّى لا يشكّ أحد بأنَّنا نتجنَّى أو نطلق الكلام على عواهنه، أذكِّر، هنا، كمثال فقط، باختيارهم رواية «مزرعة الحيوان» (مساهمة عميل المخابرات البريطانيَّة الشهير جورج أورويل المعروفة في جهود الحرب الباردة) لتكون مقرَّراً رسميّاً على طلّاب المدارس الثانوية في بلادنا.. في حين أنَّهم كانوا يستبعدون تماماً كلَّ أنماط الأدب العربيّ (والأجنبيّ) الأخرى الحديثة من المناهج التربويَّة!

بالطبع، لم يكن جهاز التربية قبل هذه المرحلة (أي عندما كان لليسار وجود ملموس فيه) بهذا السوء؛ بل كان يتميَّز بالكفاءة، وبعمق مستوى تفكير المعلِّمين والتلاميذ، وبمناهجه العصريَّة المستنيرة، ومساندته للقيم الوطنيَّة والقوميَّة والإنسانيَّة النبيلة.

الآن، تتصارع الأوساط الحاكمة في الأنظمة العربيَّة التابعة مع الإخوان المسلمين، بعد تحالفها الطويل والعميق معهم؛ لا لشي سوى أنَّ الأخ الكبير (إذا جاز لنا أنْ نستخدم مصطلحات أورويل نفسه) وصل إلى قناعة راسخة، مؤخَّراً، بأنَّ هذه الأنظمة، بصيغتها الحاليَّة المتهالكة، لم تعد لها فرصة حقيقيَّة للبقاء إلا بـ«تضمينها» بالجملة «للإخوان المسلمين» ليقوموا بإدارتها بالوكالة عنه (مثلما حاربوا مراراً بالوكالة عنه)، فيحافظوا على جوهرها الرأسماليّ المتوحِّش ويحرسوا طابعها التبعيّ الكومبرادوريّ؛ عن طريق إلهاء الناس بتغييرات شكليَّة تافهة لا تتعدَّى تغيير أسماء الحكّام ومنح السياسات الرسميَّة المتَّبعة مسمَّيات إسلاميَّة زائفة!

على أيَّة حال، مبادرة دائرة الإفتاء الخيِّرة، هذه، فتحت شهيَّة كاتب هذه السطور لمعرفة رأي دائرة الأرصاد الجويَّة، أيضاً، ورأي دائرة المواصفات والمقاييس، ودائرة العطاءات واللوازم، ومؤسَّسة التطوير الحضريّ، ومؤسَّسة الإقراض الزراعيّ.. الخ.

وإذا ما أدلتْ هذه الهيئات الموقَّرة برأيها بشأن إضراب المعلِّمين، فيمكن أنْ يغيَّر رأيه، كما يمكن أنْ يفعل كثيرون مثله.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال