جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣

ماركس وأنجلز: الكلدانيون قد يكونون «بني خالد»

قرأتُ في كتاب «إرم ذات العماد.. مِنْ مكَّة إلى أورشليم: البحث عن الجنَّة»، مِنْ تأليف صديقي الأديب والمفكِّر العراقيّ المعروف الأستاذ فاضل الرُّبيعيّ، الملاحظة التَّالية:

«لكن الصَّديق تركي علي الربيعو وهو باحث طليعيّ شابّ في حقل الميثولوجيا، لفت انتباهي إلى رأي مثير لماركس (رسائل إلى أنجلز) يرجِّح فيه احتمال أنَّ كلمة (كلدانيين) قد قُرِئتْ بشكلٍ مغلوط من المستشرقين فهم برأيه [بني خالد] (الخالديون)».

(ص 220 و221. والأقواس الموجودة داخل النصّ مِنْ وضع الربيعيّ وليست مِنْ وضعي)

دفعني هذا إلى البحث، في مكتبتي الخاصَّة، عن رسائل ماركس وأنجلز، فوجدت في رسالة أرسلها أنجلز إلى ماركس في تاريخ 26 أيَّار 1853، شيئاً له صلة بهذا الموضوع المحدَّد وأشياء أخرى تتجاوزه.. لكن من المفيد الاطِّلاع عليها جميعاً. وقد اقتطفتُ منها ما يلي:

«... أمس قرأتُ كتاباً عن الكتابات العربيَّة سبق وحدَّثتك عنه. والكتاب لا يخلو من المتعة والفائدة رغم أنَّه من الكريه أنْ يطلّ الكاهن ومدَّاح التَّوراة في كلّ سطر من أسطره. ويعتبر المؤلِّف أنَّه أحرز أعظم انتصاراته لكونه أفلح واكتشف عند غيبون بضعة أخطاء في الجغرافية القديمة؛ ومِنْ هنا يستخلص استنتاجاً مفاده أنَّ علم اللاهوت عند غيبون لا يصلح البتّة هو أيضاً. اسم الكتاب "الجغرافية التَّاريخيَّة للجزيرة العربيَّة، مِنْ وضع الكاهن تشارلز فوستر". وأطرف الاستنتاجات عنه هي التَّالية:

1- أنَّ سلسلة النَّسب الواردة في سفر التَّكوين، على أنَّها سلسلة نوح وإبراهيم، والخ.، هي تعداد دقيق نسبيّاً للقبائل البدويَّة في ذلك الزَّمن وفقاً لدرجة قرابة لهجاتها والخ.. وحتَّى الآن، تسمِّي القبائل البدويَّة نفسها، كما هو معروف، بني صالد، بني يوسف، والخ، . أي أبناء هذا وذاك. إنَّ هذه التَّسميات، المدينة بأصلها لأسلوب العيش البطريركيّ القديم، تؤدِّي في آخر المطاف إلى هذا الضَّرب مِنْ سلاسل النَّسب. إنَّ تعداد الأجيال في سفر التكوين يؤكِّد الجغرافيون القدماء صحَّته إلى هذا الحدّ أو ذاك، في حين أنَّ الرَّحّالة الحديثين يشهدون على أنَّ هذه الأسماء القديمة، رغم تغيّرها وفقاً للّهجات المحليَّة، لا تزال قائمة الآن أيضاً بمعظمها. ومِنْ هنا ينجم أنَّ اليهود أنفسهم هم كذلك قبيلة بدويَّة صغيرة مثل جميع القبائل الأخرى، ولكنّهم تصادموا مع البدو الآخرين بحكم الظّروف المحليَّة، والزِّراعة، والخ..».

(ماركس أنجلزرسائل مختارة – ص 65 و66. والكتاب صادر عن دار التَّقدّم السوفييتيَّة عام 1982 ومِنْ ترجمة الياس شاهين)

ويتابع أنجلز تعداد استنتاجاته «الطَّريفة» – كما وصفها – عن كتاب الكاهن تشارلز فوستر، فيقول:

«2- بصدد الفتح العربيّ العظيم الذي تحدَّثنا عنه مِنْ قبل، يتَّضح أنَّ البدو، شأنهم شأن المغول، كانوا يقومون دوريّاً بالغزوات، وأنَّ المملكة الأشوريَّة والمملكة البابليَّة قد أسَّستهما القبائل البدويَّة في نفس المكان الذي ظهرتْ فيه خلافة بغداد في ما بعد. إنَّ مؤسِّسي المملكة البابليَّة، الكلدان، لا يزالون الآن أيضاً يعيشون في المحلَّة ذاتها بالاسم ذاته – بني كلد. (...)».

(المصدر السابق «رسالة أنجلز إلى ماركس» – ص 66)

ولا يمكن للمرء أن يتكهّن كيف كُتِبَتْ «بني كلد» بالألمانيّة الَّتي كتب بها أنجلز تلك الرِّسالة، ولا كيف أصبحت بعد ترجمتها إلى الرّوسيّة فوصلت إلى العربيّة هكذا. لكن من الواضح قُرب «بني كلد» مِنْ «بني خالد».

استنتاج أنجلز التالي (رقم 3) ليست له صلة مباشرة بموضوعنا المحدَّد، لكنَّني أُثبِّته هنا لما يحتويه مِنْ رؤية مهمّة (وموضوعيَّة) لنمط عيش العرب القدماء:

«3- حيث كان العرب يعيشون عيشة حضريَّة، أي في الجنوب الغربيّ، كانوا، على ما يبدو، شعباً متمدّناً مثل المصريين والأشوريين، والخ.؛ وهذا ما تثبته انشاءاتهم المعماريَّة. وهذا ما يفسِّر الكثير في الفتح الإسلاميّ».

(المصدر السابق «رسالة أنجلز إلى ماركس» – ص 66)

وفي حين اعتاد كثير من الباحثين والمفكِّرين (العرب والأجانب) الحديث عن أثر التَّوراة ومجموعة المعتقدات والمدوّنات اليهوديَّة في الثَّقافة العربيّة (والإسلاميَّة)؛ أي كما لو كان التَّأثير باتِّجاه واحد، نجد أنجلز، في رسالته الَّتي نحن بصددها، يتحدَّث، على العكس مِنْ ذلك، عن أثر التَّقاليد العربيَّة القديمة على اليهود وتوراتهم، فيقول:

«ومن الواضح لي الآن تماماً أنَّ الكتاب اليهوديّ المسمَّى بالكتاب المقدَّس لا يعدو أنْ يكون تسجيلاً للتَّقاليد الدِّينيَّة والقبليَّة العربيَّة القديمة الَّتي تغيَّرتْ بفضل انفصال اليهود باكراً عن جيرانهم – أي عن القبائل القريبة النَّسب منهم، ولكن الَّتي بقيتْ مِنْ قبائل الرُّحَّل».

(المصدر السَّابق «رسالة أنجلز إلى ماركس» – صم 66)

ويتابع أنجلز شرح فكرته السَّابقة، قائلاً:

«ولكن الكتابات والتَّقاليد العربيَّة القديمة والقرآن، وكذلك السُّهولة الَّتي تتَّضح بها جميع سلاسل النَّسب، والخ. - كلّ هذا يبرهن أنَّ المضمون الأساسيّ كان عربيّاً أو، بالأصحّ، ساميّاً عامّاً، مثلما هو عندنا حال "ايدا" والملحمة البطوليَّة الجرمانيَّة».

(المصدر السَّابق «رسالة أنجلز إلى ماركس» – ص 66 و67)

على أيَّة حال، رسائل ماركس وأنجلز كثيرة جدّاً؛ إذ يبلغ عددها حوالي أربعة آلاف رسالة. ومع الأسف، فإنَّه لا يوجد لديَّ منها سوى قدر ضئيل. لذلك، قد تكون ملاحظة ماركس بالنَّص الَّذي أورده صديقنا الأستاذ فاضل الرُّبيعيّ في كتابه، موجودة في واحدة مِنْ تلك الرَّسائل الكثيرة الأخرى الَّتي لا تتوفّر في مكتبتي. لكن ثمَّة في ثنايا رسالة أنجلز الَّتي نشرتُ مقتطفاتٍ منها هنا ما يدعم رواية الرُّبيعيّ ويُضيف إليها.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال