جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣


ذكَّرني شقيقي سليمان بأغنية شادية الجميلة، التي تعبِّر عن كبرياء مصر وشموخِها، وتلخّص روحَها العظيمة وتحضُّرَها، بكلماتٍ قليلة وبسيطة:

"أصله ما عدَّاش على مصر

ما شافش
الرجال
السمر الشداد
فوق كل المحن

ولا شاف العناد
في عيون الولاد
وِتَحَدّي الزمن

ولا شاف إصرار
في عيون البشر

بيقول أحرار

ولازم ننتصر

أصله ما عدَّاش على مصر".

و"ما عدَّاش"، هذه، لا تعني مَنْ لم يمرّ بمصر بالمعنى الحرفيّ، فقط؛ بل، أيضاً، مَنْ مرَّ بها، ومَنْ عاش فيها، أو حتَّى وُلِدَ على أرضها وترعرع في ربوعها ونما وكبر وتقدَّم به العمر هناك؛ لكنَّه فعل ذلك كما لو كانت مصر أيَّ مكانٍ آخر (أحد بلدان الخليج، مثلاً)؛ أي أنَّه عاش فيها مغترباً عن هويَّتها وروحها وثقافتها ووجدانها وطموحاتها وأحلامها.

وأتذكَّرُ، هنا، طالباً جاء مِنْ إحدى القرى، إلى الجامعة الأردنيَّة، ليدرس فيها، في أواسط سبعينيَّات القرن الماضي؛ لكنَّه أمضى سنواته الدراسيَّة الأربع، إمَّا في قاعات الدرس أو متوسِّداً كتبه ونائماً على المسطَّح الأخضر الذي كان يقع بين مطعم الجامعة وبين مكتبتها. وخلال تلك السنوات، لم يقترب مِنْ أيّ طالب أو طالبة مِنْ زملائه في الجامعة، ولم يعرف كيف يفكِّرون ولا ما هي همومهم ومشاعرهم وأحلامهم. ولقد مرَّتْ بالجامعة وطلبتها، في تلك الفترة، أحداثٌ كبيرة وخطيرة، تفاعلتْ مع بعضها أوساطٌ اجتماعيَّةٌ وسياسيَّةٌ واسعة، في البلاد وخارجها؛ لكنَّ أيّاً منها لم ينجح في إقناع ذلك الطالب بتغيير نمط تفاعله السلبيّ، ذاك، مع الحياة الجامعيَّة. وقد تخرَّج، في النهاية، في الجامعة، مثل أيّ طالبٍ آخر، وربّما أحرز نتائج دراسيَّة أفضل مِنْ غيره.. لكنَّه لا يستطيع أنْ يزعم إنَّه عاش الحياة الجامعيَّة وفهمها وتشرَّب معانيها وتعلَّم منها.

على أيَّة حال، لننسَ ذلك الطالب، الآن، ولنعد إلى الحديث عن مصر. فطوال السنتين الماضيتين، كنتُ أتساءل بقلق: أمعقول أنَّ مصر، بثقافتها الأصيلة، وتاريخها الغنيّ، وحضارتها التي تمتدّ آلاف السنين، يمكن أنْ تنغلق، وتطفئ أنوارها، وتتنكَّر لهويَّتها، وتدير ظهرها لزمانها، وتتخلَّى عن روحها، وتنبذ تحضّرها، وتردم عمقها الثقافيّ، نتيجة حادثٍ طارئٍ يشبه "حادثة النصف متر" في رواية صبري موسى الشهيرة؟ وكنتُ، في أثناء ذلك، اتذكَّر الكثير من الأسماء الكبيرة التي مثَّلت دور الريادة في كلّ شيء في العالم العربيّ: أم كلثوم، نجيب محفوظ، رياض السنباطيّ، محمّد القصبجي، سمير أمين، محمّد عبده، عبد الله النديم، سيِّد درويش، عبد الحليم حافظ، محمَّد حسنين هيكل، يوسف إدريس، نجيب سرور، أمل دنقل، صلاح عبد الصبور، أحمد عبد المعطي حجازي، بليغ حمدي، شادية، شكري سرحان، محمود المليجيّ، يوسف شاهين، يوسف صدّيق، خالد محيي الدين، شهدي عطيَّة الشافعيّ، عبد المنعم رياض، سعد الدين الشاذليّ، نجاة الصغيرة، محمّد الموجيّ، كمال الطويل، الشيخ إمام، الشيخ زكريّا أحمد، سعد زغلول، طه حسين، الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، الشيخ محمّد رفعت، الشيخ محمود الحصريّ، أحمد شوقي، ليلى مراد، أسمهان، بديع خيريّ، بيرم التونسيّ، فؤاد حدَّاد، أحمد فؤاد نجم.. الخ.

وأعتذرُ؛ لأنَّ المجال لا يتَّسع هنا لسرد كلّ الأسماء التي تستحقّ أنْ تُسرَد، أو لأنَّ الذاكرة لم تسعفني لتذكّر بعضها. وقبل هؤلاء جميعاً وبعدهم، القائد العربيّ (وليس المصريّ فقط) العظيم جمال عبد الناصر، الذي كان قدوةً ورمزاً للأحرار المكافحين ضدّ الإمبرياليَّة والاستعمار والرجعيَّة ومِنْ أجل العدالة الاجتماعيَّة، في أماكن كثيرة من العالم.. بغضِّ النظر عن القوميَّات والأديان التي ينتسبون إليها أو ينبثقون منها.

هذه هي مصر الحقيقيّة العظيمة التي صنعتْ توقنا إلى الحريَّة والنهوض والتحرّر والتقدّم، في مختلف أركان الوطن العربيّ، وشكَّلتْ وجداننا الجمعيّ وثقافتنا القوميَّة، وأنارت عقولنا وفتَّحتها، في مواجهة الانغلاق والتصحّر والجدب الثقافيّ والتخلّف الفكريّ والاجتماعيّ والانقسام المذهبيّ والطائفيّ.. التي يريد لها الأميركيون وأتباعهم أنْ تتسيَّد في مصر وتحجب وجهها البهيّ بعتمتها؛ كي تستتبّ لهم الأمور في المنطقة وما حولها أطول أمدٍ ممكن.
ولاشاف إصرار
في عيون البشر
بيقول أحرار
ولازم ننتصر

أصله معداش على مصرولا
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال