جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣

تلحّ عليَّ هذه الأيَّام كثيراً قصَّة الأديب الأردنيّ الراحل تيسير سبول "هنود حمر". الشخصيَّة الرئيسة في هذه القصَّة تمثّل شابّاً أردنيّاً قرويّاً يدرس في إحدى جامعات بيروت في خمسينيَّات القرن الماضي. يأتي والده الملّاك الزراعيّ الكبير لزيارته والاطمئنان عليه وعلى دراسته. فيأخذ الشابّ والده إلى إحدى دور العرض السينمائيَّة ليشاهدا فيها معاً فيلماً أميركيّاً مِنْ نمط أفلام الكاوبوي، يدور حول الصراع بين المستوطنين البيض الأوائل للأرض الجديدة وبين أصحاب الأرض الأصليين الذين أطلق عليهم المستوطنون اسم الهنود الحمر.

وكما هي العادة في معظم هذه الأفلام، يصوِّر الفيلم الهنود الحمر بأنَّهم متوحّشون، أفظاظ، وشرّيرون؛ ويصوِّر المستوطنين بأنَّهم أخيار، متحضِّرون، وشجعان، وأصحاب نخوة، وشهامة.

يتعامل الشيخ القرويّ مع الخطاب العنصريّ المضمر للفيلم الأميركيّ بعقلٍ مُستَلبٍ، فيعبّر بانفعال صاخب ووضوح عن تعاطفه مع بطل الفيلم الأبيض كلّما هجم على الهنود الحمر الهمج وقاتلهم بشراسة وتغلّب عليهم؛ وخصوصاً وهو يخلِّص منهم امرأة بيضاء مِنْ قومه اختطفها أولئك الأشرار وأوثقوها بالحبال ووضعوا قِدراً على النار لطبخها فيه؛ وعندما يظهر الهنود الحمر في بعض المشاهد، يعبّر الشيخ القرويّ بصوتٍ عالٍ أيضاً ووضوح عن امتعاضه منهم وعدائه لهم.

لم يكن ذلك الشيخ يدرك أنَّه، هو وابنه، والناس الجالسون معهم في السينما البيروتيَّة، والآخرون الذين تركهم وراءه في القريَّة الأردنيَّة، إنّما هم جميعاً هنود حمر، أيضاً، وأنَّ صورتهم لدى الرجل الأبيض، نفسه، لا تختلف في الجوهر عن صورة "الهنود الحمر" الأصليين في أفلامه.

لقد انتحر تيسير سبول في خريف العام 1973 عندما رأى خيبات الهنود الحمر مِنْ بني جلدته تتالى وحلم الدولة العربيَّة القويَّة الواحدة الذي كان يملأ عقله وقلبه ينأى. وكلّ هذا بينما لا يزال الرجل الأبيض، يصنع أفلاماً كثيرة عن مستوطنين بيض متحضّرين وخيِّرين، وهنود حمر (وسود وسمر وصفر، أيضاً) متوحِّشين وشرّيرين؛ ولا نزال نصفِّق له، ونؤازره، بينما هو يقاتلهم ويقتلهم.. حتَّى عندما تكون ملامحهم هي ملامحنا نحن بالتحديد.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال