جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣

ماريو فارغاس يصارع شبح غيفارا قبل أشهر قليلة كان الأديب البيروفيّ ماريو فارغاس يوسا في عمَّان، ونظَّم له المركز الثقافيّ الاسبانيّ لقاءً عامّاً هنا، وقد ذهبت مع بعض الأصدقاء من الأدباء لحضور هذا اللقاء مدفوعين بما كنَّا سمعناه مِنْ أنَّ فارغاس قد عدَّل موقفه السابق الداعم لإسرائيل، بعد زيارته مؤخَّراً للضفَّة الغربيَّة، وأصبح بدلاً مِنْ ذلك مؤيِّداً للحقوق العربيَّة. بيد أنَّ ما سمعناه منه في ذلك اللقاء كان مخيِّباً تماماً؛ ففي إجابة له على بعض المداخلات والاستفسارات مِنْ بعض الحضور أدان فارغاس ما أسماه العنف الفلسطينيّ على قدم المساواة مع العنف الإسرائيليّ، مِنْ دون أنْ يخطر له أنْ يفرِّق ما بين عنف الضحيَّة المضطرَّة للدفاع عن نفسها وعن حقوقها وعن مصالحها وعن وجودها وبين عنف المعتدي الذي يختار اللجوء لهذا الأسلوب الهمجيّ ليعبِّر عن جشعه وطمعه وغطرسته وحبّه للسيطرة والتوسّع على حساب الآخرين. وفي السياق نفسه قال فارغاس بلهجة جازمة قاطعة بأنَّ أسوأ الديمقراطيَّات (وكان يقصد كما هو واضح "الديمقراطيَّات" التي أقامها الأميركيّون بقوَّة الاحتلال العسكريّ وفي ظلاله) هي أفضل مِنْ أفضل الأنظمة الشموليَّة (وكان واضحاً أنَّه يقصد تحديداً الأنظمة المعادية للولايات المتَّحدة). ما يشير إلى أنَّه يدعم بدون تحفّظ مساعي الأميركيّين لتقويض الأنظمة المخالفة لهم بالقوَّة وإقامة أنظمة بديلة لها.. تابعة لهم. وفي السياق نفسه أيضاً شنَّ فارغاس هجوماً حادّاً على كاسترو وغيفارا وثورتهما.

وفارغاس الذي أمضى القسم الأكبر مِنْ حياته في أوروبَّا الغربيَّة يكاد يكون شاذّاً في توجّهاته هذه مِنْ بين أدباء أميركا اللاتينيَّة. وهو على أيَّة حال، بدأ حياته الأدبيَّة والسياسيَّة، مثل معظمهم، بالميل إلى اليسار وبالتعبير عن إعجابه بكاسترو وغيفارا وثورتهما، ولكنَّه ما لبث أن انقلب على ميوله وتوجّهاته تلك وانحاز تماماً إلى معسكر اليمين، وصار منذ ذاك يشنُّ هجوماً متواصلاً على فيدل كاسترو ونظام حكمه، ويعبِّر بصورة ثابتة ودائمة عن تأييده للولايات المتَّحدة ودعمه لسياساتها. وعلى سبيل المثال، فهو دبَّج الكثير من المقالات الداعمة لحرب الولايات المتَّحدة على العراق وقد بلغ مِنْ حماسه لها حدَّ أنَّه سافر مع ابنته المصوِّرة مورغانا إلى مسرح العمليَّات الحربيَّة وأنجزا معاً عملاً مشتركاً بعنوان "يوميَّات العراق". بل أكثر مِنْ ذلك؛ عندما قرَّر رئيس الوزراء الإسبانيّ ثاباتيرو، بعد انتخابه بقليل، سحب القوَّات الإسبانيَّة من العراق وإعادتها إلى بلادها، هاجم فارغاس ذلك القرار بشدَّة ورأى فيه انتصاراً للإرهابيّين! رغم أنَّه (القرار) جاء وفاءً لوعود ثاباتيرو الانتخابيَّة واستجابةً لمطالبة غالبيَّة الشعب الإسبانيّ. وهذا يبيِّن الجوهر الحقيقيّ لادِّعاءات فارغاس الديمقراطيَّة (وتلك المضادَّة للعنف) معاً؛ فهو، مِنْ جهة، لم يُقم وزناً لرأي غالبيَّة الشعب الإسبانيّ؛ لا عندما دعم موقف رئيس الوزراء الإسبانيّ السابق اليمينيّ أزنار الذي كان متحمِّساً لحرب الأميركيَّين على العراق إلى حدّ مساهمته فيها ببعض القوَّات الإسبانيَّة رغم معارضة غالبيَّة شعبه لها؛ ولا عندما عارض قرار ثاباتيرو سحب تلك القوَّات رغم أنَّه مدعوم بإرادة غالبيَّة شعبه المطالبة بالانسحاب من العراق. ومِنْ جهة أخرى، فأنا لا أفهم كيف يقدِّم فارغاس نفسه بوصفه معارضاً مبدئياً للعنف عندما يكون الأمر متعلِّقاً بالحركات الثوريَّة المعادية للأميركيّين، فيما هو يتحمَّس، كلّ ذلك الحماس الذي بينَّاه، للعنف الهائل الذي لا يقارن به سواه الذي مثَّلته الحرب الأميركيَّة على العراق. وهنا لا أملك إلا أنْ أطرح بقوة موضوع النزاهة الفكريَّة التي كثيراً ما تغيب لدى البعض بسبب الأساليب الملتوية التي يستعملها لمواجهة أفكار خصومه ومخالفيه.

وعام 2003 تخلَّص فارغاس مِنْ آخر رواسب علاقته السابقة باليسار؛ عندما أجهز على ما تبقَّى مِنْ صداقته القديمة بالكاتب الكولمبيّ اليساريّ الشهير غابرييل غارسيا ماركيز؛ ففي أثناء مشاركته في معرض بوغوتا للكتاب شنَّ هجوماً مفاجئاً على ماركيز بحجَّة صداقة هذا الأخير لكاسترو وتأييده له؛ مع أنَّ هذه الصداقة وهذا التأييد قديمان جدّاً ومعروفان على نطاق واسع في الحركة الثقافيَّة العالميَّة. وقد اُضطرَّ فارغاس، بعد تصريحه هذا، إلى الخروج من المكان الذي أدلى به فيه، من أحد الأبواب الخلفيَّة خوفاً من الجمهور الغاضب الذي أحاط بالمكان بعدما استفزَّه الهجوم الحادّ على ماركيز وكاسترو.

على أيَّة حال، من الواضح أنَّ مقالة فارغاس ضدّ غيفارا تأتي في سياق الخيارات السياسيَّة اليمينيَّة لصاحبها التي سبق وأشرنا إليها في هذا المقال. وهو في توجّهه هذا يعبِّر عن مصالح وتوجّهات بعض القوى السياسيَة والطبقيَّة في أميركا اللاتينيَّة التي تراجعتْ سطوتها وتراجع دورها في السنوات الأخيرة وتقلَّصتْ مساحة نفوذها بوضوح لتُخْلي الطريق أمام خصومها السياسيّين والطبقيّين القدماء الذين بالمناسبة يرفع معظمهم راية آرنستو تشي غيفارا وخاض بعضهم الكفاح المسلَّح على طريقته لسنوات طويلة، وإنْ كانوا جميعاً قد جاءوا إلى السلطة هذه المرَّة عن طريق صناديق الاقتراع وليس عبر الثورة المسلَّحة. ولذلك فقد كان من الطبيعيّ أنْ يحاول فارغاس والتيَّار السياسيّ والطبقيّ الذي يمثِّله أنْ يصفِّي حسابه مباشرة وبأثر رجعيّ مع غيفارا بعدما أصبح شبح غيفارا يخيِّم على أميركا اللاتينيَّة والعالم. وهذا ما تفعله الولايات المتَّحدة أيضاً عبر الكثير من الأفلام التي تنتجها هوليوود وعبر الكثير مِنْ مواد الإعلام والدعاية التي تهدف لتقديم صورة سلبيَّة لغيفارا.

وفيما يبدو فهذه الحرب ضدّ غيفارا (وما يمثِّله) هي قضيَّة أساسيَّة بالنسبة لفارغاس؛ يؤكِّد ذلك ما يبدو في مقاله من اهتمام واضح بجمع المواد والشهادات التي يعتقد أنَّها قد تدين غيفارا، مع أنَّ قسماً مِنْ هذه الشهادات يستند إلى أقوال أشخاص نكرات ادَّعوا أنَّهم كانوا شهود عيان على بعض ممارسات غيفارا، وقسماً آخر منها يستند إلى أقوال أشخاص انقلبوا على ماضيهم الثوريّ وأصبحوا في الصف المعادي للثورة ولهم مصلحة مؤكَّدة في الإساءة إليها وإلى تاريخها وتاريخ قادتها ورموزها. أمَّا النصوص التي استعملها في "ملف الإدانة"، هذا، فهي بعض الأقوال المنسوبة إلى غيفارا، وهي مع ذلك لم تكن كافية للنطق بالإدانة مِنْ تلقاء نفسها، ولذلك فقد عمل على تنطيقها بما لم تقله فعلاً. وبالمجمل، فقد عبَّر المقال عن موقف عدائيّ انفعاليّ واضح؛ ويكفي أنْ نشير هنا إلى العنوان الرئيس للمقال؛ "غيفارا أسطورة أكثر ومصداقيَّة أقلّ كلّ يوم"، ثمَّ إلى العديد من الأوصاف السلبيَّة التي اختار بعضها ليكون عناوين فرعيَّة لمقاله: "ماكينة قتل عنيفة وباردة وانتقائيَّة"، و"مهووس بحبّ السيطرة"، و"مصاب بجنون العظمة كان يطمع فقط في السلطة".. الخ! (مع أنَّه مشهور عن غيفارا أنَّه ترك أهمّ المناصب التي كان يتبوؤها في الدولة الكوبيَّة، وترك عائلته، ليقاتل في الكونغو ثمَّ في بوليفيا ويدفع حياته هناك ثمناً لمبادئه).

وفي بداية مقاله يبدو فارغاس كما لو أنَّه يحمِّل غيفارا مسؤوليَّة الاستثمار الواسع لاسمه وصورته في السنوات الأخيرة مِنْ قبل شركات ومؤسَّسات رأسماليَّة هدفها الربح فقط. ثمَّ هو بعد ذلك يعيد ما يسمِّيه "إعادة إحياء غيفارا" إلى سببين سطحيّين وغير مقنعين، في رأيي، هما:

1.      فيلم "يوميَّات درَّاجة ناريَّة" الذي أنتجه الممثل والمنتج الأميركيّ المعروف روبرت ريد فورد، وهو مأخوذ عن مذكِّرات غيفارا الخاصَّة برحلته وهو شاب عبر أميركا اللاتينيَّة عام 1952؛

2.      اكتشاف مكان دفن غيفارا في بوليفيا عام 1997، في الذكرى الثلاثين لوفاته، ومِنْ ثمَّ نقل رفاته مِنْ هناك إلى كوبا وإعادة دفنه فيها.

ولكن هذا كلّه برأيي ما كان يمكن أنْ يعيد "إحياء غيفارا"، لولا أنَّ هناك أسباباً أعمق وأكثر تأثيراً ساهمتْ في ذلك؛ فالفيلم الذي أنتجه ريد فورد عن مذكِّرات غيفارا لم يجرِ عرضه على نطاق واسع في العالم، بل إنَّه في كثير من البلدان لم يجرِ عرضه على الإطلاق. كما أنَّ ظاهرة رفع صور غيفارا في المظاهرات والتجمّعات كانت قد سبقتْ تاريخ إنتاج هذا الفيلم بسنوات، وخصوصاً في الفعاليَّات المختلفة لجماعات مناهضة العولمة الرأسماليَّة. أمَّا اكتشاف مكان دفن غيفارا ونقل رفاته إلى كوبا، فقد اكتسب أهميَّته كحدث مِنْ أهميَّة شخص غيفارا نفسه وليس العكس. ولطالما سمعنا مِنْ قبل ومِنْ بعد عن نقل رفات أشخاص (وبعضهم مشهور ومهم) بعد سنوات أطول بكثير، مِنْ دولة إلى أخرى، إلا أنَّ هذا لم يشكِّل للرأي العام الدوليّ أكثر مِنْ خبر طريف وربَّما مؤثِّر، ولكن ليس إلى حدّ أنَّ تأثيره يدوم أكثر مِنْ عقد بعد ذلك ويتزايد بصورة مضطردة مع الأيَّام والسنوات بدل أنْ يتراجع.

أعتقد أنَّ ما لا يريد السيِّد فارغاس أنْ يراه هو أنَّ السبب الحقيقيّ لـ"إعادة إحياء" غيفارا هو قلق الناس وانزعاجهم وخوفهم مِنْ هجوم الأمركة الذي تبع انهيار الاتِّحاد السوفييتيّ. فإذا كانت أميركا اللاتينيَّة تُعتَبَر منذ أمدٍ طويل الفناء الخلفيّ للولايات المتَّحدة، فقد أصبح العالم كلّه مهدداً بأنْ يصبح كذلك ابتداء من العام 1991. وبالتالي، فقد كان من الطبيعيّ أنْ يلجأ الناس في مختلف أنحاء العالم في سياق مواجهتهم لهذا الطغيان الكاسح إلى استخدام أكبر وأوضح رمز لرفض الهيمنة الأميركيَّة.. غيفارا الثائر الأمميّ الذي أخذ على عاتقه محاربة هذه الهيمنة، قبل ذلك بعقود، وخاض في سبيل ذلك معارك كفاحيَّة باسلة في أميركا اللاتينيَّة وفي أفريقيا، ودفع حياته في النهاية ثمناً لموقفه ذاك. وإنَّ الرسالة التي يريد أنْ يوصلها هؤلاء الذين أصبحوا يرفعون صورة غيفارا في مختلف أنحاء العالم هي أنَّهم يرفضون الهيمنة والغطرسة الإمبرياليَّة وأنَّهم يجتمعون على موقف أمميٍّ موحَّد مِنْ موضوع الحريَّة والاستقلال والعدالة الاجتماعيَّة وفي رفض الرأسماليَّة المتوحِّشة وممثِّليها من المحافظين الجدد والليبراليّين الجدد.. الخ. أمَّا لماذا تستخدم الشركات الرأسماليَّة صورة غيفارا ورموزه لترويج بضائعها، فهذا بسبب أنَّ هذه الصورة وهذه الرموز أصبحتْ بالفعل شديدة الرواج والجاذبيَّة في مختلف أنحاء العالم. والشركات الرأسماليَّة ديدنها هو الربح، ولذلك فهي مستعدَّة لاستغلال أيّ شيء يحقِّق لها الربح. وفارغاس نفسه أكَّد هذا الأمر (مِنْ دون أنْ يقصد الدلالات التي أشرنا إليها) عندما أورد، في مقاله الذي نحن بصدده، رأي أحد أصحاب تلك الشركات فيما يتعلَّق بهذا الموضوع؛ حيث قال مالك شركة "بوتيك فلامنجو" التابعة لـ"يونيون سيتي" في نيوجيرسي، مبرِّراً استغلال شركته لغيفارا كماركة لمنتجاتها: "أبيع أيَّ شيء يرغب الناس في شرائه".

بيد أنَّ فارغاس يستغرب، مع ذلك، هذه الجاذبيَّة الواسعة والمتصاعدة لغيفارا؛ وذلك لأنَّ الصورة التي أعاد رسْمها له في ذهنه (بعدما انقلب على إعجابه السابق به)، والتي يحاول مِنْ ثمَّ أنْ يروِّجها على نطاق واسع، لا تدعو للجاذبيَّة أبداً؛ فهو وفق تلك الصورة "ماكينة قتل"! أي أنَّ القتل بالنسبة له وظيفة ميكانيكيَّة وليس مرتبطاً بأيَّة قضيَّة أو هدف؛ وبطبيعة الحال، فالماكينة أيضاً لا يمكن أنْ تميِّز عند ممارستها للقتل بين الأشخاص الذين تقتلهم. إنَّه يتجاهل (فارغاس) هنا التمييز بين القاتل وبين المقاتل. بين القاتل لسببٍ شخصيّ أو لقاء أجرٍ يدفعه طرف ثالث، وبين المقاتل مِنْ أجل مبادئ معيَّنة أو حقوق مصادرة أو ضدّ أيّ شكلٍ مِنْ أشكال العدوان والقهر. وفارغاس لا يعجبه هذا التمييز بين هاتين الشخصيَّتين المختلفتين الذي يفعله الناس بتلقائيَّة (وعن وعي) في كلّ مكان. إنَّه يحاول بصورة غير منطقيَّة وغير مقنعة أنْ يمحو الفوارق بينهما ويجعلهما شخصيَّة واحدة.. وطبعاً هذا ليس في حالة غيفارا فقط وإنَّما أيضاً بالنسبة لحالات أخرى؛ حيث بعد "تطوّره الإيجابيّ" فيما يتعلَّق بالقضيَّة الفلسطينيَّة تنازل فأصبح ينظر إلى القاتل الإسرائيليّ والمقاتل الفلسطينيّ على قدم المساواة، بينما كان قبل ذلك يتفهَّم القاتل الإسرائيليّ ويقدِّره ويتعاطف معه ويدعمه، وينكر على المقاتل الفلسطينيّ (وغيفارا بالطبع) الحقَّ في القتال دفاعاً عن الحقوق والقيم والمبادئ الإنسانيَّة وعن الذات والوجود والشرط الإنسانيّ.

ويتجاهل فارغاس تماماً الظروف التي نشأتْ فيها ظاهرة غيفارا؛ فأميركا اللاتينيَّة بمجملها كانت خلال العقود الماضية قد اضطرَّتْ للقتال في مواجهة القهر والاضطهاد والاستغلال والقتل المنفلتْ مِنْ كلّ الضوابط والحدود الذي كانت تمارسه ضدَّها جارتها الكبرى. وقد تدخَّلتْ الولايات المتَّحدة بقوَّتها العسكريَّة هناك مرَّاتٍ لا تُحصى، ونصَّبتْ العديد من الأنظمة الديكتاتوريَّة والعسكريَّة الموالية لها، ودبَّرتْ الانقلابات الدمويَّة ودعمتها، وكان مِنْ حصيلة ذلك، في كلّ بلد مِنْ بلدان أميركا اللاتينيَّة، عشرات الآلاف ممَّن عُذِّبوا بصورة بشعة أو فقدوا حياتهم أو غُيِّبوا تماماً ولم يُعرف مصيرهم على يد أجهزة جمهوريَّات الموز والنحاس والنفط والمخدِّرات التي كانت تعمل تحت إمرة وإشراف موظَّفين أميركيّين. وقد اُشتُهِرتْ في هذا المجال عمليَّة كونديرا السريَّة، التي عُرِفَتْ في السبعينيَّات والثمانينيَّات من القرن الماضي كعمليَّة منظَّمة وواسعة للخطف والتعذيب والقتل على مستوى أميركا اللاتينيَّة تشاركتْ فيها الأجهزة القمعيَّة للديكتاتوريَّات الحاكمة هناك، تحت الإشراف المباشر للسي. آي. أي. وبالتالي، فأمام مثل هذا العنف غير المحدود، وانتفاء أيَّة وسيلة سلميَّة للحوار والتغيير، ماذا تبقَّى أمام الجماهير المضطهدة لتعمله.. وبأيّ أسلوب كان يمكنها أنْ تتعامل مع قامعيها ومضطهديها وقاتليها الذي ثابروا على ذلك طوال عقود؟

وقد رِأينا في المقابل أنَّه عندما انشغلتْ الولايات المتَّحدة في "حربها المقدَّسة على الإرهاب" في أفغانستان وفي العراق وسواهما، تنفَّستْ أميركا اللاتينيَّة الصعداء وتمكَّنتْ أخيراً من البدء باختيار طريقها الذي تريد وتقرير مصيرها بصورة سلميَّة؛ حيث وصلتْ إلى السلطة هناك عدَّة حكومات يساريَّة عن طريق صندوق الاقتراع، وبدأتْ بإجراء عدد من التحوّلات الاجتماعيَّة والسياسيَّة الجذريَّة، وكان من اللافت أنَّ قادة هذه الحكومات الجديدة ومؤيِّديها يرفعون صور غيفارا ويحتفون بمثاله، وهم في ذلك ليسو متناقضين مع أنفسهم كما قد يبدو للسيِّد فارغاس، وإنَّما يعون تماماً الرابط العميق بين انتصاراتهم السلميَّة وإصلاحاتهم الجذريَّة وبين ما كان قد قام به غيفارا في الماضي مِنْ كفاح دفع حياته في سياقه.  

أعود فأؤكِّد هنا أنَّ السيِّد فارغاس لا يرى (ولا يريد أنْ يرى) سوى جانبٍ واحد مِنْ صورة العنف في أميركا اللاتينيَّة وفي العالم؛ وإنَّه في أحسن الأحوال، مثلما فعل بالنسبة للفلسطينيّين، لا يميِّز بين المُعتدِي وبين المُعتدَى عليه، وهذا إذا لم نقل أنَّه يميِّز أصلاً ضدّ المُعتدَى عليه.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال