جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣

سادت، ابتداءً مِنْ تسعينيَّات القرن الماضي، موجة من الليبراليَّة سُمِّيتْ بالليبراليَّة الجديدة. وكلمة الجديدة تشير، ضمناً، إلى استعادة اتِّجاه فكريّ قديم. وهو الاتِّجاه الليبراليّ الذي ارتبط بالرأسماليَّة المتوحِّشة عندما كانت في أوجها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.. حيث مارستْ الرأسماليَّة،آنذاك، استغلالها البشع للناس بلا ضوابط ولا حدود؛ الأمر الذي ولَّد في حينه الأفكار الاشتراكيَّة والاجتماعيَّة المضادَّة لها. ولذلك، فالليبراليَّة، ليستْ فكرة جديدة، وهي بخلاف ادِّعاءاتها فكرة محافظة ورجعيَّة؛ كما أنَّها، أيضاً، بخلاف استعارتها كلمة الحريَّة لوصف نفسها بها، معادية للحريَّة والديمقراطيَّة. الأمر الذي يجعل تسمية أنصارها في الولايات المتَّحدة بـ"المحافظين الجدد" هي الأدقّ.
وللحقيقة، فقد اتِّسمتْ الليبراليَّة دائماً بالمخاتلة والخداع؛ وذلك ابتداءً مِنْ تسميتها، نفسها، التي تدَّعي بها انتسابها إلى فكرة الحريَّة وخياراتها؛ في حين أنَّ الحريَّة التي ينشدها الليبراليَّون هي فقط حريَّة رأس المال الكبير في استغلال الناس والتسلّط عليهم بلا قيود ولا ضوابط؛ الأمر الذي يقتضي إخضاعهم، بنفوذ المال وقوَّة السلطة، لقوانين الاستغلال الرأسماليّ التي تخدم رأس المال الكبير؛ والقبول بهيمنته المطلقة واعتبارها قيمة عليا بمستوى قيمة الحريَّة نفسها؛ والاقتناع بأنَّ هذا النظام قدر لا رادّ له، ونمط حياتي سليم لا بديل عنه. 

ومِنْ مظاهر مخاتلة الليبراليين، أيضاً، خلطهم المتعمَّد ما بين مفهومي الليبراليَّة والديمقراطيَّة، والإيحاء بأنَّهما يعنيان الشيء نفسه؛ وكذلك ادِّعاؤهم بأنَّهم لا يزالون يحملون مشعل التنوير نفسه الذي حمله أسلافهم في مرحلة نهوض البورجوازيَّة وثورتها على الإقطاع؛ في حين أنَّ نصرتهم للتنوير الآن تقتصر على الكلام عنه فقط؛ وذلك لأنَّه لا يوجد لديهم، موضوعيَّاً، شيءٌ يقدِّمونه في هذا المجال؛ لأنَّ فكرة الليبراليَّة ذاتها أصبحتْ فكرة رجعيَّة تقوم على توهّم إمكانيَّة استعادة الفردوس القديم المفقود للرأسماليَّة المتوحِّشة الذي كان سائداً قبل ظهور الحركات العمّاليَّة وقبل الأفكار الاشتراكيَّة وقبل الأزمات الخطيرة المتوالية التي مرَّت (ولا تزال تمرّ) بها الرأسماليَّة. والليبراليَّة الآن حالة من الخواء الفكريّ والعداء للثقافة ولجميع القيم الروحيَّة والإنسانيَّة الرفيعة. أمَّا ادِّعاءات أنصارها، وخصوصاً المراكز الرأسماليَّة الدوليَّة التي تتبنَّاها، بشأن نصرة حقوق الإنسان والديمقراطيَّة، فلا يوجد ما يؤيّدها في الممارسة الحقيقيَّة؛ إذ أنَّ هؤلاء لا يدعمون، فعليّاً، سوى النماذج التي تحقِّق مصالحهم في الهيمنة واستغلال الشعوب والبلدان. بخلاف ذلك، فهم يقفون بلا تحفّظ ضدّ أيّ نموذج ديمقراطيّ حقيقيّ يقوم على الحريَّة والديمقراطيَّة والعدالة الاجتماعيَّة والتحرّر الوطنيّ معاً. إنَّ أبرز نماذج نصرة الحريَّة والديمقراطيَّة التي مارسها الغرب الرأسماليّ فعلاً خلال العقدين الأخيرين، والتي تحمَّس لها الليبراليّون العرب كثيراً، هي احتلال العراق، وأفغانستان، وهاييتي التي خلعوا رئيسها المنتخب بالقوَّة ونصَّبوا بدلاً منه رئيساً "ديمقراطيَّا" موالياً لهم. 

ويندرج في هذا الإطار، كذلك، دعمهم المتواصل لاستمرار الاحتلال الصهيونيّ للأراضي الفلسطينيَّة والعربيَّة الأخرى، وللقمع والقتل والتنكيل المنتظم الذي تمارسه قوَّات الاحتلال ضدَّ الشعب الفلسطينيّ. كما كانت صدقيَّة دعم هؤلاء للحريَّة والديمقراطيَّة على المحكّ عندما ثار شعبا مصر وتونس ضدَّ نظامي بلديهما المتسلّطين والمواليين للغرب الإمبرياليّ؛ فقد سكتوا على القمع والبطش إلى أنْ رأوا نظامي بن عليّ ومبارك يتهاويان، عندئذٍ بدأوا يخطبون ودَّ شعبي تونس ومصر على استحياء، ثمَّ شرعوا في إدارة سلسلة من التدابير الخفيَّة الهادفة لحرف ثورتي البلدين الشقيقين وسرقتها. وفي غير مكان عربيّ سكتوا على القمع والبطش، وحتَّى على مصادرة أبسط الحقوق الشخصيَّة، وليس السياسيَّة والعامَّة فقط، وسكتوا كذلك حتَّى على التدخّلات الخارجيَّة العسكريَّة لقمع مطالبة بعض الشعوب بالحريَّة والديمقراطيَّة، وواصلوا دعم ومساندة الحكومات القمعيَّة المرتبطة بهم في العلن والخفاء.
ما يهمّني، هنا، هو المثقّفون العرب، بالتحديد، الذين ارتبطوا بالليبراليَّة الجديدة وتحمَّسوا لها. قسم كبير مِنْ هؤلاء كانوا في الأصل يساريّين بالغي الحماس (في الظاهر) حتَّى أواخر ثمانينيَّات القرن الماضي، وقد تخلّوا عن أفكارهم السابقة، بعد انهيار الاتِّحاد السوفييتيّ، وانتظموا مباشرةً في صفوف المدافعين عن الرأسماليَّة المتوحِّشة باسم الحريَّة والديمقراطيَّة والتنوير؛ بل إنَّ بعضهم استمرَّ بادِّعاء انتسابه إلى اليسار على طريقة أنصار الليبراليَّة الجديدة في الاتِّحاد السوفييتيّ السابق، وفي روسيا الاتِّحاديَّة لاحقاً، الذين أطلقوا على أنفسهم تسمية اليسار زوراً وبهتاناً، بينما هم يدعون (ويعملون) لتحرير السوق وإطلاق قوى الرأسماليَّة المتوحِّشة، والمافيا، ولصوص الأعمال، ومختلف الفئات البورجوازيَّة الرثَّة. ولكي ندرك حجم المفارقة، يكفي أنْ نذكِّر بأنَّ يلتسين، الذي أصبح معروفاً الآن مَنْ هو وماذا كانت سياساته وإلى ماذا أدَّتْ، كان يُعدّ، آنذاك، رأس ذلك اليسار الدعيّ. وهذا أيضاً أحد المظاهر الصارخة لمخاتلة الليبراليَّة وخداعها.
ونعود إلى اليساريين العرب الذين أصبحوا ليبراليين. لقد كانوا، في معظمهم، مِنْ أوساط انتهازيَّة كانت تنضوي في صفوف حركة التحرّر العربيَّة عندما كانت صاعدة، فاستفادوا ببريقها ووهجها، وانتفعوا ببعض المكاسب المتَّصلة بعملها: السمعة الكفاحيَّة المحمودة، والسفرات، والمشاركة في المؤتمرات، والتمثيل "الدبلوماسيّ" لبعض الأحزاب والحركات، ورواج الأسماء والشهرة.. الخ؛ وعندما انهار الاتِّحاد السوفييتي وأنظمة أوروبّا الشرقيَّة السابقة، وخسرتْ حركة التحرّر العربيَّة والعالميَّة سنداً قويّاً كان يقف إلي جانبها بصلابة وثبات، وأصبحت الهيمنة الأميركيَّة وحيدة وشبه مطلقة، غيَّر أولئك المثقَّفون ولاءاتهم سريعاً، وبدَّلوا قناعاتهم وتوجَّهاتهم دفعةً واحدة. ولقد تبيَّن، عندئذٍ، أنَّهم لم يكونوا مناضلين ولا أصحاب مبادئ، وأنَّهم كانوا مجرَّد موظَّفين بأجر لدى حركة التحرّر العربيَّة، وكانوا يتعاملون معها كربّ عمل فقط؛ ولذلك، ما أنْ عجز ربّ عملهم، ذاك، عن الاستمرار في تشغيلهم لديه، حتَّى أداروا ظهورهم له، واتَّجهوا إلى ربّ العمل الآخر الذي ينافسه، وعرضوا عليه خدماتهم وما لديهم مِنْ مهارات ضروريَّة بالنسبة له. ولقد عملوا لدى ربّ العمل الجديد، كما كانوا يعملون لدى القديم، بالحماس نفسه، وبالأساليب نفسها، والحسم ذاته.. مؤكِّدين، في عملهم الجديد (كما كانوا في السابق) أنَّهم وحدهم مَنْ يمتلك الحقيقة وسواهم خاطئون بشكلٍ مطلق، وأنَّهم هم الخيِّرون وسواهم شياطين، وأنَّهم هم المدركون العارفون لحقيقة الأمور وسواهم جاهلون. وبالمجمل، حين تدقِّق في لغة خطابهم تجد أنَّها لم تتغيَّر، وإنْ تغيَّر مشغِّلوهم وتغيَّرتْ مضامين كلماتهم. وهو ما يذكِّر بكلام تروتسكي عن الرجال الذين يغيِّرون أفكارهم ويستمرّون مع ذلك في استخدام الكلمات نفسها للتعبير عنها.
"ولا يبقى في الوادي غير حجارِه"؛ كما قال الطاهر وطّار؛ لذلك لم يبق سوى مَنْ كانوا يأخذون قضيَّتهم ومبادئهم بجد ولم يكونوا موظَّفين لدى أحد. هؤلاء صمدوا أمام الموجة العاتية لليبراليَّة الجديدة التي سادتْ طوال العقدين الماضيين، وظلّوا ثابتين على نصرتهم للديمقراطيَّة والحريَّة بمعانيها الحقيقيَّة.. أي الديمقراطيَّة والحريَّة التي تسعى لتحرير الإنسان فعلاً، عبر تحقيق شرطه الإنسانيّ وإيجاد الأسس الماديَّة والروحيَّة التي تكفل امتلاكه لإرادته والتعبير عنها بصورة كاملة. ونبَّه الكثير مِنْ هؤلاء في وقتٍ مبكِّر إلى أنَّ سياسات الليبراليَّة الجديدة تسير في طريقٍ مسدود، وأنَّها سرعان ما تصطدم بمأزقها الذي لا مهرب منه ولا حلّ له. ومنذ العام 2008، ومع بداية ظهور الأزمة الرأسماليَّة العالميَّة، انكشف مأزق سياسات الليبراليَّة الجديدة وأفكارها بصورة جليَّة، وتراجع دورها وانتشارها. ولذلك فإنَّ بقايا الليبراليين الجدد، وهم يشهدون الآن مظاهر أفولهم المتزايدة، أصبحوا يتصرّفون بعصبيَّة واضحة، ويكثرون من استخدام لغة الاتِّهامات والشتائم، ويسعون إلى شيطنة خصومهم الفكريين والسياسيين، ووصل بهم الأمر أحياناً إلى تنصيب أنفسهم ناطقين مكرّسين باسم التاريخ، وراحوا يصدرون باسمه حكمهم القطعيّ على المخالفين لهم، ويؤلِّفون "القوائم السوداء" و"قوائم العار" وما شابه؛ بما يذكِّر بعقليَّة محاكم التفتيش سيِّئة الصيت. وكلّ ذلك طبعاً باسم نصرة الحريَّة والديمقراطيَّة.. وهم من الحريَّة والديمقراطيَّة براء، ولم يُعرف عنهم في يومٍ من الأيَّام أنَّهم عملوا مِنْ أجلهما.. ناهيكم عن الكفاح في سبيلهما وبَذْل التضحيات وتحمّل العذابات.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال