الْوَدَاعُ! حِينَ يُكْتَبُ بِالدَّمِ، لَا يَكُونُ طَقْسَاً عَاطِفِيَّاً، بَلْ شَهَادَةَ وُجُودٍ.. وَتَرَاتِيلُ الْوَدَاعِ، حِينَ تُهْمَسُ فِي الذِّكْرَى، لَا تَكُونُ رِثَاءً، بَلِ اسْتِحْضَاراً لِلصَّوْتِ الَّذِي لَمْ يُكْمِلْ صُرَاخَهُ.
فِي الذِّكْرَى التَّاسِعَةِ، لا نَسْتَحْضِرُ الْصَّوْتَ فَقَطْ؛ لَا نَرْثِي الرَّجُلَ فَقَطْ، بَلْ نُقِيمُ عَزَاءً فِي الْعَقْلِ الْعَرَبِيّ، فِي الْفِكْرَةِ الَّتِي أُعْدِمَتْ عَلَى عَتَبَاتِ الْعَدَالَةِ، فِي الْكَلِمَةِ الَّتِي ارْتُهِنَتْ بِالرَّصَاصِ، وَفِي الْحُلْمِ الَّذِي كُتِبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصْلَبَ كُلَّمَا نَطَقَ بِالْحَقِّ.
الْوَدَاعُ الْأَوَّلُ: حِينَ وَقَفَ وَحْدَهُ..
قَبْلَ أَنْ يُوَدِّعَهُ الْمَوْتُ، وَقَفَ نَاهِضٌ وَحْدَهُ فِي سَاحَةٍ لَا تَتَّسِعُ إِلَّا لِلْجُبَنَاءِ... وَقَفَ لِيُسَانِدَ الْإِنْسَانَ الَّذِي يُقْصَفُ، الْفَقِيرَ الَّذِي يُهَمَّشُ، وَالْعَقْلَ الَّذِي يُطَارَدُ.
لَمْ يَكُنْ نَبِيّاً، وَلَمْ يَدَّعِ الْبُطُولَةَ، لَكِنَّهُ كَانَ صَرِيحاً، أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْمُنَافِقُونَ.
أَعْدَاؤُهُ لَمْ يَكُونُوا الْمُتَطَرِّفِينَ الْمُلْتَحِينَ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَبِسُوا رَبْطَاتِ الْعُنْقِ فِي صَالُونَاتِ الثَّقَافَةِ، وَقَالُوا عَنِ اغْتِيَالِهِ: "لَقَدْ أَخْطَأَ التَّعْبِيرَ"... وَكَأَنَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي لَا تُعْجِبُهُمْ، تَسْتَحِقُّ أَنْ تُكَفَّرَ، ثُمَّ تُدْفَنَ مَعَ صَاحِبِهَا.
الْوَدَاعُ الثَّانِي: حِينَ كُتِبَ اسْمُهُ عَلَى الْجُدْرَانِ..
نَاهِضْ حَتَّرْ لَمْ يَكُنْ شَخْصَاً عَابِراً، بَلْ عَلَامَةً فَارِقَةً فِي الْجَدَلِ الْعَرَبِيّ، عَلَامَةً تَقُولُ: إِنَّ الْفِكْرَ لَا يُطْوَى بِالتَّخْوِيفِ، وَإنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تُـمْحَى بِالطَّلْقَةِ.
كَتَبَ عَلَى الْجُدْرَانِ قَبْلَ أَنْ يَكْتُبَ فِي الصُّحُفِ..
كَتَبَ: "الْهُوِيَّةُ لَيْسَتْ قَبِيلَةً، وَلَا طَائِفَةً، وَلَا لِحْيَةً، بَلْ مَوْقِفاً مِنَ الْعَالَمِ."
وَكَتَبَ: "الْمُثَقَّفُ لَا يُسَاوِي نَفْسَهُ بِالْقَاتِلِ تَحْتَ ذَرِيعَةِ الْحِيَادِ."
وَكَتَبَ: "الْعَقْلُ لَا يُخْتَصَرُ فِي الْفَتَاوَى، وَالضَّمِيرُ لا يُخْتَزَلُ فِي مَصَالِحِ الدَّوْلَةِ."
الْوَدَاعُ الثَّالِثُ: فِي صَوْتِ أُمِّهِ..
رُبَّمَا لَمْ يَسْمَعْ أَحَدٌ صَوْتَ أُمِّهِ بَعْدَ الِاغْتِيَالِ.. لَكِنَّهُ كَانَ، حَتْمَاً، أَنِيناً لَيْسَ كَكُلِّ الْأَنِينِ. فَأَنْ تَفْقِدَ أُمٌّ ابْنَهَا بِرَصَاصِ الْجَهْلِ، هُوَ أَنْ يُخْتَصَرَ التَّارِيخُ كُلُّهُ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ مكثَّفَةٍ مِنَ الْعَارِ.
هَلْ قَالَتْ لَهُ: "فِي أَمَانِ اللهِ يَا بُنَيَّ"؟ هَلْ حَضَنَتْهُ قَبْلَ أَنْ يُسَجَّى؟ هَلْ سَأَلَتْهُ لِمَاذَا لَمْ تَصْمُتْ كَمَا قَالُوا لَكَ؟
أَمْ أَنَّهَا كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ أَوْلَادَ الْحَقِيقَةِ لَا يَصْمِتُونَ، وَأَنَّ أَوْلَادَ الْحَقِيقَةِ، دَوْماً، يَمُوتُونَ مُبَكِّراً؟
الْوَدَاعُ الْأَخِيرُ: حِينَ نَكْتُبُ الْآنَ..
نَحْنُ، فِي هَذَا النَّصِّ، نَكْتُبُ وَدَاعاً مُؤَجَّلاً، نُحَاوِلُ أَنْ نُرَتِّبَ الْخَسَارَةَ عَلَى شَكْلِ جُمْلَةٍ مُفِيدَةٍ.
لَكِنْ كَيْفَ نُعَرِّفُ "الْغِيَابَ"؟
وَكَيْفَ نُعَرِّفُ "الْقَاتِلَ"؟
وَهَلِ الْقَتْلُ فِعْلُ لَحْظَةٍ، أَمْ سِلْسِلَةُ صَمْتٍ امْتَدَّتْ حَتَّى صَارَتْ رَصَاصَةً؟
نَكْتُبُ، لِأَنَّ الصَّمْتَ خِيَانَةٌ، وَلِأَنَّ الَّذِينَ مَاتُوا مِنْ أَجْلِ أَنْ نَحْيَا أَحْرَاراً، لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَنُوا فِي مَقَابِرِ النِّسْيَانِ.
تَرَاتِيلُ الْوَدَاعِ… لَيْسَتْ صَمْتًا..
تَرَاتِيلُ الْوَدَاعِ لَيْسَتْ بُكَاءً عَلَى حَجَرٍ، بَلْ صَلَاةً لِلَّذِينَ مَا زَالُوا يُقَاوِمُونَ التِّيهَ... لِلْكَلِمَةِ الَّتِي مَا زَالَتْ تُكْتَبُ رَغْمَ الرَّصَاصِ، وَلِلرُّوحِ الَّتِي تَقُولُ، حَتَّى بَعْدَ الْمَوْتِ:
"أَنَا لَمْ أَمُتْ، أَنَا فَقَطْ عَبَرْتُ إِلَى ضِفَّةٍ أُخْرَى مِنَ الْحَقِيقَةِ."
فِي الذِّكْرَى التَّاسِعَةِ.. نُشْعِلُ قَنَادِيلَ..
لَيْسَ وَدَاعاً يَا نَاهِضْ، بَلْ بَدَايَةً أُخْرَى.. نُشْعِلُ قِنْدِيلاً فِي زَاوِيَةِ الْعَقْلِ، وَنَتْرُكُ مَقَالَكَ الْأَخِيرَ مَفْتُوحاً، فَرُبَّمَا تُكْمِلُهُ الْأَجْيَالُ الَّتِي سَتَأْتِي،
بِلَا خَوْفٍ...
بِلَا قَيْدٍ...
بِلَا نَعْشٍ.