جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

ياسر قبيلات ▣
The story of my book about Putin..and consumed stereotypes..
لم يجد كتابي عن سيرة الرَّئيس الرُّوسي فلاديمير بوتين («ألغاز بوتين: قصَّة حياة وسيرة مهنة»، فرصةً للنَّشر إلَّا بعد أكثر مِنْ أربع سنوات على إنجازه. وذلك رغم أنَّه كان في حينه، وربَّما حتَّى اليوم، السِّيرة العربيَّة الوحيدة والأشمل لبوتين.. كان مثقَّفون وناشرون، يبدون استهانةً واستخفافاً بالرَّجل، كلَّما عرضتُ الكتابَ عليهم، ويقولون لي: «ومَنْ يهمُّه أن يقرأ شيئاً عن بوتين!؟». وبعضهم كان يُشفِق عليّ، فيقول: «مَنْ يكون بوتين لتشغل نفسك وقلمك به!؟».

وكانت هذه الآراء، تأتي دائماً، مسنودةً باستشهاداتٍ أميركيَّة سطحيَّة تحطُّ مِنْ شأن الرَّئيس الرُّوسيّ، وتصوِّره على أنَّه مجرَّد حالةٍ عصابيَّة هامشيَّة «مفهومة» لا تستحقُّ الاهتمامَ ولا تثيرُ الفضولَ. ولم يكن ينفع مع محاوريَّ، هؤلاء، أن أشير إلى أنَّ الغربيين، ومنهم الأميركيون، الَّذين يحاولون تصوير بوتين على هذا النَّحو، هم أنفسهم أنتجوا أُلوف الكتب والأفلام والدِّراسات والبحوث عنه، شخصيَّاً.

وهي كتب وأفلام ودراسات وبحوث صرفوا عليها الملايين، وعادت عليهم بأضعاف ما صرفوه عليها من الأموال.

كان هذا، بالطَّبع، موقفاً محبطاً.. خصوصاً بعد الجهد والوقت اللذين صرفتُهما على إنجاز الكتاب، إذ اقتضى ذلك منِّي قراءة مكتبة كاملة عن الرّجل. ولم يكن لديَّ مِنْ عزاء إلَّا جهود الصَّديق الكاتب والنَّاشر الرَّاحل، إلياس فركوح، الَّذي كان يهتمُّ بإيجاد سبيلٍ لنشر كلِّ ما أكتب، فراح يحاول إيجاد صيغةٍ لنشر الكتاب بالتَّعاون مع دور نشرٍ عربيَّة؛ لكن يبدو أنَّ «أبا غيث»، نفسَه، واجه ما واجهتُ أنا، فراح يواسيني قائلاً: «على أيّ حال، ليس هذا الكتاب الوحيد، الَّذي نفشل في نشره لك»!

والمفارقة، هنا، هي أنَّني كنتُ قد ألزمتُ نفسي بإنجاز هذا الكتاب لأنَّني كنتُ أصاب بالإرهاق لكثرة ما اضطررتُ في المناسبات والجلسات والأحاديث العامَّة للإجابة عن أسئلة لا تنتهي مِنْ أفرادٍ ينتمون إلى فئاتٍ وشرائح اجتماعيَّة وعمريَّة وثقافيَّة مختلفة تدور حول بوتين و«روسيا بوتين».

وفي النِّهاية، واجه الكتاب كلَّ ذلك الصُّدود بدعوى أنَّه لا أحدَ من القُرّاء الأردنيين والعرب يهتمّ بقراءة كتابٍ عن حياة بوتين (!).

على أيَّة حال، بعد نشر الكتاب (في العام 2018) وصدوره عن دار نشر «الآن ناشرون وموزِّعون» في عمَّان، استقبلتُ العديد من ردود الفعل الإيجابيَّة، والانفعالات القويَّة مِنْ أشخاصٍ زادوا في عددهم كثيراً على مَنْ أعرفهم أو يعرفوني، من الأردن وخارجه. وهذا إضافة إلى أنَّ الرَّئيس الرُّوسيَّ، نفسه، لم يتوقَّف عن إثارة أشدّ الانفعالات ومختلف صنوف العواطف، في العالم أجمع. وهذه الأيَّام، يزداد الاهتمام به، بالطَّبع، على نحوٍ غير مسبوق.

بالنَّتيجة وضعني، نشرُ الكتاب وصدورهُ، أمام اكتشافٍ مفاجئٍ يخالف كلَّ ما كنت اعتقده: «طبقة» القُرّاء موجودة، وهي مهتمَّة، ونشطة، وتمتلك قائمة اهتماماتٍ واسعةً وغير محدودة. والسَّبب الرَّئيس في أنَّني لم أشعر بوجودها هو أنَّ القرّاء على ما يبدو يعيشون ويقرأون خارج «المشهد الأدبيّ والإبداعيّ» الضَّيِّق.

إنهم يقرأون بنشاط، ولكن مع فقدان الرَّغبة في أن يكونوا جزءاً مِنْ مجتمع الكُتّاب والأدباء.

فهل هذا عائد إلى فضيلةٍ يتمتَّع بها القُرّاء فتقودهم إلى الانعزال مع دفَّتي الكتاب، أم مردّه إلى نقيصةٍ أو عجزٍ يمنع مجتمع الأدباء والكُتَّاب من التَّواصل مع قرائهم؟ وبالأساس، هل يتعلَّق الأمر «بنا» أم «بهم»، أم بمجتمعاتنا، الَّتي يحكمها طواويس فارغون يحسبون أنفسهم قمّة السِّياسة والكياسة، ولا يقبلون منافساً لحضورهم التَّعسفيّ الزَّائف في الحياة العامَّة والرُّوحيَّة، فيرفضون الاعتراف بأهمِّيَّة الكلمة والثَّقافة والقراءة وضرورة المعرفة؟!

هذا أمر يمكن أن يتحدَّث عنه آخرون، ممَّن يدخل هذا الموضوع ضمن اختصاصاتهم الثَّقافيّة أو الأكاديميّة.. أمَّا ما يثير اهتمامي هنا، فهو أمران:

- الأوَّل، هو أنَّ حالة التَّفارق بين الكاتب والقارئ، في بلادنا، تماثلها حالة تفارق أخرى بين الموضوعات الَّتي يهتمّ المجتمع حقّاً بقراءتها وبين تقديرات النُّخب المثقَّفة وصناعة النَّشر لما تعتقد أنَّ المجتمع يهتمّ بقراءته؛ فهؤلاء لديهم تصوَّرات مسبقة جامدة، لا تتجدَّد، عن اهتمامات القارئ. وبناء على ذلك، يقرِّرون أنَّه لا يهتمّ سوى بكتب «عذاب القبر» و«تفسير الأحلام» وما شابهها، مِنْ مثل المذكّرات المنافقة و«الخزعبلية» لبيل كلينتون وزوجته وغيرهما، أو الدّوسيهيات التَّعليميَّة، الَّتي توضع لابتزاز جيوب طلبة الجامعات والكُليِّات والمدارس ويُصار إلى ترويجها باعتبارها «منجزات أكاديميَّة».

- الثَّاني، هو أنَّ ظاهرة الإقبال على مواقع التَّواصل الاجتماعيّ تفصح، بشكلٍ واضح، عن تعطّش مجتمعنا إلى القراءة والمعرفة وإلى التَّعبير عن آرائه؛ وتفصح، كذلك، عن رغبته العميقة في التَّواصل مع أصحاب الرَّأي والمعرفة والمبدعين.

وهذه القناعة، الَّتي ترسَّختْ لديَّ، راحت تدفعني، بشكل متزايد، لحثِّ زملائنا الكُتّاب وكلّ مَنْ يملك رأياً يعبر عنه أو قصة يرويها على المزيد من الإنجاز، وأن يتخلَّصوا مِن التَّصوّرات المسبقة الخادعة عن «قارئٍ اندثر وأصبح من الماضي». والأهمّ هو أن يتحرَّروا مِنْ تلك التَّقديرات المضلِّلة حول محدوديَّة الموضوعات الَّتي يهتمّ بها القارئ في بلادنا، لينتقلوا إلى تقديم منجزاتٍ جديدة أصيلة، ويتجنَّبوا البقاء في خانة تلبية قائمة «ما يطلبه القُرّاء» مِنْ موضوعاتٍ نمطيَّة مستهلَكة.

وفي هذا الجانب، أسعدني أنَّني بتُّ، في الفترة الأخيرة، أتلقَّى كتباً جديدةً متنوِّعةً لزملاء كُتّاب وأدباء، وكذلك العديد من النّصوص الَّتي يرسلها أصدقاء وأشخاص لديهم قصصاً يرونها، أو آراء يعبرون عنها. ولهؤلاء الَّذين لن أتوقَّف عن حضِّهم على الكتابة، أقول: من السَّهل أن تستيقظوا في الصَّباح، فتروا أنَّ عالمنا مليء بالبشاعة والقبح؛ لكن تذكَّروا دائماً أنَّكم لن تستطيعوا النَّوم بسهولة، في الليل، إن كنتم في نهاركم المنصرم لم تفعلوا شيئاً في مواجهة هذه البشاعة! فلتحيا الكتابة!
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال