سعود قبيلات ▣
«كنَّا خمسةً نجلسُ في المقهى إلى طاولةٍ واحدةٍ ونتبادلُ حديثاً طويلاً وممتعاً. غير أنَّ أحدَنا، وكان محورَ الجلسةِ طوالَ الوقتِ، غفا فجأة.
ظننَّا أنَّها استراحةٌ بين شوطين من الحديث؛ فرحنا نتسلَّى بالنَّظر إلى بعضِنا البعض، أو إلى الآخرين مِنْ حولِنا، أو إلى رفيقِنا النَّائمِ نفسِه.
غير أنَّ نومتَه طالت أكثرَ ممَّا توقَّعنا؛ فرحنا نحاولُ إيقاظَه، ولكن مهما فعلنا لم ننجح. فأصابنا الهلعُ، وعندئذٍ رحنا نحاولُ متابعةَ حديثِنا الَّذي انقطع.. كأنَّ شيئاً لم يحدث، غير أنَّنا أيضاً لم ننجح؛ فرفيقُنا الَّذي غفا؛ رفيقُنا الَّذي كان مؤنساً جدّاً في ما مضى ولم يعد كذلك؛ يُصرُّ على البقاءِ بيننا!».
(قصَّة «عصابة» مِنْ كتابي كهفي الصَّادر في العام 2011)
مَدُّ اللسانِ..
رحل مؤنس الرَّزَّاز في الوقت الَّذي يُلائمه.. أي وهو لا يزال فتىً دائمَ الذّهولِ والتَّعجُّبِ ولا يكفّ عن مَدِّ لسانِه الصَّغيرِ في وجه العالمِ الكبيرِ..
وأتذكّرُ، بأسىً، جلساتِنا المتواترةَ في باحةِ مختبرِ هاشم غرايبة الطِّبِّيّ الَّذي كان يقعُ أسفلَ مستشفى لوزميلا في جبلِ اللويبدة، وكذلك في بيتِ مؤنس نفسِه قرب المنتزه في اللويبدة أيضاً، أو في بيت يوسف الحسبان في ضاحية الرَّشيد، أو في المقاهي.. «مقهى الأردن»، ثمّ «مقهى العاصمة»، ثمّ «مقهى عمّون».
كان الأعضاءُ الثَّابتون في تلك الجلساتِ خمسةً، هم: مؤنس نفسُه، وسميحة خريس، ويوسف الحسبان، وهاشم غرايبة، وصاحبُ هذه الكلمات.
سرعان ما أطلق مؤنس على هذه المجموعة اسمَ: «عصابة الوردة الدَّامية». ومِنْ وحيِ هذا الاسمِ، اشتقّ عنوانَ روايتِه «عصابة الوردة الدَّامية»، وجعل أعضاءَ «العصابة» شخصيَّاتٍ أدبيَّةٍ في الرِّواية، مشيراً إليهم بالحروفِ الأولى لأسمائهِم الحقيقيّة.
كان يشارك في هذه الجلسات أيضاً، بصورةٍ أقلِّ انتظاماً، كلٌّ مِنْ: محمد خروب، والدّكتور خالد الكركيّ، وصديقُنا الَّذي رحل مؤخَّراً أسامة شعشاعة، والدّكتور سليمان الأزرعيّ. وأحياناً، عبد الكريم الدّغمي.. خصوصاً عندما كنّا نلتقي عند يوسف الحسبان.
في مرحلةٍ أسبق، كنّا (مؤنس وناهض حتَّر وأنا)، نجلس مطوَّلاً، في بيتِ ناهض الَّذي كان بالقرب مِنْ مقرِّ رابطةِ الكُتّاب الأردنيين الأقدم في اللويبدة. وآنذاك، أعلن مؤنس عن تأسيسِ جمعيّةٍ للتَّنابلة، مِنَّا نحن الثَّلاثة، وانتخباني رئيساً للجمعيَّة، لكن، ما إنْ قرَّرتُ الزَّواجَ في العام 1986، حتَّى قالا إنَّني فقدتُ عضويَّتي فيها تلقائيّاً؛ فالإقدام على فعلٍ كبيرٍ، كهذا، يتعارضُ تماماً – كما قالا – مع أبسطِ شروطِ عضويّةِ الجمعيّة.
وذات مرَّة، قالت زليخة أبو ريشة إنَّها متحمِّسة جدّاً للانضمام إلى جمعيَّة التَّنابلة تلك. وعندئذٍ، قال لها مؤنس: أنتِ غير مؤهَّلة لذلك؛ لأنَّكِ متحمِّسة.
كان مؤنس يُعطي انطباعاً خادعاً بأنَّه كسولٌ جدّاً، وبأنَّه يمجِّد الكسلَ. وفي أواخر التِّسعينيَّات، قرأ رواية «أبلوموف» للأديب الرُّوسيّ إيفان غونتشاروف. وأبلوموف، بطلُ الرِّوايةِ، نموذجٌ نادرٌ للكسلِ، إلى حدِّ أنَّ اسمَه دخل اللغةَ الرّوسيَّةَ كمفردةٍ مرادفةٍ لكلمتي الخامل والكسول. وكان مؤنس – آنذاك – يظلّ يتحدَّث عن نوادرِ كسلِ أبلوموف بمرحٍ وإعجابٍ شديدين.
وفي الحقيقة، كان مؤنس يقوم، طوال الوقت، بنشاطٍ مكثَّفٍ هائلٍ.. حيث كتب الكثير من الرِّوايات المهمّة.. بأسلوبٍ حداثيٍّ مميَّزٍ ومتطوّر وبأفكارٍ عميقةٍ ورؤىً محلِّقةٍ، وكتب الكثيرَ الكثيرَ من المقالات، ورسمَ العديدَ من اللوحات. وذلك كلُّه، في زمنٍ قصيرٍ. وبعد رحيلِه، اكتشفنا أنَّه ترك وراءه كتابين مخطوطين.. هما كتابُ مذكّراتٍ، وكتابُ «اعترافاتٍ جُوّانيّة»، ولا يزال هذان الكتابان مخطوطين.
كتابُ «الاعترافاتِ الجُوَّانيّة» يمثِّل، برأيي، نوعاً مختلفاً في الأدب العربيّ، وسيثير عند نشرِه ضجّةً كبيرةً ويحظى بتقييمٍ عالٍ؛ فهو كتابٌ صادقٌ وشُجاعٌ وجريءٌ وعميقٌ.. مكتوبٌ بلغةٍ حارّةٍ محلِّقةٍ وبأسلوبٍ رفيعٍ مبتكر.
في أواخرِ حياتِه، قرأ مؤنس اعترافات الرَّاقص فاسلاف نيجينسكي، فأعجبته جدّاً، وراح يتحدَّث عنها كثيراً ويقول إنَّ الأدب العربيّ يخلو – مع الأسف! – مِنْ أدب الاعترافات.
وفي تلك المرحلةِ، كتبَ اعترافاتِه الجُوَّانيَّةَ.
وكان مؤنس، دائماً.. وحتَّى نهايةِ حياتِه، يلتقي بانتظام بمجموعاتٍ مختلفةٍ من المثقَّفين والأدباء والسِّياسيين، ويدير معهم حواراتٍ متنوِّعةً ومعمَّقةً. كما أنَّه كان يقرأ باستمرار في مجالاتٍ مختلفةٍ، ويتحدَّث عمَّا يقرأ لأصدقائه ومعارفِه، ويكتبُ عن ذلك.
وبالإضافة إلى هذا، فقد ترجم، من الإنجليزيَّة إلى العربيَّة، العديدَ من الكُتُبِ المهمّةِ. وكان سبَّاقاً في ترجمةِ بعضِها. وخصوصاً، ترجمَتَه، لروايةٍ جميلةٍ بعنوان «حُبّ عاملة النَّحل» لألكسندرا كولنتاي. فقبل تلك التَّرجمة، كُنَّا نعرف كولنتاي بوصفها ثائرة وقائدةً سوفييتيَّة؛ لكنَّنا كنّا نجهل كتابتَها الأدبيّةَ. وقد تطرَّقتُ في كتاباتي، مراراً، لترجمةِ مؤنس البديعةِ لتلك الرِّوايةِ الجميلةِ.
لقد كان مؤنس مثقَّفاً كبيراً.. مِنْ جيل الأدباء المثقَّفين والكتابة الأدبيّة المثقَّفة.
خللٌ فضِّيٌّ في عمَّان..
ظلال مؤنس اللطيفة الجميلة ممتدَّةٌ بقوَّة إلى جيل الشَّباب من الأدباء الأردنيين الَّذين لم يعرفوه عن قُرب. بعد سنين طويلة مِنْ رحيله، كتبتْ الشَّاعرةُ الشَّابَّةُ المتألِّقةُ، الدّكتورة مها العتوم، قصيدةً مؤثِّرةً عن فاجعة رحيلِه المفاجئ، بعنوان «خلل فِضِّيّ في عمَّان»، ومِنْ ضمن ما قالته فيها:
«خللٌ فِضيٌّ
لن يتكرَّر في عمَّانْ
خللٌ في لون الوردِ
وفي عدد النَّجماتِ
وفي لغةٍ تتقاسمُ حُلُمَ الطِّفلِ
وأوهامَ الفقراء المنبوذين..
العاديين
الخلل ازداد وضوحاً
وازداد قروحاً
فانتبه القدّيسُ الشَّيطانُ
وسقطتْ منه الوردةُ والنَّجماتُ
وسقطتْ فيه الوردةُ والنَّجماتُ
وسال.. كلاما
خللٌ فضِّيٌّ
في هدأةِ عمَّان
اخترق بإزميل الآثام العتمةَ،
سرق النَّارَ
وأشعل فيها الحرفْ
وانقسم إلى نصفين:
الأوَّل محتلٌّ بالوطنِ وبالأحلامْ
والثَّاني..
مختلٌّ بالوطنِ وبالأحلامْ
وظلَّ يقاوم نصفاً بالنِّصف الآخر
حتَّى أدركه التَّعبُ
فناما».
المشي بعد الموت..
قرأ مؤنس كتابي «بعد خراب الحافلة» وهو لا يزال مخطوطاً، فكتب عنه مقالين طويلين نشرهما في مجلَّة «أفكار» الَّتي كان يرأسُ تحريرَها. وأتوقَّف هنا عند تعليقِه، في أحدِهما، على قصّةٍ في الكتاب بعنوان «جثّة»، وتقول:
«مشى الرَّجلُ طويلاً، وبينما هو ينقلُ خطواتِه مات! غير أنَّه لم يفطن لموتِه، كما أنَّه لم يعرف كيف يأوي إلى قبرِه، وأخذتْ جثّتُهُ تتحلَّل، فلم يعرف ماذا يفعل بها، فحملها وواصل المشي. عندئذٍ، مات مرَّةً أخرى وأمعنَ في الموت بينما هو لا يزال يواصل المشي».
وكتب مؤنس معلِّقاً على هذه القصّة، فقال:
«ثمَّة مَنْ يموتُ ويواصلُ المشيَ ليكتشفَ ما بعد الموت! وثمَّة مَنْ يموتُ ولا يفطنُ لموته.. فيواصلُ المشي!
وثمَّة مَنْ يموت فتتحلّل جثّتُه، ولا يدري ولا يَشمُّ الرَّائحةَ، ولا يُحسُّها فيواصل المشي! لكن ثمَّة فئة مختلفة تماماً: يموت أفرادُها فيواصلون المشيَ، كي يُبعثوا مرَّةً أخرى.
يمشون نخبَ حياةٍ لا تسلِّم بالموت!
إنَّهم يموتون.. فيواصلون المشيَ تحدّياً لهذا الموتِ المعنويِّ: إنَّهم يقاومون.
على أنَّني أعرف أمواتاً في البحرِ الميّتِ يتهالكون على غنائمِ الدّنيا، مثلِ منصبٍ هنا أو جاهٍ هناك، أو شهوةٍ هنالك».
برقٌ خاطفٌ..
مأساةُ هذا الفتى الجميل، الَّذي كان يمدُّ لسانَه الصَّغيرَ باستمرار في وجهِ العالمِ الكبيرِ، هي أنَّ نفسَه كانت مغمومةً دائماً ومليئةً بالهمومِ.. همومِ نفسِه، وهمومِ شعبِه وبلدِه وأمّتِه والإنسانيّةِ كلِّها.
كان مؤنس كتلةً هائلةً من الأحاسيسِ المضغوطةِ؛ كان قنبلةً قابلةً للانفجارِ في أيِّ لحظة.. الانفجار في نفسِه طبعاً وليس في أيّ أحدٍ آخر. وإذا ما شعر بأنَّ انفجارَه في نفسِه قد مسَّ غيرَه.. حتَّى مجرَّد مسٍّ خفيفٍ (ولو مِنْ غيرِ قصدٍ)، فإنَّه ينفجرُ بنفسِه وفي نفسِه مرَّةً أخرى. الأمر الَّذي يُذكِّر ببعض شخصيَّات تشيخوف، القصصيّة والرِّوائيَّة، المفرطةِ في رهافة مشاعرها.
الأدباءُ والمبدعون، المرهفون على هذا النَّحو، حضورُهم خاطف.. يلمعون في سماءِ الحياةِ ويغيبون بسرعة، لكنَّ أثرَ بريقِهِم يبقى طويلاً في الأبصار والبصائر. وهم، عموماً، يعيشون حياتَهم بكلِّ كثافتِها ووهجِها، ويستهلكونَها دفعةً واحدةً.. وليس بالتَّقسيط.
لذلك، دُهشَ مؤنس جدّاً عندما بلغ الخمسين مِنْ عُمرِه. وكان يقول إنَّ أغلبَ الأدباءِ الأردنيّين ماتوا في خمسينيَّات أعمارهم أو أقلّ مِنْ ذلك، ذاكراً، في هذا المجال، عرارَ وتيسيرَ السبول وغالبَ هلسا.
الموعد الَّذي أخلفه مؤنس..
كان مؤنس يميِّزُ تماماً بين الحياةِ وبين مجرَّدِ العيشِ. وكان يُحبُّ الحياةَ جدّاً.. ولا يُحبُّ مجرَّد العيشِ أو «البقاء على قيد الحياة»..
وفي أواخرِ حياتِه، راح يتغزَّل بآلهةِ الموت الَّتي أسماها «إزرا»، ويقول إنَّه يُحسّ بأنَّ حياتَه ستنتهي في عامِها السَّابعِ والخمسين؛ ولكنَّه انسلّ مِنْ بيننا بغتة في عامِه الحادي والخمسين..
فجأة، تسارعتْ خطاه، وراح يهرول، ذاهلاً عن نفسه وعن سواه، ومتوهِّماً أنَّه يدوسُ آثارَ خطىً عجلى، إلى أن دخل في الضَّباب وغاب.. غاب جدّاً وأمعن في الغياب.. غاب أكثرَ ممّا يتصوّرُه عقل.. غاب عمَّن تركهم وراءه ليمضيَ كلٌّ منهم صوبَ غيابِه.. غاب عمَّن سبقوه إلى المصيرِ نفسِه.. غاب عن نفسِه.. غاب.. غاب.. غاب..
وعندما بدأت رحلةُ غيابِه، كتبتُ أُعاتبُه، قائلاً:
«لماذا فعلتَها والأرضُ تهيّئُ نفسَها لربيعٍ غامرٍ؟! فأنت تعرف بأنَّني لا أحبُّ رحيلَ الأحبّاءِ في الرَّبيعِ، كي لا تصبح الأزهارُ دموعاً كئيبةً في الجنازاتِ.
وأنت تعرف أيضاً بأنَّني لا أحبُّ رحيلَ الأحبّاءِ في الصَّيفِ كي لا تصبح مواسمُ الحصادِ ونضجِ الثِّمارِ، مواسمَ للتفجَّعِ والبكاء.
ولا أحبُّ رحيلَهم في الخريفِ حيث تكون الطَّبيعةُ مرهفةً، وأقلُّ نقرةٍ على أيّ وترٍ مِنْ أوتارها تثيرُ موجاتٍ هائلةً من الأسى والشَّجن.
ولا في الشِّتاءِ حيث تصخبُ الطَّبيعةُ وتثورُ مفجِّرةً كلَّ مكنوناتِ النَّفسِ البشريَّةِ المرهفة.
أخي مؤنس،
أما كان لك أنْ توجِّلَ رحيلكَ إلى موعدٍ آخر خارجِ كلِّ الفصولِ وكلِّ الأوقاتِ؟!».