جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

ياسر قبيلات 

room 309
محطَّة القطارات لكلود مونيه
ولدتُ حاملاً للحقائب. أعني أنني فتحت عينيّ على حمل الحقائب، والتنقل من فندق إلى فندق، مع حقيبة باليد، أسلمها هنا، واستلم سواها لأسلمها هناك. وأقدم ذكرى انطبعت في ذاكرتي كانت تتعلق، على وجه التحديد، بذلك؛ وكنا، أنا والرجل حامل الحقائب، نقيم في كل مكان من تلك الأمكنة، التي نقصدها، وقتاً غير محدد. أحياناً ساعات معدودة، وفي بعض المرات شهراً كاملاً. نترك هناك الحقيبة التي نحضرها معنا، وحينما نغادر تكون ثمة حقيبة ما، أخرى، مختلفة، ولكنها من النوع نفسه، بيمنى الرجل الذي كنت أرافقه، ويحرص على أن تكون يمناي معلقة بيسراه.


كانت ثمة حقيبة على الدوام بيمناه، وكنت دائماً أتعلق بيسراه.


كنا نتنقل بطرق ووسائل مختلفة؛ أحياناً نمضي إلى غايتنا سائرين مشياً على الأقدام. وفي أخرى نستقل عربة. وفي ثالثة نصعد إلى حافلة. في حين اقتضت الضرورة، في مرات أخرى، أن نسافر على متن قطار، أو نركب طائرة، أو مركب صيادين صغير، أو باخرة. وفي كل الأحوال، كان الأمر ينتهي بنا إلى فندق ما، وفي أحيان نادرة إلى بيت معزول يديره مدبرو منزل بالغو الصرامة.

وفي كل الأحوال، لا نختلط بأحد في طريقنا، ولا نحتك بمضيفينا.

أول ما نفعله لدى وصولنا الفندق المقصود، هو تسليم الحقيبة لموظفي الاستقبال، ثم استلام مفاتيح غرفة نقيم فيها ونبقى هناك، إلى أن نتلقى اتصالاً ما، يخبرنا أن بوسعنا التحرك؛ فننطلق على الفور، بغض النظر عن الوقت أو حالة الطقس؛ نتجه إلى بهو الفندق، نسلم مفاتيح الغرفة، ونتسلم حقيبة جديدة، تركها لنا أحد ما. حقيبة تشبه تلك التي كنا قد سلمناها.

في العادة، تكون ثمة ملاحظة في ظرفٍ مغلق مرفقة بالحقيبة، نفض الظرف، فنعرف وجهتنا التالية، فنمضي إليها، لنفعل ما فعلناه في المرة الأولى.

2

كبرت قليلاً، فعرفت أنَّ الرجل، حامل الحقيبة، هو أبي. وقد أمضى حياته، يتنقَّل من فندق إلى آخر، حاملاً بيمناه حقيبة، ويشد بيسراه صغيره: أنا.

طبعا، في يوم ما، تحولت أنا نفسي، ودون أن أعي، إلى «حامل حقائب».

حدث ذلك في يوم ماطر. كان طريق الحقائب قد أوصلنا إلى فندق سيِّئ السمعة. مكثنا فيه، كما في مثل غيره، أياماً هادئة. غير أن أبي توعك. انتابته حمى، وبقي طريح الفراش مدة ثلاثة أيام. وحينما تعافى، وتلقينا الاتصال، الذي يخطرنا أن بوسعنا التحرك، اختلفت الأمور.

مال عليّ أبي، وقال:

- اذهب أنت. أنا سأبقى هنا. لم أعد أقوَ على حمل الحقائب.

لم يكن ذلك أمراً بالحسبان، بالنسبة لي، فجمدت مكاني؛ فعاد يحثني على الذهاب.

قال:

- إمض في درب الحقائب، ولا تعد إليّ، إلا إذا قادتك درب الحقائب إلى هنا.

لم أعتد أن أخالفه، فأومأت برأسي موافقاً، فقال:

- تعرف ما عليك فعله.

أومأت مجدداً برأسي.

قال:

- إمضِ.

ومضيت.

ومنذ ذلك اليوم، تحولت إلى حامل حقائب؛ أحمل حقائباً لا أعرف ما فيها، وأوصلها إلى أشخاص لا أراهم، ولا أعرفهم. وكنت آمل دائماً، أن يقودني طريق الحقائب إلى ذلك الفندق، سيِّئ السمعة، الذي تركت فيه أبي. لذا، منذ ذلك اليوم، كلما وصلت مع حقيبة إلى فندق ما، أطلب الإقامة في الغرفة رقم «309»، نفس رقم الغرفة التي تركت فيها أبي، في ذلك الفندق.


3

ذات مرة، كنت أقطن في غرفة فندق تحمل ذات الرقم. الرقم الذي لا أنساه، ولا أحب تذكره. الرقم الذي يذكرني بنفسه، ولا يذكرني. الرقم الذي أنتظره، ولا ينتظرني..

كنت سلمت حقيبتي منذ أيام، وانتظر اتصالاً يخطرني بوصول الحقيبة التالية، لأواصل معها طريقي. وكان كل أملي أن تقودني تلك الحقيبة إلى ذلك الفندق، سيِّئ السمعة، الذي تركت فيه أبي.

كنت اعتدت الانتظار، ولم أعد أجد فيه ما يسيء. ولكن التفكير بأبي، كان يأخذني باتجاهات تفكير لم يذهب إليها والدي طوال قيامه بمهمته الوحيدة: حمل الحقائب.

لم يفكر، مثلاً، بما تحتويه الحقائب. وأنا كنت أفكر بذلك.

لم يشغل باله بهوية أصحابها، الذين ينقلها منهم، ومن ينقلها إليهم. في حين أنني لا أتوقف عن التفكير بذلك، لا ليلاً ولا نهاراً.

وكان راضياً بدوره، حاملاً للحقائب، ينقلها من مكان إلى مكان. ولا يفكر بالاستقرار، ولا ما يخسره جراء التنقل المستمر، إلى وجهات تحددها له حقائب الآخرين. وأنا أفكر بأنني أستحق الاستقرار في مكان أحبه. وعلى الأقل، لا أفتأ أفكر في هذه الحقائب، التي حرمتني من البقاء مع أبي، والتنعم برفقته. وأنني، ربما، أستحق أن يكون لدي شيء أرسله في حقيبة ما، مماثلة لهذه الحقائب، التي أحملها وحملها أبي قبلي.

هذا قادني إلى مسك القلم.

مسكت القلم، وكتبت أتخيل هوية أصحاب تلك الحقائب، من أنقلها منهم، ومن أنقلها إليهم، وأحاول أن أخمن ما تحتويه. وأعترف أن عقلي ذهب إلى أنَّها تحتوي أوراقاً متنوعة تروي قصصاً ما. قصصاً تسرد مفاصلاً ومحطات من حياة أشخاص مهمين بالنسبة لي، على نحو ما.

وهذا صنع مني كاتباً..

4

لم أنشر شيئاً مما كتبت. ولكني واظبت على الكتابة، وقمت بعملي حاملاً للحقائب على أكمل وجه ولم أتراخَ أو أتوانَ. ولم أحد يوماً عن التعليمات المشددة، التي تحكم مهمتي. ولكن مع ذلك، جاءني اتصال ذات يوم، بينما أنا في فندق، كنت أنتظر فيه حقيبتي التالية، وفوجئت بالاتصال يحمل لي صوتاً غير متوقع.

بدلاً من صوت عامل الاستقبال في الفندق، جاءني صوت أبي.

وبدلاً من أن أسمع عبارة «تستطيع التحرك»، التي تنبؤني بأن الحقيبة التالية جاهزة، وأن عليَّ أن أنطلق، فوجئت بأبي يقول لي:

- لقد انتهى الأمر يا بُنيَّ. أنت لن تحمل الحقائب بعد الآن.

لم أفهم إن كان ما قاله أمراً جيداً، أم أنَّه خبرٌ سيِّئ، فقلت:

- هل لم يعودوا يحتاجون إلى تناقل الحقائب؟

قال:

- بل لم يعودوا يحتاجون إليك. لقد انتهكت سرية الحقائب.

قلت:

- لم أفتح أية حقيبة، ولم أخبر أحداً عن مهمتي.

قال:

- ولكنك بتّ تتخيل ما تحتويه الحقائب، وتحاول تخمين من هم أصحابها. وتدون ذلك على الورق.

قلت:

- أحاول أن أكون كاتباً يا أبي!

قال:

- ذلك هو. الكاتب كاشف للأسرار. وهذا لا يروقهم.

قلت:

- إنني أبني كتابتي على خيالي، ولم أقترب من محتويات حقائبهم.

قال:

- هذا لا يهم. أنت تتحدث عنهم.

هكذا انتهت مهمتي حاملاً للحقائب. انتهت على غير توقع.

5

في البداية شعرت بالراحة. ولكن لم يطل بي الأمر كثيراً حتى شعرت بالإنزعاج الناجم عن الشعور بافتقاد عادات مهمتي، التي ألفتُها، وفتحت عيني عليها. وعشت محنة حقيقية حينما اكتشفت إن علي، أنا نفسي، أن أحدد: متى عليّ أن أغادر فندقي، وإلى أي فندق آخر أذهب. بينما البقاء، حيث أنا، أمر لم أعتده أبداً، والتنقل بدون حقيبة أمر لم أخبره من قبل.

لقد كانت هذه أشياء تقررها عني الحقائب وأصحابها؛ هم يستقبلون مني الحقائب، ويختارونها لي. والحقائب تحدد وجهتي التالية. وها أنا وحدي هنا، لا أدري ما أقرر، ولا ما أفعل.

قررت النزول إلى السوق. وفعلت.

اشتريت حقيبة بمواصفات الحقائب التي كنت أحملها في مهمتي، وعدت إلى فندقي، وجلست على طرف سريري أنظر إلى الحقيبة الفارغة، طويلاً.

انتهى الأمر بي أن قررت أنني كاتب. وأستحق، من حيث أنني كذلك، أن أكون مرسل حقائب، لا مجرد حامل لها. أي، أن أواصل كتابة ما دأبت على كتابته، فأضعه في حقيبة، ثم أرسلها إلى جهة ما.

لم أعرف كيف لي أن أحدد الجهة، التي أرسل الحقيبة إليها، علاوة على أنني كنت أريد للحقيبة أن تواصل التنقل من مكان إلى مكان، ولم يكن لدي حامل حقائب، بمواصفات أبي، أو بمستوى وفائي له..

لذا، قررت أن أكون مرسل الحقائب، وحاملها، في آن.

حسناً، ولكن من يكون مُستقبل الحقائب، وموظفو الاستقبال لم يعودوا يقبلون استلام أية حقيبة مني؟

فكرت في الأمر، وانتهيت إلى أنني سأكتب في فندقي هذا، الكلام الذي أريده، فأضعه في الحقيبة، وأعود إلى الفندق الذي كنت فيه قبلاً. الفندق الذي كنت فيه قبل أن أصل فندقي هذا. وأبقى قدر ما بقيت فيه، في المرة الأولى. وأكتب فيه شيئاً جديداً، أضعه في الحقيبة، وأترك ما كنت أودعته الحقيبة في الغرفة. ثم أتجه إلى الفندق الذي كنت فيه قبلاً، وأفعل الشيء نفسه. وأظل أفعل ذلك، تكراراً، إلى أن أصل الفندق سيِّئ السمعة، الذي تركت أبي فيه.

أليس ذلك جيداً، كفاية!؟

إنه طريق العودة. العودة، ربما، إلى أبي. العودة، ربما، إلى حياتي. ولكنها بالتأكيد ليست عودة إلى مهمتي الأولى، «حامل حقائب».

ببساطة لأنني صرت كاتباً..

بالطبع، مضى وقت قصير على تنفيذي مخططي هذا، حينما اكتشفت أن الكاتب في الحقيقة هو «حامل حقائب»، يحمل حقائباً لا يعرف من أين جاءت، ولا ما فيها، ويوصلها إلى أشخاص لا يراهم، ولا يعرفهم، ولا يعرف مقدار حاجتهم إليها، أو اهتمامهم بها، أو تأثيرها على حياتهم. ولا يعرف موقفهم منه.

لم يكن هذا بالاكتشاف السعيد، ولكنه كان اكتشافاً حقيقياً.

6

من غرفة فندق إلى غرفة آخر، تنقلت إياباً حسب مخطط انتقالي ذهاباً؛ وكنت أترك ما كتبت في غرفة الفندق السابق، وأنقل ما كتبت فيها إلى غرفة الفندق التالي. إلى أن وصلت في عودتي إلى الفندق سيِّئ السمعة، الذي تركت فيه أبي.

وقفت أمام موظف الاستقبال، وطلبت الإقامة في الغرفة «309»، فقال لي أنها مشغولة. أراحني ذلك، فطلبت الإقامة بأقرب غرفة إليها. حينها، عرض عليّ الغرفة المقابلة، ورقمها «308». ووافقت.

اتجهت إلى الأعلى وطرقت باب غرفة أبي، «309»، ولم يلبث الباب أن انفتح عن أبي. ولم يبدُ متفاجئاً بي.

قال:

- أدخل يا بني. لقد أكلتني الظنون بشأنك.

قلت:

- لقد عدت يا أبي.

قال:

- تأخرت.

قلت:

- طريق العودة طويل.

قال:

- بل تفكر كثيراً يا بني.

قلت:

- هذا ما تركته لي، وقت سعيي إلى جوارك، يا أبي.

قال:

- وما أنت فاعل؟

قلت:

- نعود أنا وأنت من حيث جئنا.

قال:

- أنت ذاهب إلى حياتك، وأنا ذاهب إلى حتفي. والعودة، التي تقترحها عليّ، تبعدني عن غايتي.

قلت:

- البداية تلزمنا، نحن الاثنين!

قال:

- هذه تلزمك لأنك مقبل على الحياة. وتعييني، لأنني بلغت غايتي.

قلت:

- تتركني أعود وحدي؟!

قال:

- يا بني، لقد أخذتك في طريق خطأ. كان طريقي، ولم يكن طريقك. وآن أن تعود إلى أول طريق الحقائب من جديد، لتصنع بداية صحيحة.

قلت:

- تذهب معي.

قال:

- ما كنت إلا أباً. لم أكن حامل حقائب قط، إلا بالنسبة لك. ولكن أنت كاتب، وحامل حقائب. وطريقك لا يوصلني إلى غايتي. وطريقي يأخذك إلى غير وجهتك.

خرجت من غرفة أبي، «309»، ولم أدخل غرفتي «308».

غادرت على الفور.

7

وأنا اليوم، أقطن غرفة تحمل، كالعادة، الرقم «309»، في فندق على طرف المدينة، يستقبل محبي العزلة والرياضات النخبوية.

لقد تركت أبي، مجدداً، في محطتي السابقة، في ذلك الفندق سيِّئ السمعة، وليس لدي شيء أفكر فيه سوى ذلك. وليس أمامي إلا أن أكتب حكايتي مع أبي والحقائب والطريق الذي قطعته ثم عدت فيه متجاوزاً أبي إلى أن وصلت إلى هنا.

هنا، أكتب هذه الكلمات، لأتركها في هذه الغرفة، ليجدها من لا أعرف. من لا يعرف من كتبها، ولماذا كتبها، ولماذا تركها وراءه.

حسناً، الآن سأضع القلم. وبعد دقائق، سأغلق باب الغرفة «309» ورائي، وأغادر. لا أعرف إلى أين، ولكني على يقين أن الكلمات، التي كتبتها وأكتبها، ستأخذني إلى مكان. إلى مكان ما، أنشده. أو قد يكون، لسوء الحظ أو حسنه، فندقاً سيِّئ السمعة، آخر.

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال