جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات.. قاصٌّ ينقلبُ على نصوصه بلا هوادة!

خَمْسُ[1] مجموعاتٍ قصصيّة أصدرها سعود قبيلات عبر تسعٍ وعشرين سنة. نُشرت الأُولى عام 1980 حين كان طالباً في الجامعة الأردنيّة، بينما نُشرت الأخيرتان عام 2009 وقد أصبحَ رئيساً لرابطة الكتّاب الأردنيين.

بين هذين التاريخين ثمّة تاريخٌ آخر ارتبطتُ خلاله بسعود قبيلات بغير آصرةٍ واحدة. أهي زمالةُ الكتابةِ للقصة القصيرة فقط؛ أم هي السِعَةُ التي كنا نتحلّى بها، كأشخاصٍ قد نختلفُ حول مسألةٍ أو أكثر، لكننا ارتضينا الحوارَ ليكونَ أرضاً نشتركُ في الوقوف فوقها وأن نتقاسمها مثلما نقتسمُ بالتساوي، من غير مفاضلة، عِشقَنا للبلَد؟ كُنّا نُعْلِنُ الخِلافَ عند نشوبه، ثم نُسْرِعُ لفتح الحوار من أجل أن نفهمَ بعضَنا، وإنْ لم نتفق في نهاية المطاف. فأن يفهمَ الواحدُ مِنّا الآخرَ يعني أنه يقبلُ باختلافه دون اعتباره مارقاً أو خارجاً على إجماع «القبيلة»؛ فواقعُ الحال أننا كُنا مجموعة «قبائل».. وما زِلنا، غير أنَّ "معاركنا" كانت تدركُ الخطوطَ الحمراء، فكانت أنظف! كما يعني، في مستوىً من العمق، أنه إنما يقتربُ من فهم نفسه أيضاً حين يتفهّم الرأي المقابل.

 أولسنا جميعاً مرايانا، ومرايانا هي نحنُ؟

إنَّ روح التقبُّل لدى سعود قبيلات على مستوى الاختلاف في القضايا الفكريّة والسياسيّة، بحسب اجتهادي، هي ذاتُها روح التقبُّل على صعيد المغايرة في ضروب الكتابة. وأكادَ أجزمُ بأنها الروح التي أخرجَت نصوصَه القصصيّة المتتابعة من حالة التكرار والمراوحة؛ تلك الحالة التي أصابت عدداً غير يسير من الكُتّاب. فكما كان متشككاً بالسائدِ على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، كان ناقداً لنصِّه السابق، غير مطمئنٍ لاكتماله، طامحاً لِلاحقٍ يتجددُ حقاً بالموازاة مع تجدد وعيه الفني، وكاتباً له بجدارة القصة القصيرة واستحقاقها الحق.

فبين قصص «في البدء.. ثم في البدء أيضاً» 1980، و«1986» و«الطيران على عصا مكنسة» 2009، هنالك فارقٌ صارخ. وفي الوسط بين هذين التاريخين هنالك نزوعٌ عارم باتجاه التجديد ـ ولِمَ لا أقولها مباشرةً هكذا: نزوعٌ عارمٌ باتجاه التجريب! نعم؛ إنه تجريبُ مَن خاضَ حريقَ الكتابة واكتوى بقلقها، ممزوجاً بحرمانه المشي في شوارع المدينة.

إذَن: إنه الانسجامُ الداخليّ لكاتبٍ يعي أنَّ حُريّة الكتابة تتلازمُ، بالضرورة، مع حُريّة الفرد بوصفه واحداً ضمن شرائح المجتمع.

فما دامَ سعود قبيلات لم يرضَ بالأسيجة المحيطة بحريّة تفكير وحركة الأفراد داخل مجتمعهم والتعبير عنها؛ فكيف يصيرُ له أن يرضى بأسيجةٍ تطوّقُ المساربَ الجديدة لكتابته وتحبسها داخل قصصه الأولى، وبالتالي كبتها في اهتياج روحه واحتياجها!

لقد مَثَّلَ سعود، عبر مجموعاته الخمس، خلال ما يقرب من ثلاثين سنة، إصراراً على كتابةِ قصة دائمة الانقلاب على نفسها، دون محو الركائز الأولى. فمن القصة المألوفة في نهاية السبعينيات، انتقلَ عام 1994 في مجموعة «مشي» للقصة القصيرة جداً، وأجادَ فيها لافتاً نظر النقد لها. ثم ما لبثَ أن غامرَ بعد ثمانيّة أعوام (2002) بتجريبه كتابةً قصصيّةً مخاتلةً هي أقرب إلى الانفتاح الروائي مضفوراً برحابة النصّ المفتوح، لمّا أصدرَ «بعد خراب الحافلة». وها هو، في مجموعتيه الأخيرتين، ينقلبُ من جديد ليكتبَ العاديَّ اليوميَّ في عمّان على وقع القراءات الغزيرة وشخصيات الكتب والتاريخ في «الطيران على عصا مكنسة»، فتخرجُ نصوصٌ من تلقاء هذا الامتزاج على نحوٍ يندرُ أن قرأنا مثيلاً لها في منجزنا القصصي.

أما مجموعة «1986»؛ فهي سردُ التفاصيل المتصلّة ببعضها كأنما لا شيء، في ظاهرها السطحي، ينبئ، «بانفراجٍ ما»، غير أننا سرعان ما نقعُ، قبلَ النهايات وعندها، على امتداداتٍ توسعُ من الفضاء القصصي من جهة، وتحفرُ في الشخصيات المتناوبة في الظهور من جهة أُخرى. كأنما هي متواليّة قصصيّة، على الأغلب.

وهذا، في ذاته، يشيرُ من جديد إلى أنَّ مبدأ الكتابة عند سعود يقومُ على خيانة القصة (قصته هو) لماضيها، والانقلاب على الإثنين معاً. وهي إنْ لم تفعل، إنما تكون قد خانت ذاتها بضربها لخاصيّة الحُريّة فيها. وكذلك: تكون قد فوتت خطوةً باتجاه مستقبلها، ولم تُخْلِص لأصالة الفنّان لدى صاحبها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] صدر للمؤلِّف بعد ذلك كتابان، هما: «كهفي»، في العام 2012؛ و«بيت قديم متعدِّد الطوابق.. نظرات نفسيّة أدبيّة»، في العام 2018.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال