جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣
استدعاء جلال الدين الروميّ في زمن كورونا

«اذهب، فقد جفَّ القلم
لا بدَّ مِنْ مهلة لكي يصير الدم حليباً نقيّاً.
الشعرة في العين تكون كالجبل العظيم
أيُّها الفم إنَّك فوهة الجحيم».

«الخفَّاش الحقير ليس عدوّاً للشمس، لكنَّه عدوّ نفسه، فإشراق
الشمس هو الذي يقتله».

«لقد حبست المعنى الحرّ الطليق، وبذلك جعلت الهواء أسيراً للحروف».

«لا بدَّ له من الصمت بعض الوقت حتَّى يتعلَّم الكلام».

«إنَّ هذه الأرض، وتلك السماء ـ على سعتهما ـ مزَّقتا
قلبي إرباً بضيقهما».

«إنَّ الدم ليتفجَّر مِنْ فمي مع الكلمات».

«لو أنَّني خطوت خطوة أخرى، فسوف أحترق».

«إنَّ القمامة هي التي تدع مكانها حين تعصف بها الريح».

«لا تفضح أمرنا، أيُّها السراج».
«ها أنا قد أعددت المائدة».

الاقتباسات في الأعلى، كلّها، مِنْ أشعار إمام الطريقة الصوفيّة المولويّة الشيخ جلال الدين الروميّ. وفي العقود الأخيرة، أثارت كتابات الروميّ وأشعاره اهتمام العالم كلّه، لما فيها مِنْ حسٍّ إنسانيّ مرهف، وأفكارٍ عميقة، وقيمٍ نبيلة.

وعموماً، الظاهرة الصوفيّة مِنْ أنبل الظواهر في تاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة؛ فهي قدَّمتْ كنوزاً عظيمة من الأعمال الأدبيّة والفكريّة والقيم الإنسانيّة. وقد كانت لأتباع الطرق الصوفيّة أدوارٌ أساسيّة في مراحل مختلفة من التاريخ العربيّ والإسلاميّ. ويكفي أن أشير هنا إلى أنَّ صلاح الدين الأيوبيّ كان صوفيّاً، والأمير عبد القادر الجزائريّ كان صوفيّاً أيضاً، وكذلك الشيخ عزّ الدين القسَّام، والشيخ عمر المختار. والصوفيّة موجودة في معظم البلاد العربيّة (خصوصاً بلاد الشام ومصر)، ويبلغ عدد المنتمين إلى طرقها في مصر وحدها أكثر مِنْ أربعة عشر مليوناً.

والشيخ جلال الدين الروميّ مِنْ أسطع إشراقات الصوفيّة وأكثرها ثراءً روحيّاً وفكريّاً وجماليّاً. وفي مثل هذه الظروف الصعبة، التي نعيشها الآن في زمن كورونا الكارثيّ، تحضر بقوّة الأفكار الإنسانيّة النبيلة التي عبَّر عنها الروميّ بلغة أدبيّة جميلة ومدهشة..

فمَنْ هو جلال الدين الروميّ؟ وما هي قصَّته؟
نشأ الروميّ وعاش في فترة تاريخيَّة حافلة بالحروب والاضطرابات؛ حيث كان الغزو المغوليّ يتقدَّم بثبات مِنْ شرق آسيا نحو مغاربها، ناشراً الرعب والدمار في كلّ المناطق التي يمرّ بها. وفي أقصى الغرب مِنْ آسيا، كانت الغزوات الصليبيَّة في مراحلها الأخيرة، وهي غزوات، بشهادة المؤرِّخين الغربيّين القدماء، لم تكن تقلّ في وحشيَّتها عن وحشيَّة الغزو المغوليّ.

اسمه الحقيقيّ جلال الدين محمَّد بن الحسين الخطيبيّ، وقد وُلِدَ في مدينة بلخ في 6 ربيع الأوَّل من العام 604ه (30 أيلول 1207م). وكان والده مدرِّساً وفقيهاً دينيّاً وواعظاً. أمَّا والدته فكانت من الأسرة الحاكمة آنذاك في خوارزمشاه.

وبعد حوالي أربع سنوات مِنْ مولده، وبالتحديد في العام 608ه، تركتْ أسرته خوارزمشاه، وتنقَّلتْ عبر البلاد الإسلاميَّة؛ حيث أقامت بعض الوقت في نيسابور، ثمَّ تابعت طريقها إلى بغداد، ثمَّ إلى مكَّة المكرَّمة، ثمَّ إلى ملطية، ثمَّ إلى لارندة، ثمَّ إلى قونية في الأناضول، حيث عاش جلال الدين هناك معظم حياته. ومن هنا جاء لقبه (الروميّ)، لأنَّ تلك البلاد كانت تسمَّى آنذاك بلاد الروم.

وتختلف الروايات في تفسير سبب رحيل أسرة جلال الدين الروميّ مِنْ خوارزمشاه؛ فبعضها يقول إنَّ والده اختلف مع حاكم خوارزمشاه، فرحل بأسرته. وبعضها يقول إنَّ الأسرة رحلت خوفاً من الغزو المغوليّ الزاحف. وما يعزِّز هذا الرأي الأخير – وإن كان لا ينفي الرأي الأوَّل – هو أنَّ المتتبِّع لأحوال الناس في تلك المرحلة يجد أنَّ العديد من الأسماء الأدبيَّة والفكريَّة المعروفة، قد فرَّت آنذاك بأُسَرها مِنْ تلك المناطق ومِنْ بلاد فارس باتِّجاه الأناضول خوفا من المغول.

على أيَّة حال، كانت قونية التي حلَّت أسرة الروميّ فيها، آنذاك، عاصمةً للملك السلجوقيّ علاء الدين كيقباد. وكان هذا الملك مهتمّاً بالفنون والآداب والعلوم، وقد عيَّن والد جلال الدين مدرِّساً في عددٍ مِنْ مدارس عاصمته.

وكان والد جلال الدين هو أستاذه الأوَّل إلى أنْ توفِّي في العام 628ه (1231م). كما أنَّه تتلمذ أيضاً في صباه على برهان الدين، محقِّق الترمذي وصديق والده والذي خلفه في منصبه في قونية عندما توفِّي. وبرهان الدين، مثله مثل أسرة جلال الدين، جاء إلى الأناضول هارباً من المغول.

وكان ذلك العصر هو أيضاً عصر الصوفيّ الشهير محيي الدين بن عربيّ، ورغب الروميّ بالتعمُّق في دراساته الصوفيَّة، فغادر قونية إلى دمشق، ولازم ابن عربيّ ودرس على يديه، إلى أنْ توفِّي (ابن عربي) في العام 638ه (1240م). وبعد ذاك عاد جلال الدين إلى قونية، وعمل في مهنة التدريس والوعظ؛ مهنة أبيه. ويقال بأنَّه كان محبوباً جدّاً مِنْ تلاميذه.

سار الحال على هذا المنوال، إلى أن وقع حادثٌ غريب قلب كلّ حياته. وأعني بذلك لقاءه بصديقه الحميم وأستاذه الأهمّ شمس الدين التبريزيّ، المعروف بشمس تبريز. امَّا كيف التقيا، فثمَّة في هذا المجال رواياتٌ متباينة. البعض منها يقول إنَّ درويشاً صوفيّاً (التبريزي) دخل على الرومي وهو يدرِّس تلاميذه، وكان آنذاك في السابعة والثلاثين مِنْ عمره، فما كان منه إلا أنْ ترك التلاميذ وأخذ الدرويش إلى بيته واستضافه هناك حوالي سنتين، كانا خلالهما لا يفترقان، وقد أصبحا صديقين حميمين. أمَّا ابن بطّوطة، الرحّالة الشهير، والذي زار قونية بعد حوالي ستين سنة مِنْ وفاة الروميّ، فيروي أنَّ درويشاً يبيع الحلوى على شكل قطع، دخل على الروميّ وهو يدرِّس تلاميذه، وأعطاه وحده (دون تلاميذه) قطعة منها، فما إنْ أكلها حتَّى ترك تلاميذه وتبع ذلك الدرويش.

المهمّ أنَّ الروميّ، رغم كلّ ما تلقَّاه مِنْ علوم الصوفيّة، عاد إلى التعلّم في هذا المجال على يدي أستاذه الجديد من البداية، وأخذ يتبع طريقة هذا الأستاذ وينظم الشعر باللغة الفارسيَّة ويمارس الطقوس الصوفيَّة. ويقال إنَّ تلاميذه ومريديه السابقين، الذين كانوا شديدي التعلُّق به، أكلت الغيرة قلوبهم، وحقدوا على شمس تبريز الذي كان في نظرهم مجرَّد دخيل أخذ منهم معلِّمهم المحبوب. وتحت وطأة عدائهم المتأجِّج له، غادر شمس الدين قونية فجأة ومِنْ دون إشعار، قاصداً دمشق. فحزن جلال الدين حزناً شديداً لفراق صديقه ومعلِّمه، وعبَّر عن مشاعره تلك في العديد من المقطوعات الشعريَّة المؤثِّرة.

وممَّا قاله في حزنه على فراق صديقه:
«مَنْ ذا الذي قال إنَّ شمس الروح الخالدة قد ماتت
ومَنْ الذي تجرّأ على القول بأنَّ شمس الأمل قد تولَّت
إنَّ هذا ليس إلا عدوّاً للشمس وقف تحت سقف
وربط كلتا عينيه ثمَّ صاح: ها هي ذي الشمس تموت».

ويقول أيضاً:
«ما أسعد تلك اللحظة حين نجلس في الإيوان أنا وأنت!
نبدو نقشين وصورتين ولكنَّا روح واحد أنا وأنت!
إنَّ لون البستان وشدو الطيور يهبان لنا ماء الحياة
في تلك اللحظة التي نذهب فيها إلى البستان أنا وأنت!
وتقبل نجوم الفلك رانية إلينا بأبصارها
فنجلو القمر نفسه على تلك الأفلاك أنا وأنت!
أنا وأنت مِنْ دون أنا وأنت نبلغ بالذوق غاية الاتِّحاد
فنسعد ونستريح مِنْ خرافات الفرقة إلى أنا وانت!
وسيأكل الحسد طيور الفلك ذات الألوان الباهرة
حين تشاهدنا نضحك جذلين على تلك الصورة أنا وأنت!»

وأيضاً:
«أنا ثمل بكأس العشق، والعالمان تجاوزا مدى إدراكي.
احتفالات الخمر والعربدة تشغلني عن كلّ شيء،
ولو غفلت لحظة مِنْ عمري دون أنْ أعيشها، لندمت عن حياتي منذ تلك اللحظة.
لو غنمت منها لحظة في هذه الدنيا،
لسحقت كلا العالمين، ولرقصت ابتهاجاً بهذا النصر العظيم.
 فيا شمس تبريز! أنا ثمل في هذا العالم،
وليس لي ما أقول سوى الثمالة والعربدة».

وعندما رأى ابنهُ سلطان الحالَ الصعب الذي آل إليه والده ذهب إلى دمشق ولم يعد منها إلا وشمس تبريز بصحبته.

بعد ذلك، تختلف الروايات في سبب اختفاء شمس تبريز الثاني والنهائي؛ فبعضها يقول ببساطة إنَّه توفِّي، ولكنّه لا يذكر شيئاً عن سبب وفاته وكيفيَّتها؛ وبعضها الآخر يقول إنَّ تلاميذ جلال الدين ومريديه عادوا إلى الغيرة على أستاذهم والكيد لصديقه الحميم وأذيَّته، فقرَّر هذا أن يختفي نهائيّاً. غير أنَّ هناك روايات أخرى تخالف هذا كلَّه، فتصل إلى حدّ اتِّهام التلاميذ بقتل شمس تبريز.

ومِنْ شدَّة ألمه لفراق صديقه راح جلال الدين يدور حول نفسه ويدور ويدور، وهو يبكي وينتحب، إلى أنْ يصل إلى حدّ الذهول. وراح ينظم الأشعار التي يعبِّر مِنْ خلالها عن ألمه لفراق صديقه الحميم؛ فكانت حصيلة ذلك ديوان شعر بالفارسيَّة بعنوان «ديوان شمس تبريز». كما أنَّه ألزم نفسه وأتباعه بلبس زيٍّ مكوَّنٍ من قلنسوة طويلة مصنوعة من اللبَّاد البنِّيّ وعباءة واسعة فوق ثوب أبيض فضفاض. وأصبح هذا زيّ الدراويش المولويَّة، وتحوَّل دوران الروميّ حول نفسه من الحزن إلى رقصة طقسيَّة يمارسها هو وتلاميذه؛ حيث يدور التلاميذ ويلتفّون حول رئيسهم، كما تدور الكواكب حول الشمس. وبالإضافة إلى هذا فقد أدخل جلال الدين الموسيقى، خصوصاً موسيقى الناي، ضمن طقوس طريقته، لتصاحب طقس الرقص المولويّ، فتعبِّر عن الحنين والشوق والشجن. وهذا بينما كانت الفرق الصوفيَّة الأخرى تحرِّم الموسيقى.


فما هو سرّ هذه الظاهرة؟
وما هي الخلفيّة التاريخيّة التي نشأتْ فيها؟
في وجودٍ عاصفٍ، مضطربٍ، مليءٍ بالاحتمالات الخطرة المرعبة، لا يستقرّ على حال، ولا سيطرة عليه لإنسان بأيّ حال، يضطرّ الإنسان أحياناً لأنْ يحتمي من المخاطر التي تهدِّده ومن رعبه الذي يؤرِّقه، بجدران ذاته، فينطوي فيها، ويُحكم إغلاق منافذها ومعابرها عليه، متوهِّماً أنَّه قد أصبح آمناً محصّناً وأنَّ العالم قد فقد تأثيره عليه.

ولكن مع أنَّ هذا السلوك قائم على الهروب من الواقع إلى الخيال، إلا أنَّه ليس بلا فائدة؛ إذ يتمكَّن الإنسان بمثل هذه الحيلة الدفاعيَّة من تجنُّب أنواعٍ أخرى من الوسائل الدفاعيَّة الأكثر تطرّفاً التي قد توصله إلى حدّ الغياب التامّ عن الواقع والطلاق الكامل مع قواعد الوعي والمنطق. أي الذهان.. بحسب المفاهيم النفسيّة.

وهناك دافعٌ آخر لمثل هذا السلوك الاستثنائيّ المختلف؛ فعندما يعجز الإنسان عن فهم ما يجري حوله، ويفشل في إيجاد الطريقة المناسبة للتفاعل معه، فإنَّ أحد ردود فعله المتوقَّعة هو البحث عن معرفةٍ بديلة داخله، واللجوء إلى مكوِّناته النفسيَّة لتغنيه عن الخارج وتحميه منه.. أو على الأقل لتحدّ مِنْ حجم اعتماده عليه ومِنْ درجة تفاعله الضروري معه.

وقد رأينا في العصر الحديث صوراً عديدة مِنْ مثل هذه الحيلة الدفاعيَّة، وخصوصاً عقب الحربين العالميَّتين؛ حيث انتشرت نزعة الانطواء في الذات وعليها بين شباب أوروبا (ومثقَّفيها على وجه الخصوص)؛ فظهر العديد من المدارس الفنيَّة التي تعبِّر عن هذا الاتِّجاه؛ مثل الدادائيّة والسرياليَّة والتجريديَّة.. الخ. ولاقت جميعهاً في اكتشافات فرويد المتعلِّقة باللاوعي الفرديّ، واكتشافات يونغ المتعلِّقة باللاوعي الجمعيّ، أرضاً خصبة لها.

أمَّا في الماضي البعيد، فقد كانت الصوفيَّة أحد الأشكال المهمَّة لهذا النوع مِنْ ردود الفعل المرهفة على الواقع الصعب. لذا، فمن السهل أن نجد مساحات مشتركة عديدة بين الصوفيَّة وبين المدارس الفنيَّة والأدبيَّة الحديثة المؤسَّسة على اكتشافات اللاوعي. بل إنَّ توظيف اللاوعي هو القاسم المشترك الأعظم بين هذه وتلك.. سوى أنَّ الصوفيَّة كانت تستفيد به بصورة غير واعية، في حين استفادت المدارس الإبداعيّة الحديثة به بعد اكتشافه وبعد توضيح طبيعته وآليَّاته ومفاهيمه.

وأنا هنا لا أعبِّر عن موقفٍ قيميّ (أو فنِّي) سلبيّ أو إيجابيّ من هذه الظاهرة الخاصَّة في التعبير الفنِّي. المهمّ بالنسبة لي هو نجاح الفنان، عن هذا الطريق أو سواه، في سبر الأغوار البعيدة لللاوعي (الفردي أو الجمعيّ)، وكشف أعمق الأفكار المتَّصلة بمعنى ومغزى وجود الإنسان، بجوانبه المتعدِّدة، وجدليَّة تفاعله مع محيطه بمختلف أشكاله.

وهنا أيضاً يجب أن لا نقع في مطب التصنيف المدرسيّ السطحيّ القائم على معيار الشكل الفنِّيّ وحده؛ فقد ينشغل فنّانٌ ما بوصف سطح الظاهرة الإنسانيَّة (أو الاجتماعيَّة) وعرض تفاصيلها الهامشيَّة بلغة عاديَّة خالية من البلاغة، بينما هو في الحقيقة يستخدم هذا الأسلوب «السهل الممتنع» ليتمكَّن بصورة مخاتلة من الغوص في أعمق مكنونات اللاوعي وتهيئتها للتفاعل مباشرة مع عناصر لاوعي المتلقِّي؛ في حين قد يلجأ فنّانٌ آخر إلى استخدام الرموز والصور واللغة المزخرفة والمفخَّمة.. لكنَّه لا يتعدَّى في كشفه (واكتشافاته) حدود الحقائق التفصيليَّة المتعلِّقة بقشرة الواقع الخارجيَّة وحدها، مِنْ دون أن يقترب مِنْ مخزون اللاوعي بمستوياته المختلفة.

أمَّا جلال الدين الروميّ، فتتَّسم مفرداته بالبساطة، لكنّها تعبِّر عن معانٍ عميقة حارّة ومرهفة، وتنتصر لقيمٍ نبيلة متقدّمة. ما يجعله سابقاً لعصره ومتجاوزاً لزمنه بزمنٍ طويل. وربّما كان هذا أحد أبرز أسباب مأساته.

يقول:
«ما العمل، يا مسلمين؟
فأنا لا أدرك ذاتي.
لستُ مسيحيّاً، ولا يهوديّاً، ولا كافراً، ولا مسلماً.
لم آتِ من الشرق، ولا من الغرب،
لا من البرّ ولا من البحر؛
لم تصنعني الطبيعة في مصانعها، ولا مدارات سماويَّة.
إنِّي لستُ من التراب، ولا من الماء، ولا من الهواء، ولا من النار،
لستُ من جنَّة الهند، ولا الصين، ولا بلغاريا، ولا ساقسين،
ولستُ من بلاد العراقين، ولا من خراسان.
أنا أصلاً لستُ من هذه الدنيا، ولا من الآخرة، ولا من الفردوس ولا من الجحيم.
لستُ من آدم، ولا من حواء،
لا مِنْ عدن، ولا مِنْ رضوان. فمكاني هو اللامكان، وآثاري لا تترك أيَّ أثر،
إنِّي لستُ مِنْ أيّ جسد، ولا مِنْ أيَّة روح، لأنِّي تابع لروح الحبيب.
طلَّقتُ الثنائيَّة، فأرى العالمين واحداً».

ويشعر بوطأة الغربة عن محيطة، فيقول:
«المرء مع مَنْ لا يفهمه مثل السجين».

ولأنَّه مرهفٌ جدّاً، ومتفاعلٌ بكلّ وجدانه مع المعاني الثريّة التي تعتمل في نفسه، فإنَّه يشعر بالعجز في التعبير عن أفكاره ومشاعره، رغم كلّ ما قاله وكتبه:
«لو كان المثنوي في حجم الفلك لما اتَّسع».

(«المثنويّ» هو أحد أبرز كُتُبه، وهو كتابٌ ضخم مكوّن مِنْ ستّة مجلَّدات).

والمظهر، عند الروميّ، لا يغني عن الجوهر، وهما مترابطان بعلاقة جدليّة، وليس بالإمكان مقاربتهما مقاربةً حقيقيّة إلا بفهمهما على هذا النحو:
«اِذهبْ، واسعَ وراء المعنى، يا عابد الصورة، إنَّ المعنى جناح لجسد الصورة». و«الصورة تقفز من المعنى كالأسد من الغابة».

وعندما تبلغ المستوى المطلوب من الاستعداد المعرفيّ، فـ «إنَّك حين تطرق باب المعنى يفتح لك».

والمعنى العميق لا يدركه العقل الضحل الكسول المستسلم للبداهة، بل العقل النقديّ المبنيّ على الشكّ وطرح الأسئلة:
«في اختلاف الحروف قلق وشك».. و«النطق إذا جاء فاضحاً للعيب، فإنَّ مِنْ شأنه أنْ يمزِّق حجب الغيب».

وعندها، يمكنك أنْ تقول:
«أنا السيف، أمَّا الضارب به فشمس الحقيقة».

وأمَّا بعد..

فتلفتُ النظرَ، في هذه القصَّة المأساويّة، تلك العواطف الجيَّاشة المتأجِّجة، وحِدَّة ردود فعل شخوصها؛ فتلاميذ جلال الدين يحبّونه ويغارون عليه بصورة متطرِّفة؛ وجلال الدين يحبّ أستاذه وصديقه شمس تبريز بصورة متطرِّفة أيضاً. وثمَّة اختفاءات وإشاعات وروايات متعدِّدة ذات طابع أسطوريّ؛ وكلَّها تتَّصل بحبّ التلاميذ لأستاذهم وحبّ الأستاذ لأستاذه.

وحتَّى لو افترضنا أنَّ هذه القصَّة مشحونة بالخيال الجامح والمبالغات الزائدة، فإنَّها لا تفقد أهمِّيَّتها ومغزاها؛ فهذا المستوى من الخيال والمبالغات يقول الكثير عن أحوال زمانه وملامح ثقافته والأحوال النفسيّة التي كانت سائدة فيه.

«لا تقل إنَّ هذا خيال وضلال، فليس في العالم خيال بدون حقيقة».

وهذا يذكِّرني بأجواء وبعض وقائع رواية «اسم الوردة» للكاتب الإيطاليّ إمبرتو إيكو؛ حيث تدور أحداثها في نفس المرحلة التاريخيَّة تقريباً، في دير مسيحيّ في إيطاليا. وفيها هي أيضاً الكثير من العواطف المتأجِّجة، والمؤامرات والمكائد التي تصل إلى حدّ القتل.. الخ.

فهل يمكن لعواطف الناس وأفكارهم وسلوكاتهم أنْ لا تكون كذلك في المراحل التاريخيَّة العاصفة؟
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال